رشيد محمد يلــوح
الليلة تبدأ رحلتي إلى إيران، المرحلة الأولى تمتد من مدينة أغادير إلى الدار البيضاء، حوالي 500 كلم، نقطعها عادة في سبع ساعات. بعد الوصول إلى البيضاء نستقل سيارة أجرة تأخذنا إلى مطار محمد الخامس الذي يبعد مسافة 12 كلم تقريبا عن العاصمة الاقتصادية للمغرب.
أما المرحلة الثانية من الرحلة فتبدأ من مطار محمد الخامس وتنتهي بالوصول إلى مطار مهرآباد في العاصمة طهران، ومن هذا الأخير تبدأ المرحلة الأخيرة من السفر لتنتهي في مدينة قزوين شمالي طهران والتي تبعد عنها ب150 كلم.
رافقني في هذا المقطع الأول من الرحلة أخي الأكبر. انطلقت حافلتنا تطوي المسافات في اتجاه مدينة الدار البيضاء، مركز المغرب الذي يضطر أبناء الجهات الأخرى إلى زيارته لقضاء أمورهم الضرورية لمعاشهم، سواء كانت اقتصادية أوإدارية أوصحية..واقع موروث عن الفترة الاستعمارية (1912 – 1956) التي كرست المفهوم البغيض: المغرب النافع والمغرب غير النافع..
المغرب النافع يقصد به عادة البيضاء والعاصمة الرباط، حيث تستقر مظاهر من النشاط والتطور، ليبقى المغرب الآخر غارقا في صمته، متعثرا في تخلفه الذي سماه الإعلام الرسمي (الهشاشة)، هشاشة أرغمت الملايين على مغادرة تلك الجزر النائية والبعيدة إما نحو مغربها النافع أو نحو الديار الأوربية وغيرها من بلاد الله الواسعة منذ بداية استقلال المملكة عام 1956م.
نصل إلى البيضاء منتصف الليل، نجدها شبه ساكنة، ومن خلف نافذة الحافلة تتشكل لوحة مدينة مثقلة بآلامها، كلما وصلت إلى هذه المدينة كنت أسأل نفسي: ياترى لو تكلمت هذه الأرض بماذا ستبوح؟
بمجرد وصولنا إلى المحطة الطرقية (أولاد زيان) اتفقنا مع سائق سيارة أجرة كي يُقلنا إلى مطار محمد الخامس، نقطة المغادرة نحو مطار مدينة ميلانو الإيطالية، محطة للاستراحة وتغيير الرحلة في اتجاه العاصمة طهران.
كلما اقتربت السيارة نحو المطار أحسست وكأنني انقلع من جذوري، قاومت هذه المشاعر وأقنعت نفسي أنه لامجال الآن للتراجع، فالهجرة لم تكن قرارا شخصيا، بل كانت واقعا فرض علي كما فرض ولايزال يفرض على الآلاف من الشباب، ومثلهم جميعا كانت أحلامنا الصغيرة تنبت مثل الأزهار الجميلة في حديقة الوطن، تترعرع شيئا فشيئا، ترعاها ظلال البراءة ويسقيها ماء الأمل في عيش كريم، وما أن يقترب موعد تفتحها حتى تمتد إليها يد غادرة لتقطفها صارخة: "المغرب لنا وليس لغيرنا، أخرجوا من هنا أمواتا أو أحياء..نحن الوطن نحن الماضي والحاضر والمستقبل، وأنتم الأشياء الطارئة التي تملئ وجودنا صخبا، أخرجوا..هاهي الأبواب أمامكم مشرعة على المنافي..لاتفكروا في العودة، فلا مكان لكم هنا، إن الوطن محجوز سلفا لذوي الدماء المميزة..".
عرفت الشهور الأولى من حكم الملك محمد السادس أحداثا كبيرة ومفارقة، كان أهمها إقالة الملك لوزير الداخلية الراحل إدريس البصري، الرجل الذي خدم الحسن الثاني بإخلاص شديد لأكثر من 25 عاما. جاءت الإقالة وسط موجة إعلامية حمّلت البصري مسؤولية ما آلت إليه أوضاع البلاد من ترد على كل المستويات. تميزت تلك الأيام أيضا ببعض الانفراج، لمسه المراقبون في مجال الصحافة والحريات العامة، وتُوج لاحقا برفع الحصار عن مرشد جماعة العدل والاحسان الشيخ عبد السلام ياسين، حصار غيب الرجل في بيته 11 عاما، وتأسيس لجنة (الإنصاف والمصالحة) بهدف تصفية ملفات انتهاكات حقوق الانسان التي اعتبرت من مخلفات فترة حكم الملك الحسن الثاني.
