لا يبدو أن الرأي العام في باماكو منشغل بما يجري في شمال البلد، بقدر ما تنشغل به المجموعة الدولية.
والحال ليس على اختلاف كبير داخل دواليب السلطة المنقسمة بين رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء وبين الفاعل الرئيسي، المؤسسة العسكرية. لكن حالة ''التيهان'' في الأوساط السياسية لا تعكس واقع معركة الرأي العام التي تأخذ، تدريجيا، مناحي الاستقطاب، بين داعمين لحل عسكري إفريقي وآخر توافقي بين الشمال والجنوب. وبين شقي الرحى يتجادل الرأي العام المالي الدور الجزائري، بفعل انتقادات غير مسبوقة في الصحافة لمواقف الجار الشمالي.
من شوارع باماكو فقط يمكن إصدار أحكام بأن البلد يعيش حالة ''التيه'' السياسي، وتشرد الرأي العام أمام ما يحدث في شمال البلاد. ثلثا الأراضي المالية في الشمال بين أيدي مجموعات مسلحة، وانقسام فاضح في المواقف الرسمية بسبب تفرق ''دم الصلاحيات'' على ثلاث مؤسسات، وهي الرئاسة والحكومة والجيش، هذا الأخير الذي بات اللاعب الأول والأهم في المعادلة المالية، ولأن موازين الأمور انقلبت، عموما، في البلاد، فكذلك حال المؤسسة العسكرية التي بات يقودها ضابط برتبة نقيب (الكابتن) أمادو هايا سانوغو، في وجود عشرات الجنرالات ومئات العقداء.
الشخصية الغامضة للنقيب سانوغو
يحتمي الكابتن أمادو سانوغو بين كتيبة من الضباط الأوفياء، في حي ''كاتي'' في ضواحي العاصمة باماكو، وهو عسكري حاد الطباع ذو مواقف متصلبة كثير التشكيك، على الأقل هكذا بدا لـ''الخبر''، خلال زيارة قادتها إلى قلب الحامية العسكرية في ذلك الحي البعيد بنحو 30 كلم عن وسط العاصمة، عبر طريق عامرة بالتجار في ترحالهم إلى الحدود السنغالية. يحاول العسكر المحيط بسانوغو إعطاء انطباع للداخل، كما الخارج، أن دور الجيش لا يتعدى ''مرافقة الانتقال الديمقراطي'' في البلاد، ويدّعون أن قلب الطاولة على آخر رئيس للوزراء، شيخ موديبا ديارا، كان ''لتصحيح الوضع''، بسبب ''محاولة من نصبناه لصناعة إجماع داخلي التفرد بالقرار السياسي''. في النهاية وجد النقيب سانوغو نفسه في موضع المسير الأول للبلاد قبل رئيس الجمهورية، وبات رصيده الشعبي هو الأهم بين باقي الشخصيات المدنية والعسكرية الأخرى.
الساسة في مالي لا يرون حليفا أحسن من الجزائر، لكن موقفها يطرح تساؤلات.. هي لا تريد تدخلا دوليا، وهي نفسها ترفض أن تتدخل عسكريا، مع أني أتمنى أن يمارس الجيش الجزائري هذه المهمة، دون الحاجة لأي جهة أخرى.
لم يكن على متن رحلة الخطوط الجزائرية المتوجهة إلى باماكو، من دون الرعايا الماليين، غيري وسيدة جزائرية رفقة ابنتها. جلّ الماليين الذين ركبوا الطائرة قدموا من دبي، فالشركة الجزائرية تحاول منافسة شركات إفريقية في ضمان خط دبي- باماكو. تعرّض كثير من المسافرين الماليين إلى تفتيش دقيق من قبل مصالح أمن المطار، بدعوى محاربة شبكات التهريب الإفريقية، ما خلق جوا من الغضب بينهم وملاسنات حادة دفعت أحد الركاب لإطلاق عبارة ''بلد الإرهاب''، وهو يهم بولوج مقصورة الطائرة. لم تكن العبارة تلقائية ولا عفوية، وإنما نتاج تصور شبه عام بين الماليين إزاء دور الجزائر في الفترة الحالية في أزمة الشمال، حيث تساق اتهامات مبرمجة ومتواصلة، في بعض الصحف والقنوات، بأنها ''الدولة الوحيدة التي ترفض محاربة الإرهاب في شمال البلاد''.
