إنّ الرجل الأسود إنسان حيّ متفتح الحواس، لا يقبل الوساطة بين الذات والموضوع، لكنّه يقبل كل شيء أنغاما وروائح وإيقاعات وأشكالا وألوانا، إنّه يُحس الأشياء أكثر مما يراها” يتعرّض الإنسان الإفريقي خاصة العديد من قبائل وسط إفريقيا التي تبدأ من ساحل المحيط الأطلسي على الحدود الجنوبية لنيجيريا إلى قبائل أثيوبيا شرقا – إلى تغييرات جسدية كالختان أواستئصال بعض أعضائه الجسدية أوتشريط جسمه أواستئصال بعض الأسنان أوحتى كلّها وهي في حدّ ذاتها علامة من علامات الصبر والشجاعة إلى جانب دلالاتها الطوطمية.
وأغلب القبائل الإفريقية وخاصة البدائية منها منغلقة على نفسها يتحدّى أفرادها قسوة الطبيعة يعيشون في الغابات، يجاورون الحيوانات الضارية ولهم طقوسهم الخاصة حين يفرحون وحين يحزنون.
ممارسة الطقوس القبلية تتضمن عديدا من المعاني، فهي تُشكّل وتنظّم وتقنّن حياة أفراد القبيلة. إلاّ أنّ امتداد العالم الغربي قد أثّر نوعا ما على هذه الطقوس والممارسات وخاصة الدور الذي لعبه المجتمع الغربي في مجال التجارة البشرية (تجارة الرق) التي ساهمت في تهجير مجتمعات بأكملها وتسببت في حروب حطّمت العلاقات التي كانت قائمة بين أفراد المجتمع وخلخلت النظام القبلي بما كان يفرضه من علاقات بين أفراده “ فالنظرة الأبوية لشيخ القبيلة وماله من مهابة ومكانة ومبادىء التكافل الاجتماعي والتضامن لمواجهة الكوارث التي كانت تحل بالفرد والقبيلة، انهارت كلّها وأصبح كل فرد (الآن) ينظر نظرة الريبة والشك لمن حوله” لكن بالرغم من تدهور النظام القبلي إلاّ أنّه مازالت عديد من القبائل الإفريقية التي تشبثت بموروثها وتقاليدها وطقوسها.
ومن التقاليد التي شدّت انتباه جل المستكشفين الغربيين في القرنين السابع والثامن عشر ميلادي هي تلك العلامات والرموز والنقوش التّي توجد على جلود الزنوج في إفريقيا. ولئن كانت هذه النقوش غريبة وبشعة، في نظرنا، أحيانا إلاّ أنها تمثّل ثقافة كاملة لمفهوم القبلية في إفريقيا.
إنّ الإنسان البدائي في إفريقيا قد حوّل عدّة معايير وقوانين سنّها وسلوكيات خاصة إلى قيود، بمعنى أنه قد أجبر نفسه وغيره على الالتزام بما تحدّده هذه المعايير وهذه السلوكيات. معنى ذلك أنّ ما يؤديه الناس على أنّه السلوك المعتاد أوالمتوسط، يتحوّل في هذه الحالة ليصبح ما يجب أن يؤدى. من ضمن السلوكيات والمعايير التي أصبحت واجبا وجب اتّباعه في قبائل وسط إفريقيا هي عملية الوشم أو بالأحرى عمليات التشريح الجسدي أوالتشطيب الجسدي التي أصبحت واجبا وعرفا يجب على كل فرد ينتمي إلى القبيلة أن يقوم به وخلافا لذلك يفقد انتماءه إلى المجتمع القبلي .
عملية الوشم لدى قبائل وسط إفريقيا عملية أقّل ما يمكن القول عنها إنّها مرعبة ومخيفة ومؤلمة عند ممارستها، لكنّها بالنسبة لسكان القبائل تلك، فإنّها عملية ترتبط بالأساس بثقافة القبيلة وبديانتها فطريقة عيشهم القاسية والبدائية عوّدتهم على تحمّل الآلام مهما كانت طبيعتها.
معظم القبائل الإفريقية البدائية تعيش وسط الأدغال والغابات الكثيفة وتتعايش مع أصناف عديدة من الحيوانات البرية الوحشية التّي يقومون باصطياد أنواع منها للاستفادة من لحومها وجلودها. فيتعرّض أفراد القبائل بسبب الصيد إلى العديد من الحوادث المتفاوتة الخطورة تتسبب في الموت أحيانا أوفي فقدان بعض الأعضاء أوفي جروح وندوب مما دفعهم إلى البحث واستنباط عقاقير وأدوية بدائية ساهمت بدورها في تعميق تلك الجروح وحولتها إلى آثار وندوب وعلامات على الجلود لا يمكن محوها أوإزالتها، بل أصبحت تمثل تشوّهات في أجسادهم وجلودهم ممّا حثّ البعض منهم إلى البحث عن وسائل وطرق أخرى لستر تلك العيوب والتشوّهات فالتجأ البعض إلى إدخال أشياء غربية على جلودهم بغية تجميل تلك الجروح والندوب وخاصّة تلك الظّاهرة منها للعيان.
- من الأسئلة الملحة علينا: هل يمكن اعتبار تلك النقوش والعلامات على سطح الجلد وشما؟
- وإذا ما سلمنا بكونها لا تخلو من معايير فنيّة فبأي معايير جماليّة يمكننا التعامل معها؟
- كيف تتحوّل الآلام أثناء عمليّة اختراق الجلد إلى حالة نشوة ولذّة؟
- إلى أي مدى يتحوّل الوشم إلى عمليّة سحريّة دينية عقائديّة ؟
- وهل يمكن أن نعتبر الوشم لدى قبائل إفريقيا الوسطى لغة تواصليّة؟
1 - الجسد علامة ورمز
إن الجسد على حدّ تعبير مرلوبونتي هو“موطن ظهور للتعبير كما أن كلّ استعمال للجسد هو تعبير أصلي وأولي، هذا التعبير هو الذي يجعل الذّات تخرج من ذاتهاوتتصل بالذوات الأخرى عن طريق العلامات والرموز”
فالجسد يعتبر من أهم مكونات الإنسان، إذ بواسطته يتّم التعرّف على الفرد وعلى شخصيته وأفكاره وميوله وأحاسيسه وعواطفه التّي تظهر على الجسد بعدّة أنواع وأشكال كطريقة اللباس واختيار اللون وطرق الوقوف والجلوس والمشي والنوم فالجسد أضحى وسيلة للتعبير بين الأفراد والجماعات فالرقص على سبيل المثال هو من الطرق والوسائل التي يلتجئ إليها الإنسان للتعبير عن حالته النفسية الداخلية. ولقد وقف الإنسان من جسده موقفا مزدوجا إذ هو يعتبره من جهة موضوع خجل وعار وبالتالي ينبغي ستره بالثياب وحجبه فينظّفه ويطهره ويعالجه ويعرضه بأبهى الحلل والزينة. ومن جهة ثانية يعتبره مرآة تعكس شخصيته الذاتية. فالإنسان منذ القدم يحاول أن يقدّم جسده إلى الآخر في أبهى صورة يرتضيها هو أوّلا ويرتاح لها نفسيا. واللباس الطبيعي للإنسان هو جلده، هذا الجلد الذي تختلف طبيعته حسب الأوساط، فنجده في ألوان عديدة كالبشرة البيضاء، والبشرة السوداء، والبشرة السمراء وحتى البشرة الحمراء. ويقال إنّ المرء يحس بالخير أوالشر في جلده. إذن ترمز الجلود لكل الكائن البشري ويقول بول فاليري:” أكثر ما يوجد عمقا في الإنسان هو جلده” ولقد أجبر الإنسان منذ القدم على حماية جلده من البرد بارتداء الملابس، فبرودة المناخ دفعت بالإنسان منذ القدم إلى تغطية جسده بفراء الحيوانات التي كان يصطادها.
يستعمل الإنسان البدائي فراء الحيوانات وجلودها للتنكّر إمّا من أجل تقليد الحيوان الطوطمي للقبيلة، أومن أجل الحصول على صفات الحيوان الذي أتى منه الجلد أولمخادعة أو إرعاب العدو، سواء أكان هذا العدو حيوانا أم إنسانا. كما أنّ هذا التنكّر يظهر أحيانا وخاصة لدى القبائل البدائية، في تلك العلامات والرموز التي قد تنقش أو تخدش أوتكوى أوتوشم على سطوح جلودهم. هذه العلامات والرموز تمثّل في مجملها الوشم وعلى الرغم من انتقاله بين العصور القديمة مرورا بالوسطى إلى الحديثة، فقد عُرف الوشم كفن ورمز لكثير من المفاهيم واستخدم للعديد من الأغراض ذات المعاني عند الشعوب. على الرغم من أن الوشم ليس حكرا على بلد أوحضارة دون غيرها إلا أنه يبقى مرتبطا بشكل أو بآخر بثقافة المجتمع الخاصة به. فقد ارتبط الوشم في البدء بالديانات القديمة التي اعتبرته رمزا لديانتها وآلهتها كما عُرف كوسيلة لمحاربة الشيطان والقضاء على السحر الأسود. أما في القبائل الإفريقية فقد كان الوشم الطريقة الوحيدة للتمييز بين أفراد قبائلها. والوشم في قبائل إفريقيا الوسطى خاصة ، يتخّذ منحى آخر واتجاها معاكسا، فيتناقض مع المفهوم المعتاد للوشم . فالوشم الذي يستعمله أفراد قبائل إفريقيا الوسطى ليس وشما بالمعنى المتعارف عليه لدى القبائل العربية أو لدى الغرب اليوم بقدر ماهو إحداث علامات ورموز في الجسد.
2 - مفهوم الوشم عموما:
يُعدّ الوشم ظاهرة قديمة في المجتمعات البشرية فقد عرف منذ قديم الزمان في مصر، حيث وُجد على بعض الموميات المصرية كما استخدمه المصريون القدماء كعلاج ظنّا منهم أنّه يبعد الحسد فيما اتخذته بعض الشعوب كقربان لفداء النفس أمام الآلهة. كما كان الوشم تعويذة ضدّ الأرواح الشريرة ووقاية من أضرار السحر فقد عُثِرَ على جثث تعود إلى العصر الحجري الحديث والتي تثبت الممارسات القديمة للوشم. كما استخدم الوشم لتحديد الانتماء القبلي وتمييز مجموعة بشرية معينة عن غيرها. ويتضمن الوشم استعمال أدوات حادة ومواد كيميائية ملونة يتّم إدخالها إلى الطبقة الجلدية العميقة ممّا يضمن بقاءها الطويل.
ولقد “ كان الوشم في فجر التاريخ ذا طابع بدائي قبلي، حيث كانت القبائل تتخذّ من بعض الحيوانات حاميا وصديقا وأمانا لها، فتجعل من رأسه “طوطما” تحتفل به، وتصنعه شارة على بيوتها أوسيوفها أووشما على صدور رجالها. ويظّل هذا الحيوان رمزا محترما لدى هذه الشعوب وأجيالها”
ولقد ورد في لسان العرب المحيط: الوسوم والوشوم هي العلامات. والوشم ما تجعله المرأة على ذراعها بالإبرة ثمّ تحشوه بالنُّؤُور “دخان الشمع” والجمع وُشوم ووشام ووشم اليد وشما غرزها بإبرة ثمّ ذرّ عليها النؤور (النَّيْلج) والأشم أيضا الوشم واستوشمه: سأله أن يشِمَهُ واستوشمت المرأة أرادت الوشم أو طلبته.
عملية الوشم في قبائل وسط إفريقيا عملية دقيقة جدّا ولها قواعدها وأسسها وطقوسها والوشم هنا أقرب إلى شق وشرط الجلد واختراقه وتشطيبه scarification وهو وسم أقرب منه إلى الوشم فالوسم هو تلك الإشارات والعلامات التي توُضع على الحيوان بواسطة الكيْ، وهو أيضا تشطيب للجسد وهو كذلك خدش إذ هو ممارسة شائعة لدى القبائل الإفريقية لإحداث شقوق سطحية في الجلد. والخدش حلّ محلّ الوشم . ولقد ارْتَأيْتُ في دراستي لمفهوم الوشم في قبائل وسط إفريقيا أن أُسْتعمِل مصطلح “ خدش” لأنّه الأقرب تناسبا في دراستي لهذا الموضوع .
3 - مفهوم الخدش:
الخدش بمعناه الاجتماعي لدى قبائل أفريقيا الوسطى هو طقس العبور من الطفولة إلى الرشد والانتماء إلى جماعة.