صَاحَبَ هذه المواقف ومثلها انتشار واسع لصور الملك الشاب محمد السادس في الأسواق والأماكن العمومية، كان الجميع يرى في ابتسامته وأوضاعه وملابسه ولحيته تغييرا، بل علامات مبشرة لمستقبل أفضل، لذلك شاعت الكثير من الأخبار والتكهنات بين أفراد الشعب بخصوص طريقة تدبير الملك الشاب لأمور مملكة مريضة تبدو عليها أعراض الموت، أو بالأحرى بوادر "السكتة القلبية" بتعبير الراحل الحسن الثاني، كان البعض موقنا بأن محمد السادس هو ملك المغرب الذي سيكون على موعد مع التاريخ عندما سيُغَير طبيعة الحكم من ملكية مطلقة تسود وتحكم إلى ملكية تاريخية تسود ولاتحكم، بينما شك البعض في حقيقة مايجري مؤكدا على أن تاريخ الملكية المغربية يشهد بمثل هذه الأحداث، حيث يصاحب عادة عملية انتقال الحكم من ملك إلى آخر سلسلة من الإجراءات والطقوس التي من شأنها تلطيف الأجواء وطمأنة الناس لكسب ثقتهم..وبعيدا عن هؤلاء تقف جماهير الفقراء والمستضعفين وعيونهم معلقة بهامة الملك الجديد، همهم الأول والأخير الخبز والعيش الكريم..هكذا كانت تبدو الصورة العامة لمغرب نهاية عام 1999م.
نحن الآن في بهو مطار محمد الخامس، لازلنا على بعد ساعة أو ساعتين عن موعد تسليم الأمتعة، اغتنمنا هذا الفارق الزمني لكي نجلس معا في حديث لم يخلو من مشاعر أخوية، ومن إثارة بعض مخاوف رحلة المجهول التي أقبل عليها..فباستثناء بعض الإعلاميين والمثقفين المغاربة الذين زاروا إيران، لاتكاد تسمع عن كون أحد من الناس قد زار هذا البلد من قبل..لذلك كان مصدر رصيدنا من المعلومات حول إيران من تلك المقالات التي كتبها بعضهم في الصحف الوطنية يحكي عن مشاهداته، التي كان كثير منها للأسف مخالفا للواقع، كانت مشاهدات إيجابية وحالمة إلى حد بعيد...
حان موعد تسليم أمتعتي لموظفي المطار، ومعه أيضا حان موعدي مع القدر، موعد مع المشيئة الإلهية الحكيمة، إنها اللحظة التي سجلت موعد لقائي بالفتاة التي ستصبح في ما بعد زوجتي وأم أبنائي..كيف ذلك ؟
وأنا واقف في صف تسليم الأمتعة فاجأني رجل كهل رفقة شيخ وسيدة وفتاة عشرينية، تبين من لهجتهم أنهم من سكان الشمال المغربي، سألني الرجل: هل أنت الطالب الذي سيسافر للدراسة في إيران ؟ أجبته: نعم..فأخبرني أنه خال الفتاة التي بدورها طالبة مسافرة للدراسة معي هناك..ثم عرفني على أمها ووالدها ..وانبرى يوصيني بها خيرا..طمأنته وأكدت له أنها ستكون في رعايتي حتى نصل إلى قزوين..
صعدنا إلى الطائرة، وبينما أحاول نقل أمتعتي لأجلس بالقرب من رفيقة السفر والعمر في مابعد، اقتربت مني مضيفة الطائرة وخاطبتني باللغة الإنجليزية: لاتقلق سأتكفل بنقل حقيبتك لتجلس بالقرب من زوجتك، لازلت أذكر وقع هذه الكلمة الأخيرة في أذني، توقفت مشاعري لثوان قليلة، ثم ابتسمت قائلا في نفسي: ربما قد يكون فألا حسنا..
