قال الشيخ مبارك الميلي : لم يقف تاريخ الجزائر حيث وقف ابن خلدون، و إن وقفت الأقلام بعده عن وصل عمله بحلقات من نوع سلسلته، و ذلك مظهر من مظاهر تدليه.
حقّا إن حركة العلم و الأدب لم تنقطع من الجزائر بعد عصر ابن خلدون، ولكن اعتراها الجمود و الشلل، و أصابتها طبيعة الانحطاط المطرد، من تغنّ بفضل السابق على اللاحق تغنيّا مشعرًا بأن ذلك الفضل وهبي لا كسْبي، و إعجاب من المتأخر بالمتقدم إعجابًا ميئشّّا من بلوغ درجته، وإكبار الخلف للسلف إكبار تقديس في غير اقتداء.
لعل الأخ الكريم يريد بحركة العلم و الأدب، الحركة الحاضرة، و لكن الحاضر إنما يبني على الماضي، و الذي تريد مدحه إن لم تجد فيه نعوتًا حقيقة نعتّه بنعوت سببه، على أن للنعت السببي فائدة التذكير الموقظ للشعور، الباعث للعزائم المؤيدة للنصيحة.
إن حركة العلم و الأدب في العصر الحاضر تمتد في ماضيها نحو سبعين سنة يمثلها في نظرنا دوران : الدور المجّاوي القروي، و الدور الباديسي الزيتوني، و لزهادة كتّابنا في هذه المباحث كان هذا التحديد و التسمية من وضعنا في هذا المقال.
المجاوي، هو الشيخ عبد القادر المجاوي، و مجاوة من قرى تلمسان.
تعلم بمسقط رأسه ورحل إلى فارس، و جلس للاستفادة و الاستزادة أمام شيوخ جامع (القررويين) ثم عاد، زار قسنطينة، فاستقر به للتدريس و التصنيف واشتهر ذكره، فأمّه الطلبة من البوادي، و كان يحمل العلوم المقروءة بالقرويين يدرسها بأسلوب يقربها من فهم البليد. فكثر تلاميذه لذلك، ثم توظف عند الحكومة في التعليم الرسمي بقسنطينة ثم بالجزائر : واتفق أن زار بعد ذلك قسنطينة، فتوفى بها و دفن في مقبرتها العامة – رحمه الله -.
و مصادر التعليم في الدور (المجاوي) ثلاثة نرتبها حسب ترتيب أهميتها في نظرنا?.
المصدر الأول التعليم الرسمي. مقسم إلى ثلاث درجات:
الدرجة الابتدائية لها شيوخ في مساجد مخصوصة بمدن الوطن و بعض قراه. و ليست له مدة مضبوطة و إنما يُحد بالامتحان.
و الدرجة الثانية لها ثلاث مدارس بقسنطينة و تلمسان و الجزائر تقبل عددًا معينّا تتفق عليه الحكومة، و سنواتها أربع ينتقل فيها من سنة إلى أخرى بالامتحان.
و الدرجة العالية لها قسم واحد في الوطن بمدرسة الجزائر، و مدتها سنتان. و التعليم الرسمي مع كونه نظاميّا ليس فيه تجديد من ناحيتة العربية . فكتبه قديمة، و طريقته قديمة، نعم تُعلّم الفرنسية في المدارس الثلاث إلى جانب العربية، فاستفاد التلاميذ من ناحيتها شيئًا من حرية الفكرة، و مقدارًا من الشعور، و نصيبًا من تقدير الحياة. و ثمرة هذا المصدر هي التوصل إلى الوظيفة : إما العلمية بالتدريس في المساجد ثم المدارس و إما الشرعية بالانتظام في سلك القضاء الاسلامي و أما القانونية فبالوكالة في المحاكم الابتدائية إسلامية و مدنية.
و فائدة العلم و الأدب من هذا المصدر هي فائدة الحكومات. نعم لكلّ قاعدة شواذ، و لكلّ عموم خصوص، فهناك من خريجي هذا المصدر من نفع بعلمه، و من زان القضاء بسيرته، و من حرك الشعور بأدبه تحريكًا ما.
المصدر الثاني، الزوايا، و هي في القسم القبائلي و لا سيما زواوة مؤسسات علمية، و في غيره مؤسسات طرقية غالبًا.
تدريس بهذا المصدر كتب خاصة في الكلام و الفقه و العربية، و هو يؤوى من التلاميذ الكثير جدًّا، و يزيد على التعليم الرسمي بتحفيظ القرآن و تعليم الرسم المصحفي، و ينقص عنه في حرية التفكير و تربية الملكة، و يتفق معه في قلة الأكفاء من الشيوخ، و ضعف مادة التعليم، و جمود الاسلوب، و يخالفه في توجيه خريجه . فخرجه المصدر الرسمي يتجه غالبًا نحو المادة و العمل لها، و خريج المصدر الثاني يتجه غالبًا نحو الزهادة في الكسب، و فائدة العلم من هذا المصدر تقديس أهله، و فائدة الأدب تحميس المريدين.
المصدر الثالث، التعليم الشعبي، و يكاد ينحصر في تحفيظ القرآن و تعليم رسمه. و هو في هذا أكثر تلاميذ، و أعم مراكز، تجده بالمدن و القرى و البوادي.
أما تعليم العلوم فلا تبلغ مراكزه بالوطن كله العشرة فيما أرى.
و التعليم الشعبي يتقاضى معلمه أجرته من جماعة لا يد للزواية في تكوينها، و لا نظام لها في جلساتها و ماليتها، بل يجتمعون عندما تكون للمعلّم حاجة إلى جمعهم، و يقبض المال من كلّ واحد منهم المعلّمُ نفسه.
و ليس لتعليم الزاوية و الجماعة مستقبل ينتظر خريجه، و لا امتحان يكشف عن حال المتعلم. و إنما يتخرج متخرجه باجتهاد الشيخ و إذنه فيأخذ في البحث عن عمل، فلا يجد عند الشعب و الزاوية لمهمته محلاً إلاًّ قليلاً، ثم لا يجد إلاّ الحَزابة تلاوة حزب مقدر في وقت معين بمسجد خاص.
إن دراسة هذا الدور المجّاوي تنتج أنه لا يختلف عن أدوار الانحطاط قبله إلاَّ في التعليم الرسمي، و إنما أضفناه إلى هذا الشيخ لكثرة تلاميذه فيه لا سيما بعمالة قسنطينة، و قد كان لعهده شيوخ علم و تعليم، و لكنهم لم ينتجوا إنتاجه و لا شهروا شهرته.
و قطعنا هذا الدور عمَّا قبله لأن نبغاء الأدوار السابقة عليه لم يتصل معهم نهضة يعدون نواة لها. أما الدور المجاوي فقد اتصل بالدور البادسي دور اليقظة و النهوض.
و أشهر علماء هذا الدور الشيخ حمدان الونيسي القسنطيني الذي هاجر إلى المدينة المنورة، و توفي فيها رحمه الله. و هو من تلاميذ الشيخ المجاوي.
و أشهر أدبائه و لكن من غير تلاميذ المجاوي الشيخ عاشوري الخنقي من (خنقة سيدي ناجي) على أبواب صحراء قسنطينة، كان هجاءًا بليغًا قلما يجيد في الثناء، قويًا قريضة، ضعيفًا نثيرة، و لم يدوّن من شعره الكثير القصائد، القليل الأغراض الأدبية، إلاَّ مادوّنه هو نفسه في سفر لطيف. و هو خاص بقضية (الشيخ صلح بن مهنا) الذي حمل حملة عملية أثرية على الطرقية و مدّعي الشرف. و قد سمى سفره ذلك منار الأشراف على فضل عضاة الأشراف و مواليهم من الأطراف نهض لنقضه منافسه على زاوية (الهامل) الشيخ محمد عبد الرحمن الديسي، من جنوب عمل الجزائر و سمى نقضه *هذم المنار و كشف العوار*.
و يغلب على هذا الدور التقرب من الزوايا أو التسليم لشيوخها أحياء أو موتى، و كان الشيخ الصالح بن مهنا – رحمه الله – ممن ارتحل إلى المشرق و قرأ بالأزهر فلما عاد إلى قسنطينة وولي إمامة جامعها الكبير أعلن نكيره على العجزة من أبناء الأشراف و الزوايا و على القضاة في حكمهم بما في الأعمال السياسية و إن خالف الثابت في الصحيحين. فلقى في ذلك عن الشيخ المجاوي و تلاميذه و الشيخ عاشور و مغرية ما لا قبل لأحد به. و لم يجد معه غير فؤاده المشيع و قلمه المصمى. فلقد كان كاتبًا بليغًا و محدثًا فقيهًا.
و لم يترك لنا هذا الدور من الآثار القلمية المعبرة عن روح عصره غير ما كتب في هذه القصة. و ما عداه من التأليف و القصائد تقول فيها الأدوار السابقة *هذه بضاعتنا ردّت إلينا*.
و مادة التدريس في هذا الدور هي مادة المتن و الشرح و الحاشية فإن كان للحاشية تقارير فتلك سدرة المنتهى، و مادة التذكير و الوعظ في كتب المناقب و الرقائق.
أما التفسير و الحديث فهما محترمان احترام الخليفة العباسي القائل :
أليس من العجائب أن مثلي |
يرى ما قل ممتنعًا عليه |
و تؤخذ باسمه الدنيا جميعا |
و ما من ذاك شيء في يديه |
إليه تُحمل الأموال طرًا |
و يمنع بعض ما يجبى إليه |
تراهم حتى القادرين منهم على فهم التفسير و الحديث و تفهيمهما يكبرون تدريسهما و تحكيمهما إكبارًا منفّرًا لمتبعيهم عنهما، و قادحًا في ديانة من لا يقلدهم في الإعراض عنهما.
و الشيخ المهدي الوزاني – رحمه الله – من علماء فاس و ممن شارك في الحملة على ابن مهنا، كتب رسالة في (السدل) ينقض بها رسالة الشيخ مكي بن عزوز – رحمه الله – في (القبض). و جاء فيها بحديث زعمه دليلاً للسدل و معارضًا راجحًا لدليل القبض. ثم اعتذر بأنه إنما استدل بالحديث مجاراة للخصم.
و لا تدع هذا الدور حتى نسجل أن حركة التعليم به دون حاجة الشعب، فنسبة متعلمي الكتابة إلى الأميّين نسبة ضئيلة مخجلة. و هنا ندع الدور المجاوي معتقدين أننا عرضناه عرضًا يصوّر لنا مبلغ حركته في العلوم و الأدب، و يقف بنا على ما استعادته الجزائر من جامع القرويين إجمالاً.