هذه الممارسات محورها إخراج الدّم من الجسد فأفراد القبيلة يشعرون براحة روحية حينما يشاهدون الدماء، والدم منذ القدم هو رمز الروح وهو أيضا رمز للطاقة الحيوية، هذه الطاقة التّي يكتسبها البعض حينما يشربون دماء الأضاحي التي يقدمونها أثناء طقوسهم الاحتفالية كما في قبيلة الماسايْ الموجودة في مدينة “موروغورو” في الوسط التنزاني وهي من أشهر القبائل الإفريقية والأكثر محافظة على تقاليدها فهم يعيشون على اللبن والدم الذي يحصلون عليه من رقاب الأبقار الحيّة التي يقومون بتربيتها، وهذا الغذاء جعل الماساي معروفين بالقوة وفي طقوسهم الاحتفالية يتولى شباب قبيلة الماساي بتجهيز الوليمة.وهي بقرة تُنحر فيتداولون على شرب دمها وبعد ذلك تُشوى ثمّ يجتمع الرجال تحت شجرة ويتناولون الوليمة .
الدم أيضا له صفة العهد الذي لا يجب نقضه وهذا نجده في قبيلة “الأزاندي” التّي تقع في قلب إفريقيا وتمتد على رقعة ثلاثة أقاليم سياسية هي جمهورية السودان وجمهورية الكونغو الديمقراطية وجمهورية إفريقيا الوسطى. فإذا اتفق شخصان من “الأزاندي” على أن يتعاهدا على الصداقة بينهما عن طريق الدم، ينتزع كلّ واحد منهما سكّينه يجرح به صاحبه في بطنه، فوق الصرّة لانّ الروح قريبة من هذا المكان لذلك فإنّ عقاب الدمّ حينئذ يكون أقسى على الخائن منهما و“دور حدّ السكّين هو مهاجمة الروح الشريرة والتطهير منها و الدم الذي يخرج من الجسم هو عبارة عن طرد للروح الشريرة” .
وعند سيلان الدم من بطنيهما يُحْضرَانٍ قَرْنًا من الفول السوداني يحتوي على حبتين، وهو نوع يسمونه «Abawawa» ثمّ يقومان باستخراج الحبتين وتُقسمان لتكونا أربعة فصوص.» ثمّ يغمس كل واحد منهما هذين الفصين جيدا في دم صديقه، ويعود فيغمسهما في ملح يصنعونه محليا من رماد بعض الأشجار ثمّ يأكلانهما»ويجب أن لا يقربا النساء حتّى يبرأ جُرحهُما.وينامان في هذه القترة على الأرض مفترشين أوراق شجر الدّامَا«Dama».تترك الجروح بعد التئامها آثارا وندوبا وعلامات تُشكّل في مُجملها الوُشوم أوالوُسوم أوالخدش والتي تُرمز إلى الوفاء والإخلاص والشجاعة. هناك نوع آخر من الخدش يُعرَف عند «الأزاندي» وهو«الفصد» يقولون عنه «آزى» Azee وكانوا يستعملون إبرة طويلة من الحديد تُسمّى «مبيريكي» Mbereke، وسكّين «سابي» Sape فيقومون بإدخال الإبرة تحت الجلد ليرتفع عن مستواه فيُقطع حينئذ بالسكّين وكان الذي يقوم بعملية الفصد هذه يمسك السكّين باليد اليُمنى والإبرة باليد اليُسرى. ولم يقتصر الفصد على الرجال بل كانت تفعله حتّى للنساء، ويقمن به دون أن يتضمن أي مراسم طقوسية وكان الفصد التقليدي عند «الأزاندي» يكون في الظهر والبطن، والفصد على الظهر من كلتا ناحيتي السلسلة الفقرية ثمّ ينحنيان عند الخاصرتين حتّى يلتقيا عند الصرّة في صورة خطين من الناحية اليمنى وخطين من الناحية اليسرى وهناك شكل آخر يكون على البطن، وهو عبارة عن خطوط رأسيةزوجية على جانبي الصرة، أوفوقها أوتحتها. ووظيفتها ترتبط بفكرة مراسم النار عند الموت .
4 - دوافع الخدش في قبائل وسط إفريقيا.
أ - دوافع جمالية و اجتماعية:
“ التزيين هو تخط وسبق للجمال القائم في الطبيعة وابتداع لصور أخرى منه، وقد بدأ الإنسان يُمارس التزيين على ذاته المادية، التي لم يكن يملك سواها فعكف عليها فصدا ووشما وكيّا، فنقش بدنه بأشكال هندسية ورمزية مختلفة، حتّى إذا بدأ ينفصل عن ذاته ويضيف إليها عناصر خارجية بدأ يتجه إلى تزيينها هي كذلك، فاحتفل بملابسه وحليّه” .
عملية الخدش والتزيين هي عملية مدلولها بالأساس فنّي جمالي. والأشياء التي تُزين أفراد القبيلة الإفريقية من قلائد وأساور وأقراط وغيرها هي حمائلٌ ويُقصد بالحمائل «كل ما يُحمل أويُعلّق أويُوضع على شيء لحمايته»
أولدفع جميع أنواع الأذى عنه، أومنحه القوّة والخصب والبركة. وليست للحمائل حدود أو أوصاف، فقد تكون حجرا، وقد تكون نباتا، وقد تكون معدنا” والحمائل التي تُزين أجساد أفراد القبيلة مصنوعة غالبا من مواد طبيعية كمخالب الحيوانات الكاسرة وأنيابها فالنساء يتحلين بعقود من أسنان الخنازير والمحار والعظم والعاج.
وهذا ما نجده خاصة في قبيلة “ الأزاندي” فأفرادها يحملون الحلّيَ من الحديد والنحاس ومن أعواد الأشجار ففي “ الأزاندي” تلف المرأة على ساعدها أساور من النحاس، وتثقب الأذن والأنف وتضع فيها عودا من الخشب أوحصى أو قطعة من الحديد .