بالرغم من جلوسي إلى جانبها لم نتكلم كثيرا، كان يغمرني تجاهها إحساس قوي بالمسؤولية، واستمر معي هذا الشعور حتى بعد الوصول إلى إيران، بل وازداد حتى انعقد بيننا رباط الزواج، وشاء الله تعالى لنا أن نركب سفينة المودة والرحمة من الشاطئ الفارسي..
كانت الرحلة بين البيضاء وميلانو كافية لكي أعرف أنها هي الأخرى حاصلة على الماجستير في الأدب العربي من جامعة عبد المالك السعدي بمدينة تطوان، وأنها ستدرس اللغة والأدب الفارسي في نفس الجامعة التي أقصدها، كما شمل حديثنا ما نحن مقبلون عليه..
قبل وصول طائرتنا إلى ميلانو اكتشفنا وجود طالب آخر من مجموعتنا ضمن ركابها، اعتقد أنه كان في 18 من عمره، ينحدر من أصول صحراوية، حصل حديثا على شهادة الباكلوريا ويرغب في دراسة تخصص طبي بالجمهورية الإسلامية..لازلت أذكره جيدا، وجه ضاحك ونكت لاتنتهي..
في زاوية الانتظار بمطار ميلانو الإيطالي جلسنا نحن الثلاثة، أنا ورفيقتي وصديقي حوالي أربع أوخمس ساعات، لتحل بعدها لحظة الطيران إلى طهران. كانت الطائرة ممتلئة بركابها الإيرانيين، وأذكر أن هذه هي المرة الأولى التي أرى فيها عينة من المجتمع الإيراني، لذلك فوجئت لأن غالبية نسائهم لايضعن الحجاب، بل كان لباس بعضهن جريئا للغاية..هذه المشاهد الأولى وغيرها أثارت استغرابنا نحن الثلاثة، لأن الصورة الراسخة لدينا هي أن الحجاب ومراعاة الحشمة مظهر اجتماعي ايراني..مظهر ترعاه قيم ومثل الجمهورية الإسلامية التي كانت لاتختلف في مخيلتي الساذجة عن صورة المدينة الفاضلة..
تعب السفر وهم الوصول إلى المقصد لم يترك لنا فرصة البحث عن أجوبة أسئلتنا التي بدأت تتوالد شيئا فشيئا...
بعد ساعات من الطيران من أوربا إلى آسيا، أعلنت مضيفة الطائرة عن وصولنا إلى طهران، العاصمة التي تمتد في الماضي والحاضر وتبحث لها عن مستقبل..منذ الثورة الإسلامية عام 1979م وإلى اللحظة أصبحت هذه المدينة لاتغادر قصاصات الأنباء العالمية..بل أضحت رقما حاسما في العلاقات الدولية، عاداها البعض معتبرا إياها محور الشر ومأوى الشياطين، بينما تعلق بها آخرون مؤمنين بأنها أمل المستضعفين وباب يرد عن المسلمين شرا كثيرا..في حين حار كثيرون في أمرها ولم يهتدوا إلى شئ بشأن حقيقة أهدافها..
أما الآن فنحن الثلاثة تبدو لنا طهران من السماء كغيمة ضوئية غارقة في ليلها الشتوي، نتطلع إليها بفضول من نوافذ الطائرة، نريد أن نتأملها من أعلى ربما نفهم شيئا من أسرارها..في أعماقي كنت أتسائل عن الأشياء التي تميز هذه البلاد عن غيرها، أقول أحيانا تاريخها، وأحيانا ثقافتها وفنونها، وأحينا أقول ثرواتها وسكانها، وربما شباهتها بالمدينة الفاضلة التي عرفناها في دروس الفلسفة..فهي مدينة يحكمها الفقهاء، ويدبر أمورها أهل الأخلاق والحكمة..مهما فسدت فستكون على كل حال أفضل المدن وأجملها، ومهما ظلم حكامها واستبدوا فسيكونون أرحم الحكام وأعقلهم..هكذا كنت أتخيل الجمهورية الإسلامية..كنت أستفيد من تجاربي الماضية الصغيرة لكي أرسم لها إطارا ذهنيا واقعيا إلى حد ما..ورغم كل ذلك لم يفارقني إحساس بأنني أخطو نحو مجهول..
لم يتوقف ذهني عن التقاط صور المحيط والحركات والرموز منذ أن استقرت الطائرة على أرض المطار..صور متزاحمة ومتلاحقة كل منها يحتاج لوقت طويل كي يكون متاحا للفهم: أذكر منها مسارعة الكثير من الراكبات إلى ارتداء مناديل الرأس أولباس يستر أجسادهن..اللوحات الإرشادية، الألوان والروائح والأصوات، لباس شرطة المطار..وجوه الناس وملامحهم،..صورة الامام الخميني إلى جانب صورتي المرشد الخامنئي والرئيس محمد خاتمي..
بعد انتهاء إجراءات الدخول وتسلم الأمتعة وجدنا موظفين من الجامعة بانتظارنا في زاوية الاستقبال، كانا يحملان لوحة كتب عليها اسم مركز تعليم اللغة الفارسية التابع لجامعة الإمام الخميني الدولية..
كان الجو خارج المطار ماطرا وباردا، لم أترك رفيقتي تجهد نفسها بحمل أمتعتها، خاصة أن علامات الدهشة والسؤال لاتفارق محياها منذ أن وطأت أقدامنا أرض البلاد، لذلك لم أتوانى في طمأنتها بأننا بخير وكل شئ سيكون على مايرام..ولازالت إلى اليوم تذكرني بهذا الكلام وتأثيره في عدولها عن قرار العودة إلى المغرب..
ركبنا جميعا في سيارة دفع رباعي متوسطة الحجم، ثم تحركنا نحو مدينة قزوين، لم يتوقف مستقبلينا عن الترحيب بنا بجمل عربية متقطعة، أما نحن الثلاثة فلم نستطع مقاومة فضولنا لاكتشاف وجه المدينة الغارقة في صمتها الليلي وسكون أهلها..كانت الشوارع مليئة بالأعلام واللافتات الملونة والمزدحمة بالشعارات وصور الخميني وخامنئي وآخرين يبدوأنهم شهداء الثورة..كانت الأيام أيام احتفال بذكرى الثورة الإسلامية، الحدث الذي قاده الخميني عام 1979م بمشاركة كل التيارات السياسية والشعبية النشطة حينئذ..ثورة لم يعرف الإيرانيون إلى اليوم كيف اندلعت ولاكيف انتصرت، كان هناك طبعا تسلسل زمني لأحداث معينة، لكن السر الكامن وراء خروج الناس إلى الشوارع وخروج الملك من البلاد..لايزال غامضا غير مفهوم، أكد لنا هذا الأمر أكثر من شخص، منهم شباب شاركوا بفاعلية في تلك الأحداث التي أصبحت اليوم جزء من الذاكرة الإيرانية..
الطريق نحو قزوين كان واسعا جدا في مسارين، ذهاب وإياب، ويبدو واضحا أنه مجهز بشكل جيد وحديث، إلا أن سيرنا يتباطأ بين الفينة والأخرى بسبب الثلوج ولزوجة الاسفلت، مما كاد يسبب لنا في حادثة قاتلة، حيث انزلقت شاحنة من الحجم الكبير كنا نسير ورائها جانبا لتغلق الطريق أمامنا، اضطر السائق لكبح الفرامل فانحرفنا بدورنا بعيدا وكدنا نصطدم بسيارة أخرى..سيطر سائقنا على السيارة بصعوبة كبيرة..كان الحادث صادما ومخيفا..اعتذر السائق وصاحبه بشدة، وبعد كيلومترات قليلة دعونا إلى شرب شاي إيراني مع حلوى في أحد المقاهي الصغيرة على الطريق..
دخلنا مدينة قزوين مع بزوغ فجر ذلك اليوم، كنا متعبين، كل همنا أن نجد مكانا نريح فيه أجسادنا من تعب سفر طويل استمر لأكثر من 26 ساعة..
كان دخولنا إلى مبنى السكن الجامعي حدثا جديدا، صاحبه اكتشاف أجزاء صغيرة مما كان قبل ساعات مجهولا مطلقا، لحظات حاسمة لم أنساها ولن أنساها ماحييت..