(1) الرقص تحت المطر
في محل لبيع المفروشات وقطع الديكور المنزلي، وقع بصرها على اللوحة:
رأت مطرا أسود يسقط على المدينة
اتضح أنه في الحقيقة رجال بنفس السمت، ونفس القبعة والمعطف الأسودين تهمي بهم
السماء.
ارتجف جسدها من فرط الانفعال..ودت لو تتعرض للمطر الجميل، وتضع دستة رجال في الجيب،
كلما تنمّر أحدهم تضربه بالآخر..
لو يسقط واحد على الأقل في يدها تنهي به زمن العنوسة الذي طال، وتفرح بأيامها
المقبلة
- إنها لوحة للفنان "ماجريت".. الذي يعتبر...
لم يكن لها مزاج لسماع البقية
كانت تتمتم في ابتهال:
- سر يا "ماجريت" لهلا يحرق فيك شي عظم.
و تحلم
بالرقص تحت المطر.
''الرقص تحت المطر'' تحفة بناء سردي . قرأتها أكثر من مرة و
في كل مرة كانت تتولد بداخلي رغبة في معاودة القراءة . هذا لا يحدث لي دائما . و
لكن بعض النصوص تملك هذه المغناطيسية الفنية .
إن العنوسة التي هي مدار القصة . أصبحت مشكلة المشاكل في عالمنا العربي . و هي من
المشاكل المسكوت عنها . مع أنّ كلّ أسرة تعاني منها ما تعاني.
العانس وقفت في متجر للمفروشات و قطع الديكور المنزلي . لربّما لتمني النّفس بأثاث
البيت الذي تحلم به ... و لكن لوحة ( ما جريت ) التي تمثل السماء تمطر رجالا
استوقفتها و تمنت لو تأخذ دستة رجال تضعها في جيبها،لتملكهم جميعا و كلما تجبر
أحدهم ترسل عليه الآخر . ثمّ عادت إلى نفسها ، تمنّت فقط رجلا واحداً ، لتفرح
بأيامها المقبلة و لكن الرجال الرجال ... و هم يتساقطون من السماء ... كانوا وتيرة
cadence إشباع لرغبة عطشى جعلتها تتمتم بابتهال و دعاء للرسام : (لهلا يحرق فيك شي
عظم. ) أي تدعو الله ألا يجعله من أهل النار . و لم يعد يهمها أنّه غير مسلم . أو
لا يصح لها أن تدعو له كذلك.لأنّ المسألة عندها مسألة إشباع و ارتواء. فإذا كانت
الأسرة و الأهل و المجتمع قاطبة أداروا ظهورهم إليها، و تركوها وحيدة لهمومها و
معاناتها...فلوحة ( ما جريت ) وحدها خففت من لوعتها، وحرّ ظمئها فكانت نوعاً من
التّعويض الوهمي . ذاك أنه كلما عانى الإٌنسان حرمانا ما . بادر إلى التّعويض و لو
في الأحلام ، أو أحلام اليقظة ، أو الوهم التّخيلي في الأشياء. أي بمعنى أنّ
الإنسان يملك آلية التعويض الذّاتي compensation لهذا نجد العانس في قمة انتشائها ،
تحلم بالرّقص تحت المطر. لأنّ مطر اللوحة رسخ في عقلها الباطن ازدواجية المطر و
الرجال . الرجال الذين كانوا يتساقطون من السماء ... و هي فرٍِحة جذلى و نشوى بهذا
الذي يتساقط بكثرة ، و لا تريد منه إلا واحداً ، و واحداً فقط .
نحن أمام تحفة فنية نفسية. تعالج بشفافية رمزية نفسية عانس. وتعكس بصوت واضح مكلوم
، رغبة دفينة مسكوت عنها ، رغم ما تفرزه من حرمان و معاناة.
فقط أرى أن العبارة : ( لم يكن لها مزاج لسماع البقية) لا تفيد النص في شيء بل تخلق
اضطراباً في تلقي الخطاب و هي مجرد حشو . إذ كيف لا يكون لها مزاج و هي مبتهجة ب (
ماجريت) ابتهاجا منقطع النظير؟ و تدعو الله ألا يحرق منه عظماً . القاعدة المتعارف
عليها ؛ إن من نحبه و نعجب به ؛نتمنى أن نسمع عنه كلّ شيء و بالتفصيل الممل أليس
كذلك ؟
(2) شعرة الرشيد
لاشك أن من بين أحلى متع الحكم,
تمكن الحاكم من استطلاع أحوال الرعية في حالة تنكر.