أمّا في قبيلة “المانغبيتو” التابعة لأثيوبيا والتي تحتل الحوض الأعلى من نهر “ويلي” و قد أتوْا من الجنوب الغربي من منطقة بحيرة ألبرت Albert فإنّ الأناقة النسائية كانت متطورة إلى أبعد الحدود فتسريحة الشعر على سبيل المثال تأتي على شكل جدائل ملفوفة بطريقة مغزلية وتعتمد على دعامة من قصبات دقيقة تجعل الرأس يأخذ منحى طُوليا وإضافة إلى الطول الذي يعطى له منذ الصغر، فإنّ الأمهات يَقمن بالضغط على عظام الجمجمة الصغيرة من جميع الجوانب حتّى تُصبح الجمجمة طويلة نوعا ما، كما أنّ الزينة تظهر جليّا عند «الحسان من قبيلة «بودْنو» كانت شعورهن مجدولة بعناية تُزينها قطع من النحاس أوالفضة وفي آذانهن أقراط من الصدف أوالعنبر...ووُجوهُهُنّ تعلُوها أحيانا دهون للزينة»
شلخ الوجه في السودان كذلك هو من مقومات الزينة عند تلك الشعوب والشلخ من الوسمات التّي تميّز القبائل عن بعضها البعض، والشلخ هو عملية إحداث ندوب وتشطيب وخدش في الوجه بصورة مميّزة. وللشلوخ أشكال وألوان ولكل قبيلة شلخها. وهيئة هذه الندوب تختلف من مجموعة قبلية إلى أخرى وهي سمة مُهمة تُميّز العرق العربي عن سواه من الأعراق السودانية المتنوعة كالزنوج والنوبيين لكّن العرب يستعملون ألفاظا أخرى للدلالة على عمليات شبيهة بالشلوخ كاللُّعُوطِ والمْشالي والفصد والوَسْمُ والوشم .
وتنفرد قبيلة “الشايقيّة” بشلخٍ أوخدْشٍ خاص بها وهو عبارة عن ثلاثة خطوط أفقية متوازية يمتد أوسطها من عند الفم حتّى أقصى الخدّ.
وتختلف هيئة هذه الندوب من قبيلة إلى أخرى وهي تُعتبر علامة تجميلية تُزّين المظهر وتُحسّنه وعند الرجال تعدّ من علامات النسب والرجولة . ولقد أكّد علماء الانثروبولوجيا ودارسو الأجناس البشرية أن هذه العادة منتشرة جدّا في القارة الإفريقية كما أن “الأزاندي اليوم، وبخاصة النساء يمارسن “الشلوخ” كما تفعل السودانيات في شمال السودان بأشكاله المختلفة. ومع هذا فإنّ الرجال من الازاندي لا يشلخون إن كان جيرانهم من“ المورو” والباكا يفعلون”قبيلة “المورسي”Murzu هي قبيلة أفرادها رعاة ماشية وهي مجموعة عرقية موجودة في منطقة «أومو ديبوب»في منطقة أثيوبيا بالقرب من الحدود السودانية تحيط بها الجبال بين نهر أومو وروافد نهر«ماقو»Mago.يعرف النساء لدى هذه القبيلة بالنساء ذوات الأطباق lesfemmesaplateaux وأطباق الشفاه زينة تعمد إليها المرأة إلى ثقب شفتها السفلية وإدخال طبق في هذا الثقب على أن يتم تغييره من وقت لآخر بحيث يتسع الثقب فيحوي أطباقا أكثر حجما والطريف في الأمر أن اتساع هذا الحجم يحدد مهر المرأة والمواشي والهدايا التي يقبلها أهل العروس من العريس.في بداية سن البلوغ، تضع الفتاة طبقا صغيرا يكون عادة من الخشب وبعد سنة تستغني عنه وتعوضه بطبق خشبي أكبر قليلا،فتتمطط شفتها السفلى وتصبح قادرة على استيعاب أطباق أكبر حجما.وعند الزواج تضع فتاة «المورسي» طبقا نهائيا يكون كبير الحجم وهو عادة من الفخار ويكون مزركشا ومنقوشا بأشكال وعلامات ورموز لا يفك طلاسمها إلا الرجل الذي اختار تلك المرأة.فأطباق المرأة علامة رمزية للرجل ودعوة له بالزواج منها.والفتاة التي لا تضع طبقا في شفتها السفلى لايمكنها الفوز بعريس.
غالبا ما تستعمل تقنية الكي في ثقب الشفة وهي طريقة ناجعة لا تتسبب في تعفن الجرح ولا تحدث التهابات بكتيرية أوجرثومية.كما أن أفراد القبائل يلتجئون إلى صنع مستحضرات وأدوية نباتية تساعد على شفاء الجروح والتئامها بسرعة.
ومن الملاحظ أن عملية الخدش هي عملية تمارس في الغالب لدى القبائل الإفريقية في سنّ مُبكرة وذلك لسرعة التئام الجروح. فلقد بينت الأبحاث الطبية أن جرح الطفل الذي لم يتجاوز العشر سنوات يلتئم بسرعةتفوق خمس مرات سرعة التئام جرح من عمره ستون سنة.
ويرجح أن الوشم بصفة عامة كان في بداياته علما طبيّا علاجيا، يستعمل لغايات تخفيف الألم في المنطقة المضطربة من الجسم، وهذه الطريقة البسيطة مستعملة لدى القبائل الإفريقية فلقد كانوا يعتقدون أنّ هذه الندوب والعلامات التي يُحدثُها الخدش تحمي من أمراض العيون والصُداع وأمراض الرأس كما تساهم في استخراج الأورام حيث أنّ النُدب يخرج كل السموم الداخلية الموجودةفي جسم الإنسان، كما أنّه يعتبر علاجا يُقدمه سيد القبيلة أوكبار السنّ لقناعتهم بأنّه يُقوي الأعصاب الداخلية .
يقول مِيسْ بْلاكمانْ «أنّه قد يكون للوشم فَعالية في القضاء على وجع الرأس، وسُعار الأسنان، والضعف البصري ومسّ الجنّ والأرواح»
شعوب قبائل وسط إفريقيا بالخصوص، تعيش وسط الغابات والأحراش وتتعايش مع الحيوانات الضارية، فأغلبية السكان يعيشون شبه عُراة أوعُراة تماما كما ولدتهم أمهاتهم نظرا لشدّة حرارة الطقس فهم يستغنون عن اللباس ولباسهم في الغالب يقتصر على ستر العورة، بحمايتها بمحامل خشبية عند الرجال وبوضع تنورة قصيرة عند النساء، وباقي الجسد كان يُغطى بأوشام وأوسام وخدوش متنوعة .
فأجساد رجال “المُورسي” مرصعة ومزدانة بالحلّي والألوان ويضعون أقراطا في آذانهم وقلائد في أعناقهم وأساور من المعدن على زنودهم ومعصمهم، كما أنّه يُلاحظ وُجود ندوبات وعلامات على شكل دوائر صغيرة بارزة على زنودهم، إضافة إلى ذلك فإنّهم يُلونون جلودهم ووُجوههم بألوان مختلفة. كما أنّ بعض القبائل الأخرى وخاصة قبيلة الأقزام الموجودة وسط الغابات الكثيفة يتنكّر أفرادها بالنباتات وأوراق الأشجار والطحالب وذلك للتمويه وخداع العدوّ سواء أكان حيوانا أم إنسانا.
