شارك نحو نصف مليون ليبي في الانتخابات البرلمانية في الخامس والعشرين من يونيو/حزيران الماضي، لاختيار 200 نائب، بينما قاطع ما يقرب من ثلاثة ملايين، صناديق الاقتراع.
ويعود سبب عزوف المقترعين، إلى الاحباط من المرحلة الانتقالية الثانية التي تزعمها المؤتمر الوطني تشريعياً، وحكومة علي زيدان وعبد الله الثني تنفيذياً، وبسبب عدم وجود مشاريع سياسية كبرى تلملم تركة نظام معمر القذافي، وما حصل بعد ثورة 17 فبراير. يحلّ مجلس النواب مكان المؤتمر الوطني الحالي، وهو أعلى سلطة تشريعية في البلاد، على أمل أن يكون البرلمان المقبل صفحة جديدة تخفف من حدة الانفلات الأمني وتوقف النزف من الاحتياطي العام بسبب اغلاق الحقول والمرافئ النفطية.
ويعتقد صحافيون غربيون أن انتخابات مجلس النواب الأخيرة، مثلت هزيمة للتيار الإسلامي بزعامة حزب "العدالة والبناء"، الذراع السياسي للاخوان المسلمين، وأنها عبّرت عن رضا شعبي وقبول لـ"عملية الكرامة العسكرية" التي أطلقها اللواء المتقاعد خليفة حفتر، في 16 مايو/أيار الماضي. غير أن هذه التوقعات والتحليلات نفسها تصاعدت بعد تحقيق حزب "تحالف القوى الوطنية" أعلى نسبة في انتخابات المؤتمر الوطني في يوليو/تموز 2012، حين حقق 39 مقعداً من أصل 80 مقعداً للقوائم الحزبية، ولم يفلح الحزب، على الرغم من هذه الأغلبية، في تمرير معظم مشاريعه السياسية داخل المؤتمر الوطني العام. ومن المستبعد أن يحقق البرلمان الليبي الجديد تقدّماً على صعيدَي التوافق السياسي والتهدئة الأمنية، وذلك ليس بسبب الشخصيات التي منحها الليبيون ثقتهم، بل يرجع إلى ضعف تجربة النواب الجدُد على صوغ تصورات للأزمات الراهنة. ويتّضح من الدعاية الانتخابية لغالبية المرشحين، خلط بين دور المؤسسة التشريعية في سن القوانين والرقابة على الحكومة، ودور المؤسسة التنفيذية في إحالة برامجها إلى واقع مُعاش.
ومشكلة ضعف الرأي العام الليبي في التعاطي مع الأحزاب السياسية ومشاريعها، يجعله عرضة للدعاية قبل أي شيء آخر، والتي ورثتها "ليبيا الثورة" من "ليبيا القذافي"، مثلما ورثت البلاد جميع مشاكلها من النظام المخلوع. فقد انخفض إنتاج النفط من ثلاثة ملايين برميل يومياً عام 1973، إلى مليون ونصف مليون برميل. يضاف إلى ذلك تعثر المشاريع السياسية والاقتصادية والأمنية، الذي لا يعود فقط إلى ظاهرتَي الفساد المالي والإداري، بقدر ما يرجع إلى عدم قدرة هذه المؤسسات المفرغة تماماً من الكفاءات، على استيعاب هذه المشاريع. وتفاقم حالة الفشل في ادارة البلاد، من وضع الاستقطاب السياسي الحاد بين "تيار الثورة" من جهة، و"تيار الثورة المضادة" من جهة أخرى، وشعور الأخير بإمكان كسر التوازن السياسي والأمني لمصلحته. كل ذلك يجعل نظرية الخوف، هي العامل المسيطر؛ فـ"تيار الثورة" يخشى من عودة النظام القديم ومن ثم إبادته، و"تيار الثورة المضادة" يشعر بالابتعاد التدريجي عن المشهد بسبب "قانون العزل السياسي"، وانكسار مشاريعه التي حاول تنفيذها. كما أنّ منع الأحزاب السياسية من المشاركة في مجلس النواب المقبل، يمثل تراجعاً عن التجربة الديمقراطية الوليدة، والسبب في ذلك الدعاية السوداء التي مارسها إعلام القذافي وإعلام "الثورة المضادة" في تصوير الأحزاب السياسية وكأنها جزء من المشكلة وليس الحل. ولعل حالة البراءة من الانتماء السياسي التي مارسها المرشحون في دعايتهم الانتخابية أخيراً، تعبّر عن حالة "شيطنة" العمل الحزبي. سيتعين على الليبيين مواجهة برلمان يمثّل مئتَي عقلية مختلفة ومتباينة، وسيحتاج أعضاء البرلمان الجديد إلى فترة لا تقل عن ستة أشهر حتى يدخلوا في تحالفات جديدة تمثل ما يشبه الأحزاب المؤقتة.
يتوقع أن يكون الصراع حاداً في البداية نظرا لحالة استقطاب النواب المستقلين ما بين الإسلاميين وخصومهم الليبراليين، ثم ينشأ صراع من نوع جديد على المراكز الحساسة في الدولة، والتي تحتاج إلى غالبية، كوظيفة موقع النائب العام، ومدير جهاز الاستخبارات العامة الليبية، ورئيس ديوان المحاسبة، ومحافظ مصرف ليبيا المركزي، والتي كانت محل صراع بين حزبي "تحالف القوى الوطنية" ومن يدور في فلكه، وحزب "العدالة والبناء" وحلفائه تحت قبة المؤتمر الوطني العام. وسيظل منصب رئيس الحكومة المقبلة وأعضائها، محط صراع كبير قد يؤدي إلى تشرذم مبكر في البرلمان الجديد، وقد تحصل هذه الصراعات في ظل غياب المشاريع التي تتعلق بالمصالحة الوطنية، والعدالة الانتقالية، مع بقاء أكثر من مليون ليبي لاجئين بين مصر وتونس، وقد يكون هؤلاء محط جذب "تيار الثورة المضادة" في الفترة المقبلة.كما ستغيب عن أفق البرلمان الجديد، المشاريع السياسية ذات الطبيعة التوافقية، لأنها تفتقد إلى غالبية واضحة، وبالتالي سيظل الوضع الأمني على ما هو عليه إن لم يزدد تشظياً، على الرغم من ترشح أكثر من أربعة نواب من بنغازي، ينتمون للتيار الفيدرالي، منهم ابن الجنرال صقر الجروشي، أحد أهم الأذرع الإعلامية لحفتر.
ليبيا المستقبل