على ناصية شارع الجنرال
شارل ديغول، في قلب العاصمة الموريتانية نواكشوط، يقع واحد من أشهر محلات بيع
ورعاية الورود في موريتانيا، ولكن المحل الذي حصل على سمعة واسعة يواجه مصاعب عديدة
لعل من أبرزها غياب ثقافة إهداء الورود والتعامل معها لدى الموريتاني الذي تغلب
عليه ثقافة مستمدة من تاريخ ارتبط بالصحراء ولم يعرف الورود إلا في بعض الاستعارات
الأدبية.
للموريتانيين منظومة اجتماعية لها مميزات خاصة، تحكم ممارسات الفرد في تعامله مع
الآخر؛ قديما وحتى اليوم، تكثر ثقافة التهادي بين الأشخاص والعائلات وحتى القبائل
في المناسبات الاجتماعية والدينية، كالأعياد وحفلات الزواج والعقيقة وعند السفر
والعودة منه، وهو تبادل للهدايا باعتبارها تبعث التقارب والتواد.
تتنوع الهدايا وتتعدد باختلاف المناطق وقيمة الأشخاص المقدمة إليهم، بالإضافة إلى
الظروف الاقتصادية لمقدميها؛ فمن الموريتانيين من يتهادى بالذبائح ومنهم من يتهادى
بالثياب وهناك من يفضل التهادي نقدا؛ لكن مؤخرا بدأت الهدية تنحو منحا معنويا
تأسياً بممارسات وافدة من مجتمعات عربية وغربية، دأبت على تبادل هدايا رمزية
للتعبير عن مشاعر الفرح والتبريكات والمناصرة وحتى المواساة.
خلال السنوات الأخيرة يلاحظ دخول بعض الهدايا غير المألوفة لدى المجتمع الموريتاني،
ظهرت في صفوف الجيل الجديد "جيل الفيسبوك"، وذلك مع تزايد الاحتفال بمناسبات وأعياد
غير مألوفة محلياً، إذ أخذ المراهقون يقيمون الاحتفالات بعيد رأس السنة وعيد الأم
وعيد الحب "الفلانتاين"، ليتولد لدى الشباب والمراهقين ميلٌ جديد للتعبير عن
مشاعرهم بالورود.
ذلك ما أكده الشاب
"الزاوي" البالغ من العمر إحدى وعشرين سنة، حيث قال إنه قدّم لأمه وردة خلال عيد
الأم الماضي وبأنها فرحت جدا بالهدية "المفاجئة"، كما أنه كان مرتاحا خلال عيد الحب
الماضي حين أهدي وردة حمراء.
يقرّ "الزاوي" أن أقرانه من المؤمنين بالتواصل عن طريق الورود ليسو كثيرين، أو على
الأقل من يعترفون منهم بذلك؛ فهناك شبان ينتقدون هذه الممارسة ويعتبرون أنها لن
تنمو في مجتمع لا يثق في الرمزيات كالمجتمع الموريتاني؛ من ضمن هؤلاء "بدر" البالغ
من العمر 23 عاماً ربيعاً الذي قال إنه لا يعتقد أن هذه العادة ستتجذر في المستقبل
القريب في المجتمع الموريتاني.
وأضاف "بدر": "شخصيا أحب تبادل الهدايا بالورود، وأعتبرها وسيلة لتقليص المسافات
بين الأشخاص، فبإمكانك قول الكثير حول مشاعر المحبة والتضامن وحتى العتاب عن طريق
وردة واحدة؛ لكن لا أظن أن المجتمع الموريتاني يهتم لأمر الورود".
رأي بدر تدعمه تصريحات بائعي الورود، الذين يشتكون من نقص الزبائن خصوصا من
الموريتانيين؛ حيث أكد بعض القائمين على محلات بيع الورود في نواكشوط أن معظم
زبائنهم هم من الأجانب؛ وقال "حسن" الذي يمارس مهنة بيع ورعاية الورود منذ ست سنوات
إن زبائنه من الموريتانيين قليلون جداً، رغم أنهم في تزايد مستمر خصوصاً في صفوف
الشبان والشابات؛ وأوضح "حسن" أن عدم اهتمام الموريتانيين بالورود يعكس طبيعة
التضاريس الصحراوية والجافة التي يعيشون فيها.
يعاني أصحاب محلات بيع الورود ورعايتها من مشاكل عديدة في مقدمتها كثرة تكاليف خلق
بيئة مناخية ملائمة لنمو الورود، ويشرح "حسن" أنهم يدفعون مبالغ كبيرة من أجل إيجاد
أغطية لتدفئة الورود حتى لا تذبل وتشغيل مكيفات خلال فصل الصيف.
ربما هذه الظروف الصعبة التي يتحدث عنها أصحاب هذه المشاتل التي لا تبلغ العشرة،
تنعكس على غلاء أسعار بضاعتهم بالمقارنة مع محدودية دخل المواطن الموريتاني، إذ
قالت الشابة "زينب" العاملة في مجال رعاية وبيع الورود بمقاطعة السبخة، إن زهرة (لا
روز) الأكثر قيمة من حيث الجودة وجمال المنظر يبلغ سعر الباقة منها أحيانا ثلاثين
ألف أوقية (100 دولار) في بعض المناسبات؛ وإن هناك أنواعاً أخرى أقل جمالا تباع
الوردة الواحدة منها بنحو ألف وخمس مائة أوقية (5 دولارات)؛ وهي أسعار يرى البعض
أنها غالية جداً وهي التي تمنعه من اتخاذ الورود وسيلة للهدية والتعبير عن المشاعر.
تقليد استعمال الورود ضمن طقوس الهدايا في المجتمع الموريتاني بدأ يتزايد خلال
السنوات الأخيرة؛ لكن أصحاب المشاتل بنواكشوط مازالوا يعولون في تسويق بضاعتهم فقط
على الأجانب وبعض المؤسسات الوطنية ذات التعاملات الدبلوماسية؛ بالإضافة إلى بعض
الشباب الباحثين عن روح جديدة في ثقافة التهادي، ولكنهم يشكلون استثناءات طفيفة.
صحراء ميديا