فمُحاربو الماسايْ يرتدون ملابس مزدانة بنقوش بارزة باللون البرتقالي أوالأحمر اذ يعتبرون أنّ اللون الأحمر يُخيف الضواري في الغابة. فبريُ الأسنان، في قبائل المُورُو والباكا إضافة إلى الدوافع الجمالية ، فلها دوافع نفسية كذلك، إذ أنّ مجموعات آكلي لُحوم البشر التي كانت منتشرة في القرن الثامن عشر دفعت بالقبائل الأخرى إلى التخفي أوالتنكّر في صُور عديدة، فبريُ الأسنان وجعلها حادة كالإبر ومتباعدة تُعطي انطباعا بأنّ صاحب هذه الأسنان من آكلي لحوم البشر إذن فهذا النوع من التنكّر يُساهم في إرهاب العدّوِ وعدم الاقتراب منه. بالنسبة للأطفال فالخدش هو الشروع في طقوس الانضمام إلى الكبار، فأثناء انسحاب القبيلة إلى الغابة يقوم بعض البارزين وخاصة أسياد القبيلة وكبار السنّ منهم بتعليم الأولاد والبنات على الانفراد بقواعد المجموعة الدينية والاجتماعية وأما مدّة التعليم فتختلف من مجموعة إلى أخرى فهي تبلغ السبع سنوات كما هو الحال في غينيا وشاطئ العاج ويتعرّض كل فرد لكي يُصبح عضوا عاملا وفاعلا في المجموعة إلى نظام دقيق وتجارب جسمانية قاسية يُثبت من خلالها شجاعته، وفكرة الشجاعة، في أساسها ذات صلة بفكرة اللألم، فالمُحارب والمقاتل عليه أنّ لا يُظهر ألمه إلى الغير لأنّه إهانة ونقص في شخصيته إزاء الآخر وحين يُصاب، في الحرب أوفي رحلات الصيد عليه أن لا يتألّم أمام الآخرين بل عليه أن يفتخر بتلك الإصابات والجروح لأنّها في الواقع تعبير عن شجاعته بل يذهب إلى أبعد من ذلك، فهو يقوم بتزيين تلك الجروح وإضافة علامات ورموز عليها .
إن عمليات الخدش والوشم مؤلمة جدّا نظرا لعدم استعمال مواد مخدّرة تسكن تلك الآلام، فالألم هو الغاية المنشودة التي تتحوّل في لحظة معيّنة إلى لذّة ونشوة، لذّة الانتصار على هذا الألم، والنشوة بإظهار الشجاعة والقوّة والرجولة أمام الآخر وخاصة الجنس المقابل .
والألم تعريفا هو الانفعال والشعور بانعدام الرّاحة، و“تمثّل الانفعالات المعيار الثالث للحقيقة والمصدر الثالث للمعرفة، وهي تنحصر في انفعالين رئيسين هما اللذة والألم اللذين يقوداننا في حكمنا على الأشياء وفي التمييز بين ما ينبغي اتباعه وما ينبغي تجنبه.... أما الانفعال الأوّل فهو مطابق للطبيعة، في حين أنّ الثاني (الألم) غريب عنها “ فالإنسان الأفريقي المرتبط وثيق الارتباط بمفهوم القبليّة نراه يتلذذ بالألم.
ونذكر على سبيل المثال، في إحدى مناطق جنوب إفريقيا تقوم الفتاة بعمل امتحان قاس وصعب لمن يريد الزواج منها، حيث تصطحبه في رحلة إلى الغابة وتشعل نارا تكوي ظهره بها فإذا تأوّه من الألم ترفضه وتفضحه بين الفتيات وإذا لم يتأوّه تقبله للحبّ والزواج ويتحول مكان الكي في ظهره إلى علامة ورمز لشجاعته ورجولته وفحولته كما يقبل محاربو الماساي على تناول دماء الأبقار عندما يخضعون لعملية الختان والتي تسمى عندهم “أُوسيبوليوي” والتي تقام لها مهرجانات مفتوحة وتحت تقاليد قاسية حيث لا يٌسمح للشخص بالصراخ وتُجرى عملية الختان بدون تخدير. فيما يخص المعايير الجمالية، ليس من السهل معرفة كل دوافعها و نشأتها الأولى فهي (المعايير) تكونت عبر منظومة معقدة من الأفكار والممارسات والأهداف كما أنها تتبلور وتتشكل على مراحل طويلة، ففيها ما يتأكد ويتأصل وفيها ما يختلط بغيره ويفقد معناه الأول، ويجنح بالممارسة عن أغراضه الأولى. بهذا المعنى نرى أن الوشم وخروق الجسد وتحميله عيدانا وعظاما وما يعتقدون فيه قد خدم أهل القبائل البدائية في ابتعاد تجار العبيد عنهم والذين حرصوا على المتاجرة بالعبيد الأصحاء ومقبولي الخلقة،وهما العنصران الأساسيان في بيع وشراء العبيد.أما التشوهات التي تطرأ على من يثقب شفته أو أذنه ويحشو فيها ما يشاء تكون “مقززة” في نظر تاجر العبيد فهو لا يشتري امرأة تحمل “أطنانا” من الحديد في رقبتها أورجلا قد دس عضوه الذكري في قصبة منذ الصغر ويبقيه معلقا في رقبته طول حياته. فحالة الرعب والخوف التي كانت تسود بين المجموعات السكانية الإفريقية دفعت بهم إلى الهروب من تجار الرقيق القساة والالتجاء إلى أواسط القارة الإفريقية حيث الأمان الذي لا تجده في المناطق السهلية التي يجد فيها الأوروبي بيئة خصبة لاقتناص السكان وبيعهم في أسواق العبيد.
فهؤلاء العبيد لايباعون إلابعد فحص تشريحي دقيق كامل وعميق وبعد الموافقة على البيع يُوسم أويُدمغ العبيد فورا بالحديد المحمي على صدورهم أومؤخراتهم أوأثدائهم بشعارات مالكهم. وهذه العلامة لا تمحى أبدا. وأميل إلى آراء بعض الباحثين الذين يعتقدون أن التجاء سكان القبائل الإفريقية إلى أسلوب الخدش والوسم والوشم والفصد طريقة ذكية للهروب من تجار الرقيق. فعمليات تشويه الجسد كانت بمثابة طوق النجاة من قسوة وغطرسة هؤلاء التجار.
فتجار الرقيق، لا يأخذون من الزنوج إلا القوي المليح المنظر فهم يقومون “بامتحان الأسنان والعيون والجهاز الجنسي والأيدي والأرجل، ويُعضّونهم ليحكموا على المقاومة الحقيقة لهذا الشخص...بل يذهبون إلى حدّ تذوق الأسير ليعرفوا ما إذا كانت نظارة بشرته ناجمة عن تزيين خارجي”
إنّ مفهوم قبول الألم والتغلب عليه هو المسار الواقعي لمعالجة ألم النفس هذا المفهوم يطرحه علماء النفس ويقول بانّ العلاج الحقيقي يتمثل في القدرة على تقبّل الألم كوسيلة لإنهائه. والخدش والوشم بصفة عامة بالنسبة للمجتمعات البدائية الإفريقية هو ممارسة السحر في الجسم ولقد اكتسب الخدش طبيعة سحرية Magico روحانية عقائدية.
إنّ قدرة الإنسان البدائي الإفريقي على تحمل آلام عملية شقّ الجلد ترتبط بالأساس بمعتقد “اكتساب قوى سحرية” وتستعمل لذلك أدوات حادة لتشريط الجلد وخدشه وبقدر ما تكون طاقة الفرد على تحمل تلك الآلام الحادة كبيرة، بقدر ما يكتسب قوى سحرية روحانية تمكّنه ممن السيطرة على الآخر.
فهذه العمليات في قبائل وسط إفريقيا ترتبط بالأساس بالدين، والدين لدى الأقوام البدائية هو الاعتقاد الراسخ في عالم الأرواح واسترضاء القوى المتعالية على الإنسان الذي يعتقد أنها تُدير مجرى الطبيعة وتوجّه حياة البشر.
إنّ ممارسة الخدش أوشق الجلد أوتشريحه في طقوس روحانية احتفالية تُضفي قدسية على القبيلة إذ يعيش أفرادها لحظات ينفصلون فيها عن وجودهم الدنيوي ليلتحقوا بالوجود المقدس. هذا المقدس الذي يمنحهم القوة السحرية مقابل أن يمنح الإنسان بدوره الألم. إن هذه العملية هي ظاهرة اجتماعية في القبيلة الإفريقية ولها القدرة على توحيد المجموعة الاجتماعية للقبيلة ومنحها الشعور بالوحدة والانتماء.
ويحتل السحر مكانة هامة في حياة الشعوب الإفريقية ويظهر ذلك في استخداماتها المختلفة في وسائلها وغاياتها ويشكل الساحر شخصية استثنائية في القبيلة كما يقول الدكتور فوزي العنتيل في كتابه “عالم السحر والحكايات الشعبية” هي“ أن يكتسب قوى فوق قوى الطبيعة والأرواح والأمراض والأعداء”
ويعتبر سيد القبيلة بمثابة الساحر الذي قد تعلّم اكتشاف المجهول ويعمل على أن يتواصل بينه وبين الموتى فهو الذي يقوم بحلّ الكرب والمشاكل التي يتعرّض لها الإنسان وإعطاء أجوبة وحلول تساهم في إرساء التوازن في المجتمع القبلي وهو المسؤول على إخماد غضب الإله ويأمر أفراد القبيلة باستعمال أشياء حول الأعناق والزنود والخاصرة والبطن والثدي واستعمال أنواع مختلفة من القرون واستعمال أنواع عديدة من الجواهر التي تحمل طاقات سحرية والتي يعتبرها الساحر أشياء تحمي الأطفال من الأرواح الشريرة .
والسؤال الذي يطرح نفسه من أين يأتي الساحر بهذه القوى الفكرية التي تمكّنه من تكوين جملة من التعاويذ والعبارات غير المفهومة وأنماط من السلوكيات.؟
نعود ثانية للحديث عن شعب “الازاندي” الذي يعبد روح الأسلاف، شأنهم في هذا شأن معظم الديانات الإفريقية في صلة حميمية معهم. “ فعالم الأحياء وعالم الأموات يكوّن في واقع الحال مجتمعا واحدا والصلة بينهما قائمة، ونستجلي تلك الصلة عن طريق الأحلام وعن طريق اللقانة بالبنقي benge”» وتستجلي كذلك في حالات الغيبوبة و الإغماء»
وللوصول إلى التخاطب مع الأسلاف وأرواحهم، فإنّ شخصية الطبيب الساحر AiraAvule في قبيلة الازاندي أو البنزا Gbinza يقوم باجتياز مجموعة من التجارب الطقوسية فيتعرّض إلى تجارب جسمانية قاسية كأنواع من الخدش والفصد والوسم يثبت من خلالها شجاعته على تحمّل الآلام فإظها ره لتحمله تلك الآلام وعدم صراخه أمام أفراد القبيلة يجعله، في نظرهم يحمل قوى سحرية غيبية قد منحها له أرواح الأسلاف الذين هم على اتصال دائم مع العالم الخارجي. فقبيلة « الهيمبا» الموجودة في ناميبيا على نهر Kunene، الذي يكوّن حدّا طبيعيا بين شمال ناميبيا و أنغولا، يشعل سكان هذه القبيلة كل صباح ما يسمى لديهم «بالنار المقدسة» ويقومون بطقوس لإحياء ذكرى أسلافهم عن طريق الاحتفالات والرقص والصراخ حول النار وبواسطة النار يطلبون من أسلافهم الحماية من الأعداء وشفاء مرضاهم و«ذكرى الأسلاف هي عبادة محمية، في كل عائلة» واحتفالهم بذكرى الأسلاف ماهو في الحقيقة إلاّ اتقاء لشرّ أرواح الأسلاف التي يعتقدون أنّها تتقمّص، في أجساد أحياء يكونون أعداء لهم، و«يفترضون أنّ النفس الغيرى من الأحياء والراغبة في العودة إلى معشر ذويها السابقين تسعى إلى إماتتهم باستنزال الأمراض عليهم وتلك هي الوسيلة الوحيدة لتحقيق رغبتها في الاتحاد» وحتّى لا تتمكّن تلك الأرواح من ملاحقتهم وإلحاق الأذى بهم فإنّهم يتنكرون بإجراء عمليات الخدش وتشطيب الوجوه خاصة، كما أنّهم يلتجئون إلى تحريف أسمائهم أوتغييرها بسبب «الخوف الذي توحي به (الأرواح) إليهم «نفسه التي صارت عفريتا» وشعب الأزاندي يقبلون على سبيل المثال المشوهين من أطفالهم الذين يولدون كذلك ويعتنون بهم مثل ما يعتنون بالأسوياء منهم، لكّنهم يعاملونهم بمعاملةخاصة، اذ يعتقدون أنّ هؤلاء المشوهين لهم صلة بالقوى الغيبية، بأرواح الأسلاف، وهم بذلك يلتجئون في بعض الأحيان إلى نقل البعض من تلك التشوهات الجسدية إلى أجسادهم بواسطة الخدش والوشم حتى لا تتمكن الأرواح الشريرة من الاقتراب منهم وملاحقتهم.
