عرف الموريتانيون منذ قرون الشاي
الأخضر الذي تحولت تسميته من الشاه إلى «أتاي».. ولم يشخ ولع الموريتانيين بهذا
المشروب الساحر ولم يخمد عشقهم له بل تجدد الوله باحتساء نقيع هذه النبتة الصينية
الساحرة.
الأتاي اليوم هو معلمة الكرم الأولى: فلا إكرام للضيف ولا إفطار ولا زفاف لعريس
وعروس بدونه ولا سعادة بدون الأتاي.
لقد تحول إلى مشروب يتداول في المكاتب والأسواق بكاساته الثلاث البراد الأول
و»الوسطاني» والتالي.
فالأول فيه الشاي الأخضر مركزا، و»الوسطاني» يكون أقل تركيزا، أما التالي وهو
الأخير فالشاي فيه رقيق.
وفي هذه الكاسات يمتزج النعناع بنكهته العجيبة مع الشاي فتعلو رغوة فيحسن المذاق
ويصل المحتسي لذروة نشوته.
ثلاث كاسات دهاق
أكدت دراسة تم تداولها مؤخرا في
موريتانيا أن نسبة لا تقل عن 98 في المئة من الموريتانيين يتناولون الأتاي ومنهم 70
في المئة يتناولون كاساته الثلات دهاقا ثلاث مرات في اليوم مع الإفطار وبعد وجبة
الغداء وبعد العشاء.
وللأتاي طقوسه وأوقاته المخصوصة ولا يمكن أن يعقد مجلس أو ينتظم سمر دون أن تواكبه
كاسات الشاي؛ فحول مائدة الأتاي تروى الأقاصيص والأخبار، وحولها تنشد الأشعار.
طقوس مقدسة
ويحتفظ الموريتانيون بطقوس
الأتاي حيث يشترطون فيه «الجيمات الثلاثة» وهي جيم الجمر وتعني أن تسخين الأتاي لا
يحلو إلا على الجمر أي الفحم، وجيم الجر وتعني أن الأتاي ينبغي أن يصب بهدوء لا
دفعة واحدة بحيث يتمكن السمار من تبادل الأشعار والأخبار حول كاساته المترعة،
والجيم الثالثة هي جيم الجماعة فالأتاي عند الموريتانيين لا يحلو إلا بجماعة
متجانسة في الأعمار والطباع.
وبما أن الضيافة مرتبطة بالأتاي فإن الجميع يحرص على اقتناء مادة الشاي الأخضر
المستوردة من الصين مهما كلف ذلك.
اقتناء الشاي ولو بناقة
ويحرص السكان البدو على اقتناء
الشاي الأخضر بأي ثمن حتى لو تطلب الأمر شراء نصف رطل من الشاي الأخضر بثمن ناقة أو
أثمان عدة رؤوس من الغنم.
وفي الزمن القديم كان تحضير الشاي يسند لرجل يسمى «القيام» ولابد أن يتوفر على
مواصفات منها الخبرة في تحضير الأتاي وحفظه لمرويات الأدب والشعر واستظهاره
للأقاصيص الشعبية والحكم.
أما اليوم فقد أصبح تحضير الأتاي مهمة نسائية تسند للفتيات الكواعب اللائي يزداد
الإعجاب بهن تبعا لمهارتهن في صب كاساته ذات الرغوة الطافية.
الرغوة شرط أول
ومن شروط التمتع بالأتاي أن لا
تبتل الصينية التي يحضر عليها وألا تخلو كؤوسه من الرغوة، فالكاسات التي لا رغوة
فيها لا يشربها أحد بل تصيب الجماعة بالتقزز.
وفي الزمن القديم كان له وقتان مقدسان أولهما أتاي الصباح الذي يحتسيه الموريتاني
قبل طلوع الشمس والثاني «أتاي الذهبي» الذي تحتسيه الجماعة بعد العصر.
أما اليوم فقد أصبح مصبوبا مشروبا طيلة اليوم لا يتوقف تداوله وتناوله فهو بحق
المشروب الوطني في موريتانيا وهو أكثر قداسة من القهوة عند المشارقة.
الأتاي محور الحياة
يقول الباحث الموريتاني عبد الله ولد البو «لا يخلو يوم موريتاني من الشاي ولا تقفر
منه أركان بيت ولا أطناب خيمة ولا يأتلف مجلس قوم في هذه البلاد إلا كان الشاي
محوره ومداره فالجماعة شرط وجوب وصحة في تناول الشاي معا بل هي جيمه الثانية، ففي
حلقة كل مجلس يتربع «القيام» على مواعين الشاي يعزف بها سيمفونية شنقيطية أصيلة
تنكشف عن كأس تناسقت أجزاؤها وراق منظرها وحسن سبكها وسكبها معا».