جلس إلى جانبي، خلال الرحلة، رعية مالي، في الـ26 من العمر، يدعى دجانكو توري، كان قضى بضع ساعات في فندق متعاقد مع الجوية الجزائرية في عين البنيان في العاصمة بعد قدومه من دبي، شاب ميسور الحال يملك محلا فاخرا لبيع الهواتف النقالة والتجهيزات الإلكترونية في حي ''أسي ''2000 في باماكو، ويضطر، في كل مرة، للتنقل إلى دبي، حيث يعقد الصفقات ويعود. فهم دجانكو توري طبيعة المهمة التي أتنقّل ضمنها إلى باماكو، فقام بإظهار شريط فيديو على شاشة هاتفه ''سامسونغ غالاكسي''، أنجزته القناة الفرنسية الثانية، يصوّر ممارسات ''الشرطة الإسلامية'' التي تتبع حركة التوحيد والجهاد في غرب إفريقيا في مدينة غاو، وكذا خطبا لقيادات في حركة ''أنصار الدين'' في بعض مدن الشمال، تشدد على ضرورة تطبيق الشريعة الإسلامية.
لا يستطيع هذا الشاب المالي تصور فكرة حوار مع تلك المجموعات، تارفية كانت أم غيرها. ليس وحده في مالي من بات يؤمن بأن منطق الحرب في الشمال هو الكفيل الوحيد بإنهاء حالة تمرد استغرقت خمسين عاما، تمثل عدد سنين استقلال الدولة المالية عن فرنسا. حدثني توري عن إسلام الماليين بـ''الفطرة''، ما يعني عدم الحاجة لمن يفرض عليهم تطبيق الشريعة، كلمني، أيضا، عن عدم تفهم الماليين للموقف الجزائري المتحفظ، حسبه، على تحرير الشمال. كان يطرح أفكاره ويستدل، في كل مرة، بمقولة ''لقد قالوا ذلك في الصحف والحصص التلفزيونية''.
الحكومة ستكون منشغلة بأمرين.. تحضير الانتخابات قبل ربيع العام المقبل واستعادة الأجزاء الشمالية للبلاد، نعول على الجزائر في مرافقة الماليين في المرحلة الانتقالية
والحقيقة أن بعض الصحف المالية والقنوات التلفزيونية لا تنفك، في الأيام الأخيرة، عن التعرض للموقف الجزائري، من باب أنه ''المشكلة كلها''، في معركة ليس خافيا في باماكو أنها تدار من طرف قوى إقليمية، لكسب تأييد الرأي العام، ومنح الجزائر ''عدوا جديدا'' يضاف للجبهات المتفجرة على الحدود. ويبدو أن مرافقي، دجانكو توري، أحد عناصر هذا الرأي العام التي باتت تؤمن، فعلا، بأن مشكلة الشمال ''صناعة جزائرية خالصة''.
يعكس مطار باماكو طبيعة الجبهات الثلاث التي تتخاصم الرأي العام في مالي، الجزائر وفرنسا والمغرب، فطائرات الخطوط الجوية الثلاثة كثيرا ما تتقابل على نفس أرضية المطار، في سباق تجاري خلفياته سياسية. فالشركات الثلاثة هي الأكثـر حضورا في مجال النقل الجوي بهذا البلد الإفريقي، وأحيانا يعكس حضورها، أو تقطع رحلات إحداها، حقيقة المواقف السياسية وعلاقتها بما يجري من تطورات سياسية وأمنية، فالخطوط الفرنسية والخطوط الملكية المغربية قاطعتا الوجهة المالية ليلة سقوط رئيس الوزراء، شيخ موديبو ديارا، قبل أيام. كانت تلك رسالة للمؤسسة العسكرية، تقول بعدم رضا باريس والرباط عن خطوة الجيش بإقالة هذا المسؤول، الذي لم يكن الماليون يدركون عنه أكثـر رغبة في إزالة الجزائر من كل الحسابات الدولية التي تتدارس أزمة بلاده.
يعج بهو مطار العاصمة باماكو بالقادمين من باريس، يحملون أمتعة كثيرة، تمثل جزءا كبيرا من التجارة التي تمارس على نطاق واسع في بلد يعيش على المساعدات الدولية. لقد خلّفت فترة حكم الرئيس المخلوع، أمادو توماني توري، في مارس الماضي، عاهات اقتصادية واجتماعية في هذا البلد الإفريقي الغني بموارده الطبيعية والفلاحية، جعلته رهينة مساعدات الاتحاد الأوروبي ودول الجوار، كالجزائر وليبيا في عهد معمر القذافي، ما خلق حالة انهيار شاملة في البلاد وتفشي مظاهر الفساد والرشوة، التي تحولت إلى المعامل الأول في كثير من الإدارات.
الخبر