تعتبر مدينة تلمسان واحدة من أجمل
المدن الجزائرية، والتي أطلقت عليها عدة تسميات مثل «جوهرة شمال أفريقيا» و»لؤلؤة
المغرب العربي» و»غرناطة أفريقيا»، والتصق اسمها باسماء عائلات كثيرة في الجزائر
وفي دول عربية أخرى تحمل اسم «التلمساني» أو «تلمساني».
تقع المدينة غربي العاصمة الجزائرية وتبعد عنها حوالي 450 كيلومترا، كما أنها لا
تبعد عن المغرب إلا حوالي 130 كيلومترا، وهو ما يفسر التقارب الموجود بين سكان بعض
مناطق تلمسان والمناطق المغربية المتاخمة للحدود الجزائرية.
ويعود اسم تلمسان إلى اللغة الأمازيغية، وهناك اختلاف في تفسيره، فبعض الباحثين
فسروه على أنه «النبع الجاف» والبعض الآخر فسر الاسم على أنه «مدينة الينابيع»
.وتقع المدينة على هضبة وتحتضنها أشجار الزيتون والكروم، ورغم قربها من البحر
المتوسط، إلا أنها ترتفع عن سطحه حوالي 800 متر.
وقد كان أهل المدينة من الأمازيغ وهم أول من شكل تجمعا سكانيا، لكن تلمسان تأسست
كمدينة على يد الرومان في القرن الرابع بعد الميلاد، ثم، تعرضت إلى غزو من الوندال،
وبعد الفتح الإسلامي في القرن الثامن ميلادي، أصبحت واحدة من أهم المدن، وكانت مركز
إشعاع حضاري وثقافي، ومركزا للعديد من الدويلات الإسلامية، وأشهرها المرابطون وبنو
زناتة ابتداء من عام1282 ، فضلا عن الدولة الإدريسية والموحدين والمرينيين.
معالم في المدينة
اعتبرت المدينة البوابة الأولى للمغرب الأقصى، وقد عرفت بأنها دار العلماء
والمحدثين، وبعد قيام الدولة الإدريسية استولى عليها الموحدون سنة 541 هجري، قبل أن
تنهار دولة الموحدين وتنشأ مكانها أربع دويلات صغيرة، ويتعلق الأمر بدولة بنو
الأحمر، والتي كانت تسمى أيضا الدولة النصرية في غرناطة، ودولة بنو مرين في المغرب
الأقصى، وبنور حفص في شرق الجزائر وتونس، وبنو عبد الواد في المغرب الأقصى والتي
كانت تضم تلمسان وأغادير.
وحكمت دولة بنو عبد الواد التي عرفت باسم الدولة الزيانية قرابة ثلاثة قرون من 627
هجري إلى 957 هجري، وكانت تلمسان هي عاصمة هذه الدويلة، ولما ضعفت الدولة الموحدية،
أعلن أبو يحيى أبو زيان وهو أمير بنو عبد الواد نفسه أميرا على تلمسان وما جاورها،
ولكن الإمارة تعرضت لهجمات من جيرانها، واقتحمها سنة 640 هجري الأمير الحفصي أبا
زكريا، مما اضطر أمير تلمسان إلى الفرار لينجو بحياته.
وخلال هذه الفترة فكر بنو عبد الواد في اتخاذ إجراءات لحماية مدينتهم من الاعتداءات
والهجمات التي تتعرض لها من جيرانها، وقرروا إنشاء قلعة لمواجهة الهجمات الخارجية
المحتملة، سميت بـ»المنصورة» دون أن تمنع تلك القلعة الاعتداءات في وقت لاحق، ولم
يتبق منها إلا الأسوار المحيطة بها وصومعة مسجدها. وصومعتها هي واحدة من ثلاث مآذن
بنيت في بلاد المغرب، تشبه المئذنة الأندلسية الشهيرة التي شيدت في إشبيلية في
الأندلس من طرف الموحدين، حيث توجد أيضا صومعة حسان في الرباط، وصومعة أخرى في مسجد
بني حماد الصنهاجيين، وأخيرا صومعة المنصورة، التي شيدت بطريقة معمارية جميلة.
وتعرض المسجد إلى التخريب مع مرور الأزمنة، وخلال فترة الاستعمار الفرنسي حول إلى
متحف، ولكن طرازه المعماري الأندلسي بقي شاهدا على تاريخه.
ترك الزيانيون بصماتهم في فن العمارة، حيث شيدت للمسجد المرابطي واحدة من أجمل
المآذن ذات الطابع الأندلسي، فضلا عن تشييد مسجد أبي مدين في قرية العباد القريبة
من تلمسان، وكان أبو مدين شعيب بن حسيب الأندلسي الذي توفي عام 1196 ميلاي قد ولد
بإشبيليا ودرس فيها أولا، ثم منها انتقل إلى فاس لمواصلة طلب العلم، قبل أن يقرر أن
يكرس ما تبقى من حياته للزهد والتصوف، وشيد له مسجد وروضة في عام 1339 ميلادي. وشيد
في تلمسان أيضا مسجد سيدي الحلوي، وهو عالم آخر وهب حياته أيضا للزهد والتصوف، وقد
شيد مسجده في عهد الدولة المرينية ، ويتميز بطابع معماري أندلسي ألهم المهتمين بفن
العمارة في أزمنة لاحقة.
سقوط الأندلس
بعد سقوط الأندلس لجأ إالى تلمسان مئات الآلاف من سكان غرناطة وقرطبة، وهو ما يفسر
أن المدينة تشتهر بالغناء الأندلسي والحوزي، ولكن بعد فترة من سقوط الأندلس تعرضت
تلمسان إلى زحف الإسبان، وسقطت في أيديهم، ولم تتحرر إلا بعد تدخل العثمانيين،
وسنة1844 سقطت المدينة مجددا في يد الاستعمار الفرنسي، حتى استقلال الجزائر سنة
1962 .
يوجد في تلمسان العديد من المتاحف، يتقدمها متحف «الفن والتاريخ» وقد بني فوق
المدرسة التشفينية التي أقامها السلطان عبد الرحمان تاشفين بين سنتي 1318 و1328،
وهدمها الاستعمار الفرنسي عام 1873، ويضم كل ما تزخر به المنطقة من آثار العمارة
والزخرف العربي الذي شيد عبر المراحل التاريخية المتعاقبة.
ويعيد المتحف إلى الذاكرة كل ما عرفته المنطقة من نهضة ثقافية وفي فن العمارة
المادية في مدينة تلمسان وضواحيها، ويروي مختلف الحقب التاريخية التي مرت على
المدينة لمئات السنين من خلال الآثار المعمارية.
وفي المتحف آثار خاصة بالحضارة الآشورية تعود إلى 400 و 800 ألف سنة قبل الميلاد،
وهو ما يؤكد عراقة هذه المدينة، والمتحف مقسم بحسب مراحل تاريخ تلمسان من فترة ما
قبل التاريخ إلى الفتوحات الإسلامية، ثم فترة الدويلات المستقلة، مثل دولة
الموحدين.
ويضم الى ماسبق مجسمات خاصة بمدينة تلمسان وتطورها وأيضا ضريح سيدي بومدين ومدينة
المنصورة، ومجسمات لمنطقة المشور والقصر الملكي الذي يرجع إلى الفترة الزيانية.
ويمكن لزائر مدينة تلمسان أن يقف على عدة شواهد تاريخية تحكي قصتها، مثل المدينة
القديمة المحاطة بالأسوار، فضلا عن المعالم الإسلامية، مثل الجامع الكبير وجامع
سيدي بلحسن، وتوجد فيها أضرحة ومزارات، أشهرها ضريح الولي الصالح سيدي بومدي،
والمدرسة التشفينية التي تعتبر أول مدرسة في المغرب العربي.
ويمكن الاستمتاع بجمال تلمسان من فوق هضبة «لالة ستي» التي تمكن الصاعد إليها من
إلقاء نظرة على المدينة المترامية الأطراف، كما أن مرتفعات بني سنوس تذكر الزائر
بتاريخ مضى، حين كان السكان القدامى يقيمون في كهوف ومغارات.
وقد كانت المدينة استضافت في عام 2011 تظاهرة تلمسان عاصمة للثقافة الإسلامية، وهي
مناسبة قامت خلالها السلطات بإعادة ترميم عدد كبير من المعالم التاريخية، بما في
ذلك الأبواب التاريخية، وقصر السلطان، ومقر قيادته بـ»الموشر» فضلا عن مساجد
المدينة التي خضعت للترميم، وفق القواعد العلمية المتعارف عليها، ومع احترام الطابع
المعماري لهذه المعالم التاريخية.
ما بين الاستعمار
والاستقلال
دخل الاستعمار الفرنسي إلى مدينة تلمسان في عام 1842، وشرعت السلطات الاستعمارية في
تغيير أسماء الشوارع، وهدمت المدرسة التشفينية الشهيرة في عام 1872، كما أن المدينة
كان لها دور في المقاومة التي قادها الأمير عبد القادر الجزائري، فقد جعله موقعها
الاستراتيجي يركز عليها ويعمل على ضمها إلى المناطق التي كان يسيطر عليها، فعلى أرض
منطقة «عشبة» الواقعة ببلدية فزة اصطدم الأمير عبد القادر مع الجيش الفرنسي، عندما
حاول صد هجومه الأول على تلمسان، في معركة اشتهرت باسم «معركة عشبة»، التي جرت في
1863، وكان الجنرال «كوزيل» هو قائد القوات الفرنسية التي حاولت دخول تلمسان، وقد
جرى صراع بين قوات الأمير والقوات الاستعمارية على دخول قصر المشور، والذي بني سنة
1318 ميلادي، وأعيد ترميمه سنة 2011 في إطار تظاهرة تلمسان عاصمة للثقافة
الإسلامية.
ورغم أن القوات الاستعمارية وضعت يدها على قصر المشور، إلا أن الأمير استعاده سنة
1887 بموجب معاهدة التافنة يوم 30 أيار/مايو 1887، قبل أن تستولي قوات المستعمر على
تلمسان من جديد، وتوجد في المدينة شواهد كثيرة على مرور الأمير عبد القادر مؤسس
الدولة الحديثة، وخاصة مجلس الإمام السنوسي، والذي كان الأمير حريصا على زيارته،
ويقارب عمر هذا المجلس الواقع وسط تلمسان الخمسة قرون.
وارتبط اسم المدينة بأب الحركة الوطنية مصالي الحاج سنة 1898، التي ظهرت في
عشرينيات القرن الماضي، وبدأت في النضال السياسي من أجل الحصول على حقوق الجزائريين
في المستوى نفسه من الحقوق التي كان الأوروبيون المقيمون في الجزائر المستعمرة
يتمتعون بها، قبل أن تتطور مطالب الحركة الوطنية لتصل في الأخير إلى مطلب الاستقلال
التام عن فرنسا.
وأسس مصالي حزب «نجم شمال إفريقيا» والذي كان مفتوحا أمام دول المغرب العربي
الأخرى، قبل أن يؤسس في وقت لاحق حزب «الشعب» الذي شهد أزمة وصراعا، كانا السبب في
جعل الثورة تنطلق في بداية تشرين الثاني/نوفمبر 1954 دون الأب الروحي للحركة
الوطنية، وقد لعب بعدها مصالي دورا مثيرا للجدل، بسبب معارضته للثورة، لكن بوتفليقة
لما وصل إلى الحكم أعاد الإعتبار له، وأطلق اسمه على مطار تلمسان.
وقد أنجبت مدينة تلمسان للجزائر رئيسين، الأول هو أحمد بن بلة، أول رئيس للجزائر
المستقلة، ورغم أن بن بلة مغربي الأصل، إلا أنه ولد في تلمسان وعاش فيها سنوات
طويلة، كما تعود أصول عائلة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة إلى منطقة ندرومة في
تلمسان، حتى وإن كانت عائلته قد استقرت في وقت سابق في المغرب، ليولد هو في مدينة
وجدة القريبة من الحدود الجزائرية. وقد كان بوتفليقة أصغر وزير في أول حكومة
جزائرية تأسست بعد الاستقلال سنة 1962، ورغم أنه كان يرى نفسه الوريث الشرعي للرئيس
هواري بومدين بعد وفاته سنة 1978، إلا أنه لم يصل إلى الحكم إلا سنة 1999، عندما
قرر الرئيس الأسبق اليامين زروال رمي «المنشفة» والعودة إلى بيته.
كما أن المدينة أنجبت أيضا كتابا مشهورين مثل محمد ديب الذي رشح أكثر من مرة لنيل
جائزة نوبل للأدب، والذي كان يكتب باللغة الفرنسية.
الطرب الحوزي
تعتبر مدينة تلمسان عاصمة للموسيقى الأندلسية، وهي واحدة من ثلاث مدارس، المالوف في
قسنطينة، والحوزي في تلمسان، وهذا الأخير يقترب من الشعر، وإذا كانت الموسيقى
الأندلسية ظلت مرتبطة باللغة العربية الفصحى، إلا أن الحوزي انفتح في كلماته على
اللغة العامية، وقد ورث أهل تلمسان عن الأندلس هذا النوع من الموسيقى، الذي حافظوا
عليه قرابة خمسة قرون، ومن بين أهم شعراء الحوزي أبو عثمان بن عبد الله المنداسي
الذي عاش ما بين 1583 و1671 وابن تريكي وابن مسايب وابن سهلة ( الأب والإبن) وهي
أسماء ارتبطت بتطور موسيقى الحوزي، وحفظوا أمهات القصائد التي نظمها أبرز الشعراء
العرب في تلك الفترة، كما أن دواوين الحوزي تقطر غزلا وشوقا للأحبة، وكذا المديح
الديني، وقصائد أخرى تتغنى بالوطن والشوق إليه، ويوجد في المدارس المختلفة للموسيقى
الأندلسية ما يعرف بالنوبة، وهي تأليف آلي وصوتي وفق قواعد منظمة، وبإيقاع وتنقل
محدودين، وتتألف النوبة في تلمسان من حركات مختلفة، مثل الدائرة، وهي قطعة صوتية،
وإيقاع حر يتم تنفيذه في تناغم دقيق، وثانيا المستخبر وهو مقدمة دورية من الإيقاع
الحر، والتوشية وهي عبارة عن بند يتم استخدامه كأداة افتتاح، والمصدر وهو قطعة
صوتية من أهم النوبات، والبطايحي، وتأتي في المقام الثاني من حيث الأهمية، مبنية
على وتيرة نوبة المصدر.
وتوجد 12 نوبة كاملة، وثلاث نوبات غير مكتملة، وكل نوبة لها اسمها الخاص، مثل رصد
الديل، الحسين، الغريب، المزموم، المجنبة، الرصد، الصيكة، الماية، الديل، الرمل،
رمل الماية، الزيدان، أما النوبات الناقصة فهي الموال، الجاركة والعراق.
أما بالنسبة للنوبة الجزائرية، فهي قطع موسيقية ترتب في سبع وحدات لها مقطوعات،
توجد بينها ألحان غنائية، وأخرى صامتة، وفي النوبة توجد سبع وحدات، هي الانقلاب،
الخلاص، البطايحي، المصدر، التشوية، الانصراف والدرج، وتنــظــم تلمــسان سنويا
مهرجانا لموسيقى الحوزي، من أجل الإبقاء على هذا التراث الموسيقي حيا، والحفاظ عليه
من الإندثار.