تقاطيع أنهكها التعب وقيظ الصيف، وجيوب
خاوية عجز أصحابها عن مواجهة غلاء الأسعار جراء تدهور الوضع الأمني في البلاد منذ
اندلاع أزمة الولاية الثالثة للرئيس بيير نكورونزيزا.. هكذا استقبلت الأقلية
المسلمة في بوروندي شهر رمضان، لتلحقها بقائمة ضحايا أزمة بعثرت تفاصيل حياة
أفرادها بشكل كامل.
تبعات الأزمة في بوروندي امتدّت لتؤثر بشكل كبير على الروح التضامنية التي كانت
سائدة بين المسلمين، نظرا لغلاء الأسعار مقابل تدنّي القدرة الشرائية للسكان، فلم
يتبقّ أمام هذه الأقلية سوى الصلاة طلبا لغد أكثر إشراقا.
في بويونزي، إحدى ضواحي العاصمة البوروندية بوجمبورا، والتي تضمّ 80 ألف ساكن،
معظمهم من المسلمين (98 % بحسب تقديرات شبه رسمية)، انكبّت 3 نساء على تحضير وجبات
الإفطار، والواقع أنّ العبارة الأخيرة لا تتلاءم مع تلك الأطباق شبه الفارغة والتي
لم تكن تضمّ سوى كميات ضئيلة من الطعام.. “إنه إفطار الفقراء”، هكذا قالت إحداهن
بحزن وهي تتأمّل الطبق الفارغ أمامها.
الأسباب الكامنة وراء افتقاد وجبات الإفطار لأدنى المقوّمات الغذائية يعود بالأساس
إلى الغلاء المجحف الذي تشهده المواد الأساسية في البلاد، إضافة إلى الانعكاسات
الوخيمة لموجة الاحتجاجات التي تشهدها البلاد منذ حوالي شهرين، تنديدا بترشح الرئيس
بيير نكورونزيزا لولاية رئاسية ثالثة، والتي ألهبت شوارع القرى والمدن، وعصفت
بمؤشرات اقتصاد صنّفه البنك الدولي، من بين الاقتصادات الأكثر ضعفا في المنطقة.
توليفة من المعطيات كان لابدّ وأن تؤثّر بشكل سلبي على المقدرة الشرائية للسكان.
وبما أنّ ارتفاع الأسعار يشكّل النتيجة البديهية لتفوّق الطلب على العرض في
الأسواق، فقد أدت الأزمة البوروندية إلى زيادة كبيرة في الأسعار، وثمن الكيلوغرام
الواحد من الفاصوليا أضحى يباع بألفي فرنك بوروندي (1 دولار)، بعد أن كان معروضا
بألف واحدة (0.5 دولار)، فيما يباع الكيلوغرام الواحد من الأرز بأكثر من دولار، رغم
أنّ سعره لم يكن يتجاوز، قبيل اندلاع الاحتجاجات، نصف الدولار، والأمر سيان بالنسبة
للسكر والذي لم يكن ثمنه يتجاوز الدولار الواحد، إلا أنه أصبح، اليوم، يعرض للبيع
بما لا يقل عن 1.25 دولارا.
أليما، سيدة بوروندية مسلمة تعيش في ضاحية بويونزي، قالت للأناضول، إنّ “جميع أسعار
المواد الغذائية شهدت ارتفاعا، وبصدق، أرى أنّ شهر رمضان هلّ علينا هذا العام ونحن
في أحلك الفترات”.
سكان بويونزي يتّفقون جميعا على أنّ انعدام الأمن هو ما تسبّب في ارتفاع الأسعار،
وأليما عادت لتوضح أنّ “معظم الناس في هذه المنطقة يقتاتون من الحرف الصغيرة مثل
اللحام وصيانة السيارات والنجارة وغيرها، وهذه المهن لم تعد تجد لها زبائن جراء
انعدام الأمن السائد في الفترة الأخيرة”، داعية الله أن يحمي البلاد خلال هذا الشهر
المقدّس.