ويضيف الباحث «لا شك أن تجهيز الشاي هنا عملية فنية بامتياز تخضع لتقنيات دقيقة
خاصة لا يتمتع بها إلا كل قيام عليم قد ألم بخفايا هذه الصنعة البديعة، فصنع الشاي
مهارة اجتماعية وأدبية قبل كل شيء يلزم أن يتمتع من يقوم بها بدماثة الأخلاق وحسن
العشرة ولياقة الهندام وكل ما هو محمود من السجايا كالطرافة والظرافة والأدب فالشاي
رديف للكياسة والتأني والطمأنينة ويلزم تمديد طقوسه حتى أبعد أمد ممكن وهو ما يعرف
في قاموس الشاي بـ»الجر» الجيم الثالثة والأخيرة من جيمات الشاي».
الأتاي والثقافة
«يمزج الموريتانيون، يتابع
الباحث عبد الله البو، الشاي بنكهة المزاح والغبطة والتواصل وشيء من الكرم كثير،
فطري، طبيعي لا يكدره مكدر. ويفوح شذى النعناع من الكؤوس معلنا الانتصار الأخير على
الضيق والتبرم والضجر. نعم قد نستورد الشاي كموريتانيين لكننا نصدره أيضا، نستورده
خاما مغلفا في أكياسه ونصدره ثقافة ودأبا جميلا مسكوبا في كؤوسه، فما أكثر أولئك
الذين زاروا شنقيط فعادوا منها بأباريق وكأس شاي ترافقهم إلى أوطانهم، منهم
دبلوماسيون عرب وأجانب وأساتذة ومستشرقون وسياح بسطاء افتتنوا بسحر الإبريق وسكروا
بحميا الكأس الموريتانية فاتخذوها خدنا لا يفارقونه فتراهم يحزمون أمعتهم وعيونهم
على الكأس الأخيرة».
ويضيف «رغم انتشار الشاي وتاريخه العريق من الصين إلى بريطانيا والهند والعالم
الجديد ومناطق أخرى عديدة إلا أن «أتاي» يبقى عمدة الثقافة البيظانية وتاج زينتها
وبهائها حتى أنه لا يمكن تصور الجمال الشنقيطي منفصما عن الشاي، فالأشياء
الموريتانية الجميلة كالشعر والتاريخ والصحراء والكرم وحسن الضيافة كلها لصيقة
بالشاي الذي تجده حولك وعبيره يملأ الفضاء من البيت إلى المكتب إلى ركن الشارع إلى
قارعة الطريق».
مهرجان للأتاي
واستغرب الباحث ولد البو «تنظيم مهرجانات للشعر والمسرح والموسيقى والتمور والمدن التاريخية وغيرها على أهميتها ومركزيتها مع نسيان عصب الوجود الثقافي الذي هو الشاي الذي يستحق مهرجانا يليق بأبهته وروعته ومكانته في نفس قاطن الصحراء وفي مجلس البيظان وفي القيم والخلال التي يشهد عليها الشاي أينما دارت كؤوسه علاوة على ريعه الاقتصادي والسياحي الكبير وهو يستحق بكل ذلك ولكل ذلك مهرجانا دوليا ينهض بتعريف العالم بأسره بهذه الخصلة والصنعة الشنقيطية المتأصلة ويستدر أقلام الكتاب والشعراء والمثقفين والمبدعين كما يستدر أباريق «القيامين» ليتحفوا الشرق والغرب بما تنفرد به موريتانيا وتتميز حتى نكرم نزيل الثقافة والأرض معا كما نكرم أنفسنا كل صباح….. بالشاي….أولا».
ديوان شعري
ولعشق الموريتانيين للشاي خصصت
قرائحهم مقطوعات شعرية عديدة من الشعر الفصيح ومن الزجل الشعبي.
وترى الباحثة الاجتماعية والناقدة الأدبية الموريتانية تربه بنت عمار أن «الشاي من
خصوصيات الأمة الموريتانية « وتضيف «لكل أمة خصوصيتها الثقافية والحضارية ورئتها
التي تتنفس منها عبق الأصالة والهوية، ولكل شعب مخزونه المليء بمكوناته الذاتية
التي تحدد ملامح شخصيته، وقد عرف علماء الاجتماع المظاهر الثقافية بأنها أنماط
الحياة المختلفة من نحلة المعاش والسكن وأنواع الأطعمة واللباس ويأتي الفلكلور في
المقدمة ويتمثل في الموسيقى والرقص والفنون الأدبية وأغراضها المتعلقة بذاتية
المجتمع الذي ابتكرها والمترجمة لحاجياته والمخاطبة لضميره الجمعي».
وتؤكد الباحثة في فكها الشيفرات الرمزية الأدبية لشعر الأتاي «أنه يشكل غرضا شعريا
ضخما ينافس غرضي البكاء على الأطلال والغزل حيث يقول أحد الشعراء»:
لولا الأتاي ولولا البيض والعيس ٭ ٭ لما تبين بين الإنس تأنيس
خفة وطرافة
وتضيف «يزيد هذا الغرض على
الأغراض الأدبية الأخرى بخاصيتي الطرافة والخفة مع ما يحمل من دلالة تاريخية
واقتصادية وتمايز اجتماعي وأبعاد نفسية يعالجها بطريقة خاصة أستحدثها الشناقطة إبان
نهضتهم الأدبية».
إنه- تقول الناقدة – «الشاي الموريتاني الأصيل الذي لم تستطع العولمة تغيير نمطه
ولم تكدر صفوه دلاء التمدن حيث ظل يتربع على سلطة ذوقنا الجمعي منذ ما يناهز قرنين
من الزمن بثلاثيته التي تضفي عليه رونقا وتكسوه عذوبة مما يجعله مدار إلهام الشعراء
ومقصدا من مقاصد الطرب والنشوة تلك الثلاثية المتمثلة في تعانق الجيمات الثالثة ألا
وهي : «أجمر أجرأ أجماعة».
«تواكب هذه العناصر الثلاثة، – تقول الباحثة بنت عمار- جمالية الأتاي من الخيمة إلى
الصالون الراقي جدا وحتى المكتب وفي الشارع وفي الأسواق رغم اختفاء أحد العناصر
رويدا ألا وهو جمر الغضى وفي خطواته الأولى للإختفاء عنصر الجر أي التأني والبطء
ومع ذلك كله فإن الشاي عندنا ما زال ذا أهمية قصوى مع أن كثرته ساهمت بشكل لا إرادي
في اختفاء مكامن الجمال التي هي مصدر إلهام الشعراء المبدعين والتي خلقت له ثقافة
خاصة به ومصطلحات ودلالات تحمل ثقافة ما هي إلا جزء من الثقافة الصحراوية البسيطة،
الخيمة المفتوحة واجتماعية المظاهر والمستحدثات مثل (السكاك) وهي جماعة الشاي التي
تتكأكأ حوله وتتموقع قرب الكؤوس مما يحتم عليهم موقفهم بعضا من التودد لقيام الأتاي
وخلق جو من النكت بمثابة تأشيرة دخول جماعة أتاي».
الجمالية الأدبية
وأضافت « الجمالية الأدبية لغرض
شعر الأتاي مستحدث عرفه الشناقطة منذ ستينيات القرن الثامن عشر ميلادي عندما رست
على السواحل السفن الهولندية والبرتغالية والفرنسية تروج لتجارة الأقمشة والأقفال
والعطور والشاي الصيني الأخضر ذو النكهة الخاصة».
وقد ظل الشاي الأخضر زمنا طويلا محتكرا على الأمراء ومجالسهم مما خلق عند المحرومين
نوعا من أدب الحرمان، وقد لجأ بعض المتعلقين به إلى استخدام الصمغ العربي وكذا بعض
الأعشاب بديلا عن الشاي نظرا لندرته، وأصبح للسكاك (المتطفل) سلوكا خاصا وظلت
المرأة مبعدة منه مثلما أبعدت عن أشياء أهم، وقد سمي به بعض الشعراء إلى أن جعله
توأم العلم حيث قال:
فلا عيش يطيب بغير علم ٭ ٭ وكأس في العظام لها دبيب
فلولا الكـأس مـا شرحت صدور ٭ ٭ ولولا العلم ما عرف اللبيب
ومن الذين خصصوا مقطوعات شعرية للأتاي العالم الموريتاني الكبير باب ولد الشيخ
سيديا الذي يقول:
يقيم لنا مولاي والليل مقمر ٭ ٭ وأضواء مصباح الزجاجة تزهر
كؤوسا من الشاهي الشهي شهية ٭ ٭ يطيب بها ليل التمام ويقصر
تخير من تجار طنجة شاهها ٭ ٭ وخير لها من ثلج وهران سكر