هكذا تنقل الحكايات الشعبية عن هارون الرشيد صورة الخليفة الذي يسري في ليل بغداد
مع وزير وسياف, في هيأة تنكرية..يخالطون الناس ويعيشون وضعيات بالغة الطرافة .
إنها حياة ثانية..
تتخلق في المسافة الدقيقة بين الحياة والفن, الواقع والخيال, وتخلق متعة لا تضاهى:
متعة أن تلعب دورا خلوا من أي ميثاق, تبدو فيه المغلوب على أمره, بينما أنت صاحب
الأمر والنهي.
لقد عاشر الرشيد في حياته الثانية تلك مختلف فئات الشعب, من حمالين وصيادين ووراقين
ورجال شرطة وكتاب دواوين ووزراء ولصوص..
وفي إحدى الليالي, وقد أحس بملل لا يطاق, تنكر في زي غريب..وتسلل من قصره عبر مسرب
سري كثير التعرج وشبيه بمتاهة..ثم عاد من الباب الرسمية في صفة رسول دولة معادية,
كي يعلن الحرب على الخليفة.
هذه القصة على طولها النّسبي بسبب الحشو، جاءت تحمل رؤية
تنكرية. يستلذ و يتمتّع فيها البطل بما يقوم به من أدوار تجعله يعيش بين حياتين
مختلفتين bifacial : حياة القصر و البلاط و الجاه و الخلافة و السلطة .... و حياة
عامة الشّعب بكلّ ما فيها و ما لها و ما عليها ... و قد عبّر عنها السّارد : (تتخلق
في المسافة الدقيقة بين الحياة والفن, الواقع والخيال, وتخلق متعة لا تضاهى: متعة
أن تلعب دورا خلوا من أي ميثاق, تبدو فيه المغلوب على أمره, بينما أنت صاحب الأمر
والنهي. )
إلا أنّ ما لفت انتباهي في هذا النص أنّ السّارد جاء ثرثاراً شارحاً ما لا يقبل
شرحاً و موضحاً ما هو في غنى عن التّوضيح ... فأفسد فنية النص إذ يمكن أن نعتبر كلّ
الشّرح و التفسير أمراً خارجاً عن السياق، لا يمتّ للنص بصلة كتابية.لأنّ ذلك ما
يجب أن يخرج به المتلقي لا أن يقال له بلغة مباشرة شارحة موضحة.... فـإذا حذفت
ثرثرة السّارد ، سيصبح النص ـ إن سمح القاص ـ قصيراً كالتالي و لا يفقد شيئاَ من
دلالته ومغزاه :
( لاشك أن من بين أحلى متع الحكم, تمكن الحاكم من استطلاع أحوال الرعية في حالة
تنكر.
لقد عاشر الرشيد في حياته الثانية مختلف فئات الشعب, من حمالين وصيادين ووراقين
ورجال شرطة وكتاب دواوين ووزراء ولصوص..
وفي إحدى الليالي, وقد أحس بملل لا يطاق, تنكر في زي غريب..وتسلل من قصره عبر مسرب
سري..ثم عاد من الباب الرسمية في صفة رسول دولة معادية, كي يعلن الحرب على الخليفة.
)
و هكذا بإيحاءات حكايا التاريخ القديم ( عهد هارون الرشيد ) جعلَنا النّصُ نعيش
حالة من التمفصل المزدوج double articulation. و يبقى أجمل ما في هذا النص قفلته :
(عاد من الباب الرسمية في صفة رسول دولة معادية, كي يعلن الحرب على الخليفة. )
بمعنى إبعاداً للملل . و رغبة في تغيير الدور الأساس و الخاص . و في حالة انعدام
العدو ، جعل الخليفة من نفسه عدوا لنفسه .
