يوجد 5 مفاتيح لوقف الفوضى والاقتتال الجاري في ليبيا. المفتاح الأول هم زعماء قبائل ورفلة والمقارحة والقذاذفة، وكلها منتشرة في عموم ليبيا وتتركز في الوسط. والمفتاح الثاني هم قادة قبائل الشرق خاصة قبائل العبيدي والقطعان والمنفة والفرجان.
والمفتاح الثالث زعيما قبيلتي التبو والطوارق في الجنوب والجنوب الغربي من البلاد. والمفتاح الرابع هو النائب باشاغا وأنصاره، وهو الرجل المعتدل في مدينة مصراتة والمدن القريبة من طرابلس في غرب البلاد. أما المفتاح الخامس والمهم فيتمثل في الجيش الوطني وتركيبته التي تحتاج إلى إعادة هيكلة.
وحضرت «الشرق الأوسط» جانبا من عدة اجتماعات عقدها قادة ليبيون في القاهرة والإسكندرية وفي مدن ليبية خلال الأسابيع الأخيرة، وتبين من خلال المناقشات الهادئة التي شارك فيها رجال قبائل أقوياء وعسكريون مخضرمون ممن لا يحبون الظهور في وسائل الإعلام، أن ما يظهر على السطح من اقتتال وخلافات يعد مقدمة لصراعات أكبر يحتمل وقوعها في المستقبل إذا لم يلتفت العالم ودول الجوار إلى الأطراف الرئيسية التي تملك مفاتيح الحل في هذا البلد الغني الذي يعاني من الفوضى منذ سقوط نظام القذافي في 2011 وحتى الآن.
ولوحظ خلال هذه الاجتماعات أن الميليشيات المسلحة مثل «فجر ليبيا» التي يتركز وجودها في مصراتة وطرابلس وتنظيم أنصار الشريعة الذي يوجد في بنغازي وصبراتة وسرت، وتنظيم داعش الموجود في درنة، كلها تنظيمات هشة يمكن القضاء عليها سريعا في حال توحدت القيادات القبلية والعسكرية والسياسية المشار إليها. لكن الأطراف المعنية بالتطورات في ليبيا، أي أن دول الجوار والأمم المتحدة، مستمرة في التعامل مع ما يجري على السطح فقط «دون الالتفات حتى الآن لمفاتيح الحل الأساسية في ليبيا».
وخلال واحد من هذه الاجتماعات جاء اتصال هاتفي لقائد عسكري وسياسي ليبي، من أحد الوسطاء المقربين من المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة، برناردينو ليون. وكان هذا الوسيط يقيم في دولة اليونان، وقال عبر الهاتف للقائد المشار إليه: لماذا لا تقومون بالاتصال بالسيد ليون.. إنه ينتظر مكالمة منكم من أجل المساعدة في الحل. فأجاب الرجل قائلا: أرقام هواتفنا معه، وكان من الحصافة أن يتصل بنا هو إذا كان يسعى بالفعل إلى وضع حل للمشكلة الليبية، لكنه لم يفعل، فلماذا نبادر نحن بالاتصال.
ويمكن في حال جمع المفاتيح الخمسة المشار إليها، وفقا للنتيجة المبدئية التي أسفرت عنها تلك الاجتماعات، أن يكون هناك شكل للدولة الليبية التي تعاني من التمزق والصراعات. وهذه أهم تفاصيل ما دار في هذه اللقاءات..
بالنسبة للمفتاح الأول، الخاص بزعماء قبائل ورفلة والمقارحة والقذاذفة، يوجد تحت أيدي هذه القبائل عدة مئات من الضباط المحترفين الذين يأتمر بأمرهم ألوف الجنود ممن تركوا الجيش وعادوا لبيوتهم بعد سقوط نظام القذافي. وبعض هؤلاء الضباط رجع وانضم بالفعل إلى الجيش الوطني بقيادة خليفة حفتر، ويوجد في غرفة العمليات برئاسة أركان الجيش حاليا ضباط كثيرون من قبيلة ورفلة مثل قائد سلاح الجو، سعد الورفلي، وهو من معقل ورفلة في مدينة بني وليد.
لكن الضباط الكبار الذين يمكنهم إصدار أوامر بعودة ألوف الجنود السابقين المنتمين لقبيلة ورفلة والقبائل الأخرى كالمقارحة والقذاذفة، للانخراط في صفوف الجيش، ما زال معظمهم بعيدا عن ساحة المعركة ولم يتصل بهم أحد، وبعضهم يعيش في مصر وتونس والجزائر منذ 2011 حتى اليوم. هذا المفتاح المهم المتمثل في قادة عسكريين لديهم اعتبار كبير داخل قبائلهم وبين جنودهم، لم يلتفت إليه أحد على ما يبدو.
ويشير أحد المجتمعين: «حين انخرط عدة مئات من الجنود السابقين مع جيش حفتر في معارك غرب طرابلس في الأسابيع الأخيرة، تحت اسم (جيش القبائل)، تمكنوا من صد هجمات قوات (فجر ليبيا) ومن معها من متطرفين، ما بالك لو انضم للجيش كل الضباط والجنود في الجبهة الغربية».
ويقول أحد القادة ممن شاركوا في واحد من هذه الاجتماعات في القاهرة: لديك أسماء لضباط لديهم القدرة على حشد ألوف الجنود التابعين لهم من الذين تركوا الجيش بعد انهيار النظام السابق، لكن هناك إصرارا على تجاهلهم من جانب البرلمان الحالي وجيش حفتر ودول الجوار والأمم المتحدة.
مثلا حين تذكر اسم الفريق مبروك السحبان، وهو من قبيلة المقارحة فهذا كان آمرا للمنطقة الدفاعية الغربية في ليبيا أيام معمر القذافي، بداية من منطقة ورشفانة قرب طرابلس حتى حدود تونس والجزائر. كل المعسكرات هناك كانت تابعة له.
ويضيف أحد الزعماء القبليين أن «الفريق السحبان يعد رمزا كبيرا داخل قبيلته ويطلق عليه أيضا لقب شيخ قبيلة، وهو ضابط مخضرم ومحترف، واسمه في العسكرية الليبية كبير مثل اسم قادة مصريين تاريخيين كالجمسي وأبو غزالة وسعد الدين الشاذلي. إذا استعان حفتر أو عبد الرزاق الناظوري رئيس أركان الجيش الحالي، بمثل هذا القائد العسكري فأنت تكون قد استعنت بنحو 3 آلاف أو 4 آلاف جندي وضابط، ممن يأتمرون بأمره، لأن لديهم ولاء له ويطيعون أوامره أيا كانت، وسيعودون للانضمام للجيش بكلمة منه. كما أنك لو استعنت بمثل هذا الرجل تكون قد أتيت بكل قبيلته معك وهي قبيلة تنتشر وتحكم من غريان شمالا إلى سبها جنوبا، مرورا بمناطق الشويرف ومزدة والشاطئ. هذه كلها مناطق مقارحة».
وتقول المعلومات التي حصلت عليها «الشرق الأوسط» إن الفريق السحبان يعيش في الوقت الحالي في مصر «التي يوجد فيها ما لا يقل عن 100 ضابط ليبي من رتبة عقيد فأعلى. ولم يتصل بهم أحد لا من حكام ليبيا الجدد ولا من دول الجوار ولا من الأمم المتحدة. كما أن الجزائر يوجد فيها من 20 إلى 30 ضابطا كبيرا إضافة إلى عدة مئات من الضباط الآخرين في تونس».
وتضيف المعلومات أن «مثل هؤلاء، من قبائل ورفلة والمقارحة والقذاذفة عسكريون أداروا معارك للجيش الليبي لمدة 8 شهور تحت قصف حلف الناتو، وصمدوا فيها، بينما الجيش العراقي انهار أمام ضربات التحالف الدولي في 2003 في عدة أيام.. وبالتالي، ونظرا لثقلهم القبلي، فهم يمثلون أحد المفاتيح المهمة لحل الأزمة الليبية سواء اليوم أو في المستقبل».
وبدا من خلال اجتماعات مماثلة عقدت في القاهرة بين أطراف تمثل قبائل ليبية مهمة، بشكل غير رسمي، أن هذه الأطراف لا تعطي اهتماما يذكر لا باجتماعات دول الجوار حول مشكلة بلادهم، ولا بجهود الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة، لسبب بسيط، وهو أن «تلك الدول والسيد ليون يتعاملون مع السطح لا مع العمق.. يقدمون مبادرات لاسترضاء من يظهرون على شاشات التلفزيون سواء من قادة البرلمان والجيش أو من قادة الميليشيات المتطرفة.. يريدون الجمع بين فصائل ليست لها الكلمة النهائية في مستقبل الدولة الليبية».
ولمح بعض المجتمعين إلى أن دولة الجزائر التي تعقد اجتماعات مع أطراف ليبية، كل على حدة، منذ عدة أشهر، سعيا لجمع القادة الليبيين حول مائدة حوار في نهاية المطاف، أكثر الدول تفهما للتركيبة الليبية. وعلمت «الشرق الأوسط» أن الجزائر ربما ستستمع أخيرا لعدد من زعماء القبائل من ورفلة والمقارحة ومن قبائل الشرق أيضا. ويبدو أن تحفظات بعض شيوخ القبائل على الجزائر تكمن كما تردد في بعض الاجتماعات التي عقدت في مدينتي طبرق والبيضا بليبيا، في أنها تعطي أولوية لتأمين حدودها مع ليبيا، أكثر من الجهود المنتظرة لحل الأزمة الليبية.
والمفتاح الثاني المهم في حل المعادلة هم قادة قبائل الشرق خاصة قبيلة العبيدي، التي ينتمي إليها رئيس البرلمان الحالي عقيلة صالح، وقبيلة القطعان وقبيلة المنفة التي ينتمي إليها المجاهد التاريخي عمر المختار، إضافة لقبيلة الفرجان، وهذه القبيلة الأخيرة ينتمي إليها حفتر، لكن كل هذه القبائل لم تتمكن من حسم الأمر، لا في مدينة درنة ولا في مدينة بنغازي، ولا في مدينة سرت التي توجد فيها ميليشيات المتطرفين من «فجر ليبيا» و«أنصار الشريعة» وتنظيم داعش، رغم أن هذه القبائل، ومنها أيضا قبائل معدان وورفلة والقذاذفة وأولاد وافي، وباقي القبائل الأخرى، تمثل العدد الأكبر في تلك المدن من الشمال الأوسط وغالبيتها ضد المتطرفين.
ويقول أحد زعماء القبائل ممن شاركوا في الاجتماعات التي عقد بعضها أيضا في الإسكندرية شمالي غرب القاهرة، إن ألوفا من أبناء هذه القبائل كانوا ضباطا وجنودا في الجيش الليبي السابق، لكن الحكام الجدد يتجاهلون إعادة ضمهم إلى صفوف الجيش الجديد خشية مطالبة الرتب العسكرية الكبيرة بمواقعها القديمة في الجيش، بعد أن قام بعض من الضباط الصغار بترقية أنفسهم من مجرد ملازم أول إلى رتبة لواء، وهو أمر يقف حجر عثرة أمام «تقوية الجيش الحالي».
ويضيف أن الأمر «يحتاج إلى شجاعة من أجل إعادة إصلاح هذه الأمور حتى يكون هناك حسم للمعارك ضد المتطرفين. وإذا لم يجر إصلاح هذه المشاكل الآن فإنها ستظل موجودة لتظهر في المستقبل. لا يمكن التوصل لحلول بتجاهل هذه القوات التي تنتظر وستواصل الانتظار إلى حين. من مصلحة دول الجوار، وأوروبا، إذا كانوا يريدون اتقاء شر الإرهاب مستقبلا، الضغط على حفتر من أجل معالجة وضع الضباط والجنود السابقين لتقوية جيشه، وبالتالي سيضطر لتقديم تنازلات صعبة لكن لا بد منها».
وانخرط عدد كبير من الضباط والجنود السابقين من قبائل المنطقة الشرقية في الجيش، لكن حتى بالنسبة لهؤلاء ما زالت توجد حساسيات بشأن الرتب العسكرية والأقدمية داخل المؤسسة العسكرية، وظهر ذلك واضحا وفقا للمصادر نفسها أثناء معارك بنغازي ضد المتطرفين، خلال الأسابيع الأخيرة، حين لوح بعض القادة، ممن يعدون أنفسهم أكثر أقدمية في الجيش، بأنهم هم من سيتولى الإعلان عن تحرير بنغازي، أمام وسائل الإعلام، وليس حفتر أو الناظوري.
وتخلو مدينة مثل سرت التي يهيمن عليها المتطرفون من أي قوات تابعة للجيش الوطني، منذ الحرب العنيفة التي شهدتها المدينة وانتهت بقتل القذافي فيها. ويقول أحد شيوخ القبائل هناك: «سرت تعرضت لتدمير وقصف من حلف الناتو.. القوة القتالية الرئيسية خرجت منها بعد مقتل القذافي.. مات من مات، واعتقل من اعتقل، وهرب من هرب. ولم يستطع من خرج منها أن يعود إليها. كان ينبغي على الجيش الوطني معالجة هذا الأمر، لكن القادة الجدد يخافون من اتهامهم بإعادة القيادات العسكرية التي كانت في الجيش أيام النظام السابق، وهذا في حد ذاته يعرقل الحل ويؤخره سنوات بل يفتح الباب لمزيد من الاحتقان والتربص».
ووفقا لما دار في عدد من الاجتماعات المشار إليها، فقد تبين من أحاديث المشاركين فيها أن المفتاح الثالث والمهم، للمشاركة في حل الