منذ
عقود، يترك الرجال في سن العمل في منطقة الساحل قراهم للعثور على عمل في البلدات
والعواصم في مناطقهم ثم يعودون لزراعة أو جني المحاصيل كلما أمكن ذلك. ويحدث الشيء
نفسه في موريتانيا ولكن تلك الظاهرة واضحة بشكل خاص في هذا البلد، كما تفيد العديد
من وكالات الإغاثة، حيث تخلو القرية تلو الأخرى من الرجال في سن العمل في مظهر بدأ
يخلف آثاراً اجتماعية أخرى.
وتشير تقديرات منظمتي كاريتاس والعمل ضد الجوع غير الحكوميتين إلى أن ما يزيد عن 75
بالمائة من الرجال في سن العمل في القرى في أنحاء غيديماغا وكوركول قد تركوا القرى
وذهبوا إلى البلدات في هاتين الولايتين أو إلى نواكشوط العاصمة. ويحصل هؤلاء الرجال
على عمل في مواقع البناء أو في الموانئ في نواكشوط ونواذيبو أو في المراكز الزراعية
مثل روصو وكيهيدي وسيليبابي وبعضهم يقوم بقيادة العربات التي تجرها الخيول أو العمل
في الأعمال التجارية الصغيرة.
وأفاد الأمين العام لوزارة التنمية الريفية محمد ولد عيدة أن الهجرة الريفية منتشرة
في هاتين الولايتين بالإضافة إلى ولايتي الحوض الغربي والحوض الشرقي على مدى أربعين
عاماً.
وفي حديث مع شبكة الأنباء الإنسانية (إيرين)، قالت جوهيدة بنت محمود التي تعيش في
قرية ولد رامي بوديزيم في ولاية غيديماغا أن أسوأ فترة تمر على القرية حدثت منذ
أربع سنوات خلال موجة جفاف 2008-2009.
وأضافت قائلة: "حتى النساء كن يغادرن حينئذ للحصول على عمل في السنغال... لقد ذهبت
إلى تيابو في السنغال لإرسال المال والغذاء أو كل ما يمكنني العثور عليه إلى
الفتيات الصغيرات والمراهقين والأطفال الذين بقوا [في القرية]". وقد أظهرت جلد
يديها المتصلب والندوب على قدميها من عملها هناك كعاملة في الحقل.
وتحصل جوهيدة الآن على مساعدات منتظمة من منظمة العمل ضد الجوع وهو ما ساعدها على
البقاء.
تعطيل النظام الاجتماعي
وقد بدأت الأزمات الغذائية المتعاقبة وموجات الهجرة الريفية المتتالية في تمزيق
التماسك الاجتماعي في بعض القرى، كما أفاد يوبو ولد العيد، رئيس قرية ومبو في ولاية
غيديماغا، التي تعتبر القرية موطناً لحوالي 100 شخص، من بينهم 12 رجلاً فقط.
وقال ولد العيد أن من بين هؤلاء الذين بقوا في القرية أولاداً صغاراً ومراهقين
انقطعوا عن التعليم ويقومون بالتشاجر مع بعضهم البعض، مضيفاً أنه "لا يوجد أخوة ولا
آباء ولا أعمام لإدارة تلك التوترات ولا يستطيع كبار السن أن يكونوا حاضرين في جميع
المنازل للتعامل معهم".
وعلى الرغم من أن النساء معتادات على القيام بأعمال الزراعة الصعبة ولطالما أشرفن
على أعمال البستنة التجارية، إلا أنهن كن سيستفدن من وجود الرجال إلى جانبهن
للمساعدة في زراعة بعض المحاصيل مثل الأرز، وفقاً لولد العيد.
من جهتها، قالت ماتي بنت بيده، الأمين العام لوزارة الأسرة والطفل في نواكشوط، أنه
كان للهجرة "تأثير ضار على المواظبة على التعليم". ولأن عدداً قليلاً من النساء
ارتدن المدارس، فمن غير المرجح أن يضعن التعليم على قائمة أولوياتهن. وفي تصريح
لشبكة الأنباء الإنسانية (إيرين) قالت بنت بيده: "لقد تُرك العديد من الأطفال
لأنفسهم مع أمهاتهم وجداتهم ولم يحصلوا على ما يكفي من التوجيه"، مضيفة أن الوزارة
تحاول رفع مستوى الوعي بالتعليم بين النساء في القرى المتأثرة.
وعلى الرغم من أن الأمهات هن غالباً أول من يعطي الأولوية للتعليم، إلا أن النساء
غير المتعلمات يعتبرن استثناءً لهذه القاعدة، كما أفاد بوبكر ولد مسعود، رئيس جمعية
نجدة العبيد الحقوقية. ويربط مسعود المشكلة بالعبودية التي المنتشرة في أنحاء
موريتانيا والتي تجعل الآباء "غير مستعدين" لإدارة حياة أطفالهم بصورة كاملة.
ارتفاع معدلات الطلاق
وعلى الرغم من أن الهجرة الريفية يجب أن تعزز من الناحية النظرية دخل الأسرة – حيث
أشار العديد من الأسر التي تحدثت معها شبكة الأنباء الإنسانية (إيرين) إلى أنها
حصلت على ما يقرب من 80 دولاراً في الشهر في شكل حوالات من المناطق الحضرية - إلا
أن الأمور لا تسير دائماً على ما يرام، طبقاً لما لبنت بيده. فبعض الرجال وجدوا
لأنفسهم عملاً في المدينة وهجروا أسرهم. وفي حديثها مع شبكة الأنباء الإنسانية
(إيرين) قالت بنت بيده: "ليس من غير المألوف أن نراهم يتزوجون من زوجة ثانية أو
ثالثة".
وعلى هذا النحو ارتفعت معدلات الطلاق في مجتمعات معينة في غيديماغا وكوركول على وجه
الخصوص، كما أفاد محمد ولد بولا من منظمة العمل ضد الجوع.
تعيش زينب بنت والي البالغة من العمر 24 عاماً في قرية ميزين تيرشيت في ولاية
كوركول بمفردها مع أطفالها الثلاثة. وكان زوجها قد حضر إلى المنزل لتطليقها ثم عاد
إلى نواكشوط. وقد ترك ثلث السكان الذكور العاملين القرية، بحسب تقديرات بولا من
منظمة العمل ضد الجوع.
وبالإضافة إلى استخدام الأموال التي يتم ارسالها إلى الديار لتغطية الاحتياجات
الأساسية، انتشرت ظاهرة في هذه القرية والقرى الأخرى تضع حتى أفقر الأسر تحت ضغوط
للتباهي بالثروة المادية التي اكتسبتها من خلال الحوالات المالية من الحضر. وهكذا
يتم انفاق جزء من الأموال المحولة على الهواتف النقالة والملابس والمناسبات وهو ما
من شأنه أن يغرق الأسر في الديون على الرغم من الحوالات المالية التي تتلقاها.
وعلى خلفية تلك الضغوط المالية ترتفع معدلات الطلاق والهجر، كما أفاد بولا.
زيادة الدخل في المناطق الريفي
وتحاول الحكومة ومنظمات الإغاثة أن تزيد من الدخول في المناطق الريفية وتعزيز الأمن
الغذائي وتشجيع الرجال على البقاء في المنزل. فعلى سبيل المثال، قامت وزارة التنمية
الريفية بتوزيع قطع صغيرة من الأراضي وبعض الماشية على الأسر الضعيفة على نحو خاص
في ولايات ترارزة وكوركول وغيديماغا، وهي المناطق المعروفة معاً باسم مثلث الفقر.
وفي ولاية لبراكنة تدير الوزارة نفسها مشروعاً مع بنك التنمية الأفريقي منذ عام
2010 لتدريب المزارعين من المناطق الريفية على الزراعة المروية. وهناك أمل في أن
يزيد ذلك من استخدام الأراضي المروية المستدامة ويعزز من الأمن الغذائي في الريف.
وحتى الآن تمت زراعة ما يقرب من 5,200 هكتار من المحاصيل بموجب هذا النظام، وفقاً
لداغا ميسا عبد الله، مدير الزراعة في بنك التنمية الأفريقي في موريتانيا.
وقال الأمين العام للتنمية الريفية محمد ولد عايده أنه منذ عام 2010 عاد حوالي
1,500 رجل إلى قراهم بفضل هذا المشروع. ويبدو على الأسر المستهدفة تحسن في الظروف
المعيشية وتحسن في مستوى الصرف الصحي وزيادة في الدخل وتحسن في وضع تغذية الأطفال.
وعادة ما يكون دعم وكالات الإغاثة غير كاف لبقاء الرجال في موطنهم ولكن هذا الدعم
يعالج مشكلات متعددة مثل الحصول على المياه والأدوات الزراعية والبذور والدعم
المالي، وفقاً لأحد المراقبين.
عثمان ولد سيدي علي هو أحد الرجال القلائل الذي مكثوا في قرية ولد رامي بوديزيم
أثناء فترة 2011-2012 العجاف. وقد حصلت أسرته على تحويلات مالية وعلى حبوب وأدوات
من برنامج مكافحة الجوع لمساعدتهم على العناية بحقول الدخن والذرة التي يملكونها.
وقالت جوهيدة بنت محمود زوجة علي: "قبل أن نبدأ في الحصول على المساعدات من
المنظمات الدولية كان زوجي معتاداً على ترك القرية للبحث عن عمل. أما الآن فنحن
نعتمد بصورة أكبر على العمل في القرية. يقوم جميع الرجال الذين بقوا في القرية الآن
بالزراعة. وهذا العام لم يغادر أي منهم للبحث عن عمل".
وفي تصريح لشبكة الأنباء الإنسانية (إيرين)، قال مستشار الاتحاد الأوروبي آرت فان
دين هيدي أن التقدم مايزال ضعيفاً، فالمساعدات الحكومية "حسنت من قدرة بعض الأسر
على الصمود أمام الصدمات الخارجية... ولكن موسم جفاف واحد يكفي لانهيار آليات
التأقلم، وهو ما من شأنه أن يدفع الرجال مرة أخرى إلى هجر قراهم".