أما عن العنوان ( شعرة الرشيد ) ؟ ! فيبدو و كأنه لا صلة له بالنص . فشعرة معاوية
معروفة . أما شعرة الرشيد فتبدو غريبة !! فلا غرابة ، لأنّ معاوية كان لا يقطع
الصلة بالرّعية ، و يبقي العلاقة قائمة دائماً حتى مع الأعداء و لو بمقدار شعرة . و
الرشيد ، كان يجد في حالة التنكر ملاذاً آمنا و مفيداً لمعرفة رؤية الرّعية و
الاقتراب من همومها و أفكارها و تطلعاتها . و كأني بالنص يقول : كلّ وشعرته في
علاقته بالآخر .
(3) القئ
ذاك الذي لا تخطئه العين؛ حين يتم الحديث عن الثراء الفاحش
داهمه القئ فجأة فلفظت بطنه كل ما أكل:
عرق الآخرين، الإكراميات، الهدايا العينية، الأراضي المفوتة بدرهم رمزي ، الأموال
المكتسبة بطرق غير شرعية والعمارات..
وروحه التي جرفها السيل فاستوت بين الملفوظات كدمل طافح بالألم.
إنّ بعض القصص تأخذك عنوة ورغم أنفك إلى بعض من ذكرياتك
القديمة . فمما أذكره من أيام الصبا أن أحد الأثرياء كان يمر بنا و نحن نلعب في
الحي و كان له كرش كبير . و يسير و هو يجفف عرقه ، و يرسل لهاثه من حين لآخر و كان
صديق لي كلما رآه قادماً يقول : ( كرش لَحرام) . و في صغري يومئذ لم أولي العبارة
اهتماماً .
و ها أنا أقرأ ـ النص بعد كلّ هذه السنوات ـ لأستعيد العبارة القديمة . و كأنّ
السّارد يقولها مرة أخرى بلغة و أسلوب مختلف .
إنّ الثراء الفاحش لا معنى له في النص إلا : (أكل:عرق الآخرين، الإكراميات، الهدايا
العينية، الأراضي المفوتة بدرهم رمزي ، الأموال المكتسبة بطرق غير شرعية والعمارات..
) و هذا ليس نتيجة ذكاء باهر أو فطنة خالصة . إنما تحايل على اسكات القانون ، و
إخراس العدالة ... و فتح المجال للمحسوبية و الارتشاء و القفز على النظم و الشرائع،
و بناء صرح من دموع و آلام الفقراء و المستضعفين. فالثراء الفاحش ، يساوي القيء
الكريه العفن ، الذي تتقزّز منه النّفس و تشمئز .
فالنّص إذاً أحديّ الدّلالة ، على عكس ما ألفنا عند القـاص . أمّا أسلوبياً
فقـــــد استوقفني فعل ( يتمّ ) و هو يدل على الحال و الاستقبال . و الفعل ( داهمه
) و هو يدل على الماضي فوجدت أنّ المعنى لا يستقيم مع هذا الخلاف الزّمني . ( ذاك
الذي لا تخطئه العين؛ حين يتمّ الحديث عن الثراء الفاحش داهمه القئ فجأة فلفظت بطنه
كلّ ما أكل: ) فنقول : ( يداهمه ) و ربّما هو خطأ في الطبع . و كذلك ( لفظت بطنه )
فمن باب الإٌيجاز ( لفظ كلّ ما أكل ) بمعنى رمى به و طرحه، و مفهوم أنّ اللّفظ لا
يكون إلا من الفم. و ما يندلق و يخرج لا ينبعث إلا من البطن . و لكن يبدو أن القاص
يلحّ على البطن و ما اكتنزت. حتى أنّ الروح و هي( من علم ربي ) لفظت: (كدمل طافح
بالألم ) إمعاناً في المادة، و مادية الأشياء . إشعاراً للمتلقي بنفسية و شراهة و
انتهاء فاحش الثراء ، الذي قد ينتهي فجأة و يترك كلّ شيء لورثة فاسدين مفسدين
يبذرون الإرث الحرام في الحرام . أو يترك ذلك لعريس أرملته ، ربما كهدية غير مقصودة
.
(4) زبون ـ 1
جدران المقهى ترشح بنغمات قيثارة إسبانية..وهي على مقعدها المعتاد بانتظار
الزبون المحتمل, تغازل سيجارة شقراء بيد, وبالأخرى أرقام هاتفها النقال..وعيناها
على حركة الشارع.
حركة خفيفة مقارنة بأوقات الذروة..أجساد تلوح ثم يغيبها اللهاث, و..شاب يقبل جهة
المقهى بخطى وئيدة..