في قبائل أثيوبيا، يمتحن سيد القبيلة بامتحان قاس، فهو بعد أن يُنصّب سيدا للقبيلة فانّ مهمته هي أن يجلب إلى القبيلة الأمطار لتهطل فوق حقولها، إذ يتوجّب عليه أن يتقدم لاختبارات جسمانية قاسية كإحداث رموز ونقوش في جسده عن طريق الوشم والخدش، هذه العلامات والرموز هي بالنسبة لهم تجلب الخير والحظ للقبيلة و“إذا ما أصابته ( أي سيد القبيلة) جروح أوضعف أوأقل انخفاض ظاهر في مقدرته الحيوية فإنّ ذلك يؤدي إلى تصفيته حسب الطقوس”
إنّ سيد القبيلة يحتكر العديد من المهام فهو المسؤول المباشر في رخاء القبيلة وازدهارها وهو المسؤول إذا تعرضت القبيلة إلى أمراض وكوارث طبيعية كالجدب والقحط، لذلك فإنّ سيد القبيلة عادة ما تكون له علاقة وطيدة بساحر القبيلة أوبأسياد النار” الذين يكونون شخصيات ذوات عاهات أوبساق واحدة أوبعين واحدة و“لكون سيد النار يتحمل الألم ويقوم بأعمال مناقضة لذلك، فإنّه غالبا ما يكون ممتلكا القدرة على الشفاء ودمل الجراح وإعادة التشكيل بالنار” فالخدش والوشم وشق الجلد يكون عادة باستعمال النار وبواسطة الكيْ، والنار تبقى موضوع افتتان بالنسبة للبشر فهي تمثّل القوة الشاملة “فالنار هي أكثر الأشياء حيوية، وهي بحق من بين كل الظواهر الظاهرة الوحيدة التي بإمكانها تقبل بنفس الوضوح القيمتين المتضادتين: الخير والشرّ” وأسياد النار في العديد من القبائل الإفريقية هم الذين يشرفون على عملية الخدش وتشريط الجلد باستعمالهم النار، فهم يعتقدون أن الوشم أوالخدش الذي يفعل بواسطة حرق الجلد يساعد على إخراج الأرواح الشريرة من الجسد، وتلك العلامات والرموز والندوب التي تبقى بعد عملية الحرق تدل على أن صاحبها محروس ومحمي من الأرواح والأمراض فالعلامات و النقوش تبعد تلك الأرواح الشريرة وهي كذلك فأل حسن لسكان القبيلة.
من الأسباب المباشرة و التي لا تقل أهمية في إقبال أفراد القبيلة الإفريقية لعملية الوشم والخدش بالرغم من آلامها وعذابها هو الهروب من السحر فهم يتصورون أنّ في استطاعة الساحر العدو إحداث تأثيرات مباشرة على الإنسان عن طريق المحاكاة، أي طريق صنع دمية مشابهة لذلك الشخص وقراءة بعض التعاويذ عليها حيث يتأثر بها شبيهها الأصلي نتيجة للترابط المعنوي، فهو يستنتج أيضا أن أي شيء يفعله بالأشياء المادية سوف يحدث تأثيرا مماثلا على الشخص المراد استنادا لقانون الترابط أي ارتباط الأشياء بعضها ببعض وأقدم أشكال السحر بالنسبة لقبائل وسط إفريقيا هي التي ترتبط بالحصول على الطعام، وقد استخدم هذا النوع من السحر في إفريقيا لحصول الصيّاد على فريسته، فقد كان يؤمن أنّه سوف يحصل على فريسته كلّما غرس رمحه في صورة ذاك الحيوان المرغوب اصطياده وهذا السحر يعرف بالفودو (voodoo)وهي كلمة مشتقة من كلمة (vodun) التي تعني الروح وبواسطة دمية الفودو هذه يمكن للساحر تعذيب الشخص الذي يريد التأثير عليه أوحتى قتله وفقا لقوته الروحية، لذلك فإنّ أغلبية أفرادالقبائل الإفريقية يلتجئون إلى الوشم والخدش والفصد وإلى تغيير ملامح وجوههم حتّى تحميهم من هذا السحر الأسود فلا يستطيع الساحر التأثير على الشخص المراد النيل منه لأنّ تلك النقوش والخدوش والندوب والعلامات تمثّل تعاويذ وأحجبة ضدّ هذا السحر.
لذلك فإنّ أغلبية الرجال والنساء والأطفال يحملون تمائم وأحجبة حماية للنفس من ضروب السحر الحيواني والإنساني ووظيفة هذه الأشياء مع الخدش والوشم تفوق القيمة الجمالية، إنّه سلوك سحري بالأساس.
تشكل الأقنعة حقيقة أساسية في المعتقد الطوطمي السائد لدى الشعوب البدائية فالمنحوتات والأقنعة الإفريقية تقودنا إلى سريالية تتكامل فيها وحدة الإنسان مع الطبيعة والتحامه بالقوة السحرية حيث ترى العالم فبل كل شيء نظاما من الإشارات والرموز ففن نحت الأقنعة روحاني بالأساس إذ أنّه يربط بين من يرتدي الأقنعة بالعالم الخفيّ الذي تسكنه الآلهة أوتسكنه أرواح الأسلاف متخطيا بذلك شخصيته الأصلية وجامعا ما بين الإنسان وعوالم الحيوان والنبات والأرواح والأشياء الجامدة.
فالأقنعة تصنع إمّا من مواد عضوية (ألياف نباتية) أومن مواد غير عضوية ( مواد معدنية) وهي تمثّل أرواح الأجداد والأسلاف المقدسة لدى الشعوب الإفريقية فوظيفة الأقنعة هذه هي حراسة القبيلة من كل أذى يداهمها وتعد كذلك مصدرا للشفاء من الأمراض .
يلبس الأقنعة أسياد النار في القبيلة والسحرة الذين يعالجون المرضى باستعمال تقنيات الوسم والوشم والخدش وشق الجلد. فالمريض يرى في تلك الأقنعة حضورا لروح الأجداد التي تأتي بالشفاء العاجل له.
لقد قلنا في حديث أسلفنا ذكره بأنّ قدرة تحمل آلام الخدش لدى الفرد في القبيلة وخاصة “الأسياد” تجعله يعتقد اعتقادا راسخا بأنّه قد اكتسب طاقة روحية سحرية استمدها من أرواح الأسلاف وتكون له بذلك تأثيرات روحانية سحرية على الآخر فهذا المتلقي المشاهد يترسخ في ذهنه أنّ هذا الذي يتحمل الآلام المرعبة لعملية الوشم أوالخدش هو بالتالي يمتلك قوى غيبية وله علاقة بقوى لاهوتية تمكّنه من الحصول على القوة والسيادة والنفوذ. وحينما يموت أحد هؤلاء “الأسياد” أو“الكهنة” تقام مراسم لدفنه وقبل مواراته التراب يقوم أفراد القبيلة بنحت قناع له وينقلون تلك الرموز والعلامات والخدوش الموجودة في جسد الميت إلى القناع كما هي دون تحريف أوتزييف ثمّ يبدأون بتقديس هذا القناع وذلك باستعماله في طقوسهم الاحتفالية الخاصة فالقناع أصبح له قوى سحرية حينما انتقلت هذه القوى الغيبية الروحية من المادة الحيّة (جسد الكاهن) إلى المادة الجامدة (القناع) عن طريق الخدش والوشم.
ونذكر على سبيل المثال قبيلة “البانتو” وهي من المجموعات الزنجية الكبرى على الحدود الجنوبية لنيجيريا والكونغو وفي إقليم هضبة البحيرات الاستوائية.
فـــ“حين يموت أحد أفراد (البانتو)، في إفريقيا الاستوائية، يُنحت له تمثال من خشب أومن مادة أخرى، هذا التمثال هو تصوير لا يماثل الأصل إنّه تركيب يحل محلّ الجسم الذي هجرته الحياة ، فيعاد إلى التراب، ففي هذا النظير الخالد تسكن ومضة الحياة .” بمعنى أنّ الروح التي غادرت الجسد تعود مرة أخرى لتسكن هذا التمثال ولكي لا تتوه الروح عن تمثالها حسب ما يعتقدون فإنّهم يصنعون قناعا لهذا التمثال فيه نقوش وعلامات ورموز تشبه التي كانت في الجسد الإنساني بواسطة الخدش والوشم.
الأقنعة التي تحمل العديد من الرموز التي تشبه رموز الوشم والخدش في جلود الأفارقة الزنوج تستخدم في احتفالات التأهيل (كثقب الجلد وخدشه والختان، وتشويه الجمجمة، وثقب الأذن أوالأنف والولادة،سن البلوغ، الزواج، تنصيب سيّد القبيلة...) واحتفالات جمع المحاصيل و الصيد.
إنّ الأقنعة العاجية تستعمل في الاجتماعات البشرية والممارسات السحرية أما الأقنعة الخشبية فهي للاحتفالات العامة لحماية أفراد العائلة من الشياطين والأرواح الشريرة والجنون.
إنّ جلّ هذه الطقوس و الاحتفالات تُصاحبها ممارسات العديد من الفنون أبرزها فن الوشم والخدش و الفصد و الهدف منها هو إرضاء القوى الروحية الغيبية.
اللغة هي الشرط اللازم والمطلق لمجمل حياتنا الاجتماعية والأداة التي عبرها يتم التفكير المنظّم والتواصل، فهي تكتسي أهمية قصوى باعتبارها تلك البيئة الرمزية التي نعي من خلالها العالم الآخر وذواتنا فكينونة الإنسان رمزية ووجوده لغوي لذا انصبت عليها الدراسات الفلسفية والعلمية بالبحث والنقد.
إذن بما أن تلك الخدوش والوشوم الموجودة فوق سطح الجلد الداكن تمثّل في مجملها رموزا وعلامات، فإنّه من المنطقي القول بأنها لغة تواصلية بين أفراد قبائل وسط إفريقيا فكل علامة لها دلالتها اللغوية وبما أنّ “ مسألة الكتابة المنظمة لا يطرح في مثل تلك المجتمعات. فظهور علامة الحرف ينطوي في الواقع، على تحوّل جذري في رؤية العالم والرمز عند “البدائيين” يعبّر عن نفسه داخل الشكل الخطّي للصور وليس داخل الشكل الخطي لأبجدة ما، إن شئنا الحديث عن كتابة ما، فيجب الحديث عن كتابة الوشم، والأقنعة والتماثيل والجد رانيات الصخرية ... تتكلّم بنفسها وتتحدث عن ماهيتها”.
الوشم والخدش هو في حدّ ذاته لغة بين الأفراد، تواصل رمزي إيحائي بين الرجل والمرأة خاصة، والمحارب حين يخدش جسده فهو يقول للطرف الآخر بأنه يكتسب الشجاعة والقوة والصلابة.
إن النشاط الإنساني وما ينتجه من معايير جمالية مرتبط وثيق الارتباط بالنشاط اليومي للإنسان البدائي في المجتمع القبلي. فما يعتبر“فنا” لدى الشعوب المتحضرة ما هو إلا منظومة معقدة من الأفكار والأهداف والممارسات الطقسية يجربها الإنسان البدائي بفعل قوةالأيمان بأن حياته هي هكذا وعليه أن يعيشها كما يعتقد هو وكما تعتقد مجموعته البشرية،فالانتماء العضوي للقبيلة يعني الإتيان بما جاء به الأسلاف وتقديسه في الحياة اليومية للفرد والقبيلة، فهو يزخرف الأواني التي يتناول فيها الطعام ويزيّن مسكنه ويجمّل جسمه بالوشم والخدش والشلوخ والصبغيات ويتحلى بالحلي ويرقص في أحزانه وأفراحه ويعزف الموسيقى لإعلان الحرب ويغنّي معبّرا عن مشاعره ووجدانه مغازلا لشريكته وينحت الأقنعة ليؤدي بها صلواته وطقوسه.