جمعة نغونزي يمتلك ورشة لإصلاح وصيانة السيارات، لم يمهل مراسل الأناضول لإستكمال
سؤاله، فكان أن قاطعه بانفعال: “الأنشطة لم تعد تدرّ علينا أية أرباح، لأن الناس لم
يعد لديهم أموال، كما أنهم يخشون إصلاح سياراتهم”، قبل أن يضيف: “لا أدري من أين
عساني أحصل على المال من أجل إفطار محترم كل يوم طيلة شهر رمضان، وابتياع ثياب
جديدة لأطفالي في عيد الفطر”.
أمّا فاني، وهي أيضا من مسلمي بويونزي، فترى من جانبها أنه لا خيار أمامها، وأنّ
“المهمّ هو اللجوء إلى الله، والصلاة والدعاء من أجل عودة السلام والأمن إلى
بلادنا”.
ضاحية بويونزي كانت إلى وقت غير بعيد، من المناطق التي تعيش في أجواء من السلام
والتسامح، غير أنّ اغتيال اثنين من المعارضين المسلمين، وهما عبدول نزيمانا، في
الثالث من يونيو/ حزيران الجاري، وزيدي فيروزي، في 23 مايو/ أيار الماضي، أضرم
نيران الغضب في نفوس سكانها المسلمين، وألهب شوارعها باحتجاجات لم تهدأ حتى اليوم.
وفي خضم وضع يتّسم بعدم الاستقرار وبغلاء مجحف في الأسعار، عمّ الإحباط والشعور
بالخوف، واهتزّت المفاهيم لدى الناس.. هكذا وصف عيسى البوروندي المسلم ما تشهده
منطقته منذ اندلاع الاحتجاجات فيها، فـ “لقد تغيّرت الأمور بشكل كبير، والعائلات لم
تعد تجتمع في منزل واحد وتعدّ إفطارا مشتركا بغضّ النظر عن الاعتبارات المادية
والاجتماعية”.
عيسى، وهو أب لـ 3 أطفال، قال أيضا إنه يكتفي، اليوم، عند الإفطار، بتناول طبق من
الأرز والفول وبعض الفواكه.. “هذا كلّ ما استطعت توفيره”، يضيف، بما أنّ “ورشة
إصلاح السيارات التي أمتلك لم تشهد مرور زبزن واحد خلال 3 أيام بأكملها”، داعيا
الساسة في بلاده إلى بذل جهودهم من أجل أن تستعيد حياة السكان نسقها الطبيعي.
وفي بعض شوارع الضاحية، ينتصب بعض باعة الكتب الدينية أمام المساجد، يعرضونها
بأسعار تتراوح من دولار إلى دولارين للكتاب الواحد، إلاّ أنّ الظروف الاستثنائية
التي تمر بها البلاد، جعلت الناس يعزفون حتى عن القراء، بحسب ما أكّده بعض هؤلاء
الباعة ممن إلتقاهم مراسل الأناضول.
مجموعة من الأسباب والنتائج اجتمعت لتشكّل مشهدا صعبا لحياة الأقلية المسلمة في
بوروندي خلال شهر رمضان.. ومع ذلك، استطاعت قوّة الإيمان أن تتفوّق على صعوبة
الأوضاع وضنك العيش. ففي أحياء بويونزي، وعلى جدران المنازل، استعرض بعض المسلمين
أشرطة وثائقية عن حياة النبي محمد (صلعم) وعن تعاليم الدين الإسلامي، في حركة تذكّر
بأنّ قدسية الشهر الكريم تطغى على جميع صعوبات الحياة، وأنّ مسلمي بوروندي، ورغم
أنّ عددهم لا يزيد عن النصف مليون نسمة من جملة 10 ملايين ساكن (إحصائيات 2013)،
إلا أنهم قادرون على كسر الخوف الذي خلفته الأزمة في النفوس، وفقا لشهادات متفرقة
للأناضول.