الشاب الوسيم..حليق الذقن..ذو الخطى الوئيدة يقبل نحو المقهى , وترى فيه زبونها
القادم.."زبون جيد دون شك..يبدو ابن ناس"..معست عقب السيجارة في المرمدة, وتبادلت
مع النادل بسمة متواطئة..
هو الآن لصيق بالواجهة الزجاجية..وسيم وحليق الذقن وابن ناس..
وهي محفزة لأداء دور الأنثى..
نظرة أخيرة: انفجر !
النص يحكي عن لقطات لبائعة الهوى في مقهى تنتظر ضحية ( زبون
) قد تأتيها به الظروف بين حين و آخر . تلهو بسيجارتها ، و تعبث بأرقام هاتفها
النقال ..و عيناها على الشارع و ما يمور فيه . و فجأة ( شاب يقبل جهة المقهى بخطى
وئيدة..) فترى فيه زبونها المنتظر ، زبون : ( زبون جيد دون شك..يبدو ابن ناس ) ابن
ناس ، بمعنى ساذج ( على نياته ) التصق بزجاج المقهى متفحصاً فبدا : و سيماً و حليق
الذقن و ابن ناس ... ( وهي محفزة لأداء دور الأنثى..نظرة أخيرة: انفجر !) و وقع
العصفور في فخ الغواية .
قصة أخرى أحدية البعد .بمعنى لا نستطيع الخروج عن طوق الغواية،و كيف تحدث، و لمن
تحدث ... و لكن يمكن طرح الأسئلة : حول بائعة الهوى ، و من جعلها هكذا تمارس أقدم
وأقذر مهنة في العالم . تعبّ السجائر، و تنتظر الزّبناء في مكـان عـام ( المقهى )
... كما يمكن التساؤل عن الزبون : الوسيم الأنيق الحليق الذقن ابـــــن عائلة
محترمة ، و كيف أصبح في حضن الرذيلة، زبونا غير شرعي لبائقــــــة من بوائق الزّمان
. و معضلة من معضلات الإنسان ...
هذا النص كتب بأسلوب السينما . بمعنى تقنية السينايو . فالمتلقي يقرأ النص انطلاقاً
من مشاهد أو مناظر مختلفة. فعملية تقطيع découpage d’objet بسيطــــــة تشعرنا بذلك
، لنتأمل :
المشهد /1 ـ ( جدران المقهى ترشح بنغمات قيثارة إسبانية..)
المشهد /2 ـ ( وهي على مقعدها المعتاد بانتظار الزبون المحتمل )
المشهد /3 ـ ( تغازل سيجارة شقراء بيد, وبالأخرى أرقام هاتفها النقال..)
المشهد /4 ـ ( وعيناها على حركة الشارع.)
و هكذا دواليك ، إذاً ، النّص يستفيد من كتابة السيناريو أي الكتابة السينمائية .
و هو أسلوب شيّق يحدث خطاباً توسطياً discours médiatisé بين فنين أعدا ليتعايشا :
السينما و فن القصّ .
بعض الملاحظات الأسلوبية : هناك تكرار لا داعي إليه :
ـ ( شاب يقبل جهة المقهى بخطى وئيدة..
الشاب الوسيم..حليق الذقن..ذو الخطى الوئيدة يقبل نحو المقهى )
من الممكن أن تكون كالتالي : (شاب وسيم حليق الذقن ، يقبل جهة المقهى بخطى وئيدة..)
ـ ( وترى فيه زبونها القادم.. ) يمكن القول ( وترى فيه زبونها المنتظر ).
ـ ( نظرة أخيرة: انفجر !) كلمة ''انفجر'' أجدها قلقة مضطربة . لأنّ السؤال :هل من
يتبع اللذة ( الجنس ) ينفجر و يثور و ينفعل و يضطرب .... أم ترى ينهار و يتّبع و
ينساق و يذل و يهان ... ؟
(5) زبون ـ 2
في هذا اليوم الأغبر, و لحدود الساعة, حملت إلى أماكن متفرقة الأشخاص التالين:
زوجين يختصمان في طريقهما إلى المحكمة.
مخمورا لم يكف عن شتم كائنات لامرئية.
امرأة داعرة.
أستاذا قال إن خراب التعليم عنوان خراب الدول.
شرطيا لم يؤد –بالطبع- ثمن الرحلة.
ورجلا لم يفصح عن نواياه..رجلا رهيبا يجلس الآن على المقعد الخلفي, وشبيها درجة
البلبلة, بالصور المنشورة لقاتل سائقي التاكسي المبحوث عنه.
نص على
درجة كبيرة من الإحكام و الفنية القصصية ، على لسان سائق سيارة أجرة و ما يلتقيه في
يومه من أنواع الزبناء : ( زوجان مختصمان ، مخمور ، بائعة هوى ، أستاذ ، شرطي ،
مجرم ) و تتكرر اللقطات السينمائية واحدة تلو الأخرى ، في جمل معبرة دقيقة .
فالسائق لظروف عمله يلاقي أوجاع المجتمع ...منصتا و ربّما مشاركاً و مواسيا... و
أحياناً مهدَّداً في حياته و رزقه . ( و رجلا لم يفصح عن نواياه..وشبيها درجة
البلبلة, بالصور المنشورة لقاتل سائقي التاكسي المبحوث عنه.) نص يحمل القارئ على
التّعرف و الإقبال على شخصية اجتماعية تمتص كالإسفنج هموم الناس يومياً . و تلتقط
رزقها من السياقة و السّماع و الكلام الذي لا ينتهي : حكي ذاتي ، و حكي على .. و
حكي من أجل ... حكي لو رواه السّائق لكان على رأس الرواة قاطبة...
إذاً ، النّص من النّوع التّشاركي الذي يهدف من ورائه القاص حمل المرسل إليه على
مشاركة البطل همومه و معاشه و حياته ... ليس غير . بمعنى أنّ النص لا يسمح بتأويل
مفاهيم، أو إعادة قراءة نتائج خاصّة أو عامّة.
(6) نـار
يحكى أن إنسان العصور القديمة حين قطف الثمار، وحين بذر البذور ورعى القطعان واصطاد
الذبائح..وحين نحت الحجر وجعل من العصا يدا ثالثة، لم يجد في ذلك ما يثير.
حتى التمعت جذوة نار في مجاله البصري كشمس أرضية ضئيلة وواعدة بالمسرة، فصاح من
الدهشة:
- إنها أعطية لم يُعطَها أحد قبلي من الكائنات..إنها حياة ثانية.
كان قد أدرك أنها بداية عهد جديد..
وكان في أقصى حالات الإثارة.
لاشك أن
اكتشاف النار غير العالم. كما غير طباع الإنسان ، و تحكم في انتاجه و إبداعه .... و
لكن في غير هذا و ما يمكن أن يأتي به من تداعيات حول فوائد النار ، هل يمكن اعتبار
هذا النص قصة قصيرة جداً ؟
أعتقد أنّه مجرد كلام فنّي ليس إلا .
(7) غروب
كانت الشمس قد شارفت على المغيب حين عددت العرافة العجوز مناقب الفتى الذي يعرض
أمام فراستها خطوط كفه:
ستقدم على الحياة بقلب جسور, وتتقاطع لديك سبل الحياة بالشعاب الرهيبة لدم
القتل..ستحطم قلب كل امرأة أغرمت بك, وتعتلي قمة تنظيم هرمي يكون الرعب فضيلته
الأساسية, وتعيش وحيدا..وحيدا كلعنة خالدة.
أعرف ذلك بيقين..
باليقين نفسه الذي أعرف به أولى ضحاياك: عرافة عجوزا قرأت لك الكف ذات غروب.
اعترى الفتى بعض شحوب, ذلك أنه أدرك بفظاظة متعالية, أن يقين المرأة هو يقينه الذي
لن تبلبله صروف الحياة, والدليل: المدية التي يستلها الآن من ردنه..والتي تظاهرت هي
بعدم رؤيتها.
هوت الشمس دفعة واحدة..
ولم يسمع للمرأة صوت.
في هذا
النص نحن أمام سارد يعرف كلّ شيء . و يخبر عن كلّ شيء.نص بشخصيتين : الشاب و المرأة
العجوز ( العرافة ) يقصدها ذات غروب فتستعرض عليه مناقبه . و أهم ما جاء في كلامها
بعد استعراض أشياء تخصّه قولها: (أعرف ذلك بيقين..
باليقين نفسه الذي أعرف به أولى ضحاياك: عرافة عجوزا قرأت لك الكف ذات غروب. )
الشّاب أدرك أنّ العرّافة تعرف حتى ضحيته الأولى .و أنّ يقينها في الأشياء يقينه .
و لم تغير ظروف الزّمان شيئاً . فأصبح القتل و التّخلص من العرّافة هو السّبيل
الأنجع فمع الغروب ( لم يسمع للمرأة صوت. )
لكن مع نهاية القراءة تثار أسئلة :
ـ إذا كان السّارد مهيمنا على أبعاد النّص ، و يعرف كلّ شيء. فكيف تعرفُ العرّافة
هي الأخرى كلّ شيء عن الشّاب ؟ ! و ليس مقبولا أن يقال إنّها عرّافة . فلا يعرف
الغيب إلا الله . و لكن ما ينبغي أن يعرف أنّ هذه امرأة معرفتها أدت بها إلى
التهلكة !!
ـ هل جلس إليها الشّاب و حدّثها عن حياته ؟ النّص لا يشير إلى ذلك .
ـ هل العرّافة غير العرّافة التي نعرف، و أنّها رمز لشيء آخر ؟ ليس هناك في النّص
مسوغ يسمح بهذا التّأويل، و بخاصّة أنّ في نهاية النّص نقرأ ( لم يسمع للمرأة صوت )
منذ ذلك الغروب.
إذاً النّص ينفتح على أسئلة . لا يملك القارئ جواباً لها . بل أرى الكاتب أيضاً لا
يملك لها جوابا. فإذا بقيت الأسئلة مطروحة . فمعنى ذلك أنّ نقصاً دلاليا يعتري
الصياغة و لابـدّ من إعادة النظر فيها.اللّهم إذا كان هناك تأويل يعزب عن إدراكنا
.... و فاتنا معرفته !!
(8) العزف
في الطريق إلى الكونسرفتوار تعثر الطفل بشابين يتشاجران. تبادلا اللعنات والبذاءات
وامتهان الأمهات والأجداد.حتى إذا استعرت نار الخصام, أمسكا بتلابيب بعضهما البعض
ولوّح كل منهما بقتل الآخر.
حينها حدث اللامتوقع..
لحن داعب الهواء في رقة..ضاع – بداية- في الجو المشحون مثل رذاذ غريب وغير قابل
للتصديق..لكنه ما لبث أن تفجر نهرا من العذوبة غطى النار والرغبة في السيطرة ومحو
الآخر والشماتة وتوقعات المارة..
صار العقيدة الوحيدة التي من شأن القلب أن يغلق عليها بابه..
التفت الشابان جهة الطفل, ثم تفرسا في بعضهما البعض بعيون حالمة ومفرغة من أي حقد,
ومضى كل منهما في سبيله بخطو بالغ الامتنان.
حقاً قد
يكون للموسيقى فعل السّحر . و قد تغير من مزاج الإنسان، و تحمله على تغيير سلوكه
الثائر إلى سلوك هادئ . و قد تجعله ينخرط في رقص جنوني لا يأبه بمن معه أو من ينظر
إليه ... فخصام الشابين و اقتتالهما...و ضع له الطفل العازف حداً, بل كلّ شيء تغيّر
مع العزف الهادئ.
فهذا من حيث الفكرة التي يحاول النّص تبليغها . فماذا عن النسقية الفنية ؟ هل من
الممكن اعتبار النص قصة قصيرة جداً ؟
نحن أمام نص منفتح يقول كلّ شيئ . بلغة واقعية طبيعية أقرب إلى لغة التقرير منها
إلى لغة القص . يبدو النص عادياً جداً. بمعنى لم يأت صادماً و لامستفزا و لا مثيراً
و لا يبعث على التّأمل يقول كلّ شيء و ينتهي الأمر . فيغيب الفعل القصصيّ . و يحجب
منطق ما بعد القصّ. و هذا ما يجعل النص استعراضاً لحادث في الطريق لا غير. و لعل ما
جعله كذلك ، ميل السارد إلى التّعليق . و توظيف الكاتب للجمل التفسيرية . فلو هذِّب
كلّ ذلك سيتغير النص شكليا، ويصبح ـ إذا سمح القاص ـ كالتالي:
( في الطريق إلى '' الكونسرفتوار'' تعثر الطفل بشابين يتشاجران. تبادلا اللعنات ،وامتهان
الأمهات ... فأمسكا بتلابيب بعضهما البعض....
حينها ، ارتفع لحن داعب الهواء في رقة..ثم ضاع في الجو المشحون مثل رذاذ غريب..
لكنه ما لبث أن تفجر نهرًا من العذوبة غطى النار...
التفت الشابان جهة الطفل العازف, ثم نظر بعضهما البعض, ومضى كلّ منهما في سبيله )
فنلاحظ الإيجاز ، و الإيحاء ، و عدم المباشرة ....
(9) عصير ليمون و عيون دافئة
كانت تشرب عصير ليمون وتتحدث إلى جليستها..استغرقها الموضوع كلية, فلم تنتبه إلى
طيفه المتواري خلف حزمة إعاقات نفسية..
ظل يرقبها بعيون مولهة..حتى إذا قامت, هرول إلى كأس العصير يحضنه في رقة غامرة
النّص
يتطرق لما يعرف بالحبّ من بعيد . و هو نوع خاص من الإعجاب.يجد العاشق نفسه في قمة
العشق و الوله ، و هو يتأمل المحبوب عن بعد . و المسألة نفسية أشار إليها النّص
مباشرة ( حزمة إعاقات نفسية ) أساسها الأول الخجل ، و عدم الجرأة ، و الانطواء ، و
العزلة و الاكتفاء بالنظرة من بعيد . و الاحتفاء بأشياء المحبوب: (هرول إلى كأس
العصير يحضنه في رقة غامرة )
لا شك أنها قصة معبرة. نفسية . فقط : تمنيت لو أن السّارد لم يأت بهذه العبارة : (خلف
حزمة إعاقات نفسية.. ) فهذا من حق القارئ أن يستنتجه. لا أن يقال له .
(10) طفل من زماننا
كان الوقت متأخرا حين جعل الطفل يربت على كتف أمه:
" نامي يا أمي ..
فهناك وحش بالجوار لا يحب النساء مفتحات الأعين..
نامي.."
حتى إذا أحس بأنفاسها قد انتظمت, تسلل على أصابع قدميه خارجا إلى الغرفة الأخرى..
أشعل التلفزيون, واقتعد الأريكة المواجهة لالتماعات الشاشة, في اليد جهاز التحكم
وفي العين ظلال رغبة مكتنزة..
نص من أحسن
النصوص . بسيط جداً، عميق جداً .و أن يكون بسيطاً وعميقاً فتلك معادلة الفن الرّفيع
. التي لا تتأتى للجميع . و لا تكرر نفسها حتى عند خاصة الخاصة من القصاصين . فهي
طفرة فنية تأتي مكافأة للمبدع على اجتهاده و مثابرته و مواظبته في حقل الإبداع و
التّجريب .
'' طفل من زمننا '' كتبت بطريقة عكسية . بدل أن تقوم الأم بإنعاس و لدها . يقوم
الولد بذلك ، و يربت على كتفها مردداً : ( نامي يا أمّي ..فهناك وحش بالجوار لا يحب
النساء مفتحات الأعين..نامي ) يبدو الأمر غريباً ولاواقعياً. و لكن من قال أنّ
الكاتب يبحث عن الطبيعي العادي ؟ من قال إنّه يريد أن يكون كلّ شيء واقعياً ؟
فالحياة أصبحت غريبة ! و الواقع ابتذل و استبدل باللاواقع . فانقلبت الأوضاع رأساً
على عقب ، و اختلفت المفاهيم و الرؤى ...أمام دوامة صراع الأجيال . و مبدأ التهافت
في كلّ شيء ، وامتهان المبادئ و القيم ...
تنويم الأم . هو بمثابة التّخلص من عين الرقيب المانع .( الأنا الأعلى ) لأنّ الطفل
تعتريه رغبة الاطلاع عمّا تخفيه الشّاشة الصّغيرة . فهناك قنوات و قنوات مثيرة ،
سيبحث عنها بجهاز التّحكم ، و سيرى أشياء غريبة فظيعة... ممّا حدثه عنه الرفاق في
الشارع أو في المدرسة ... فالطفل في زماننا لم يعد ينام باكراً ليستيقظ باكراً . و
لم يعد يخيفه وحش في الجوار . بل لم يعد يخجل من رؤية ما يرى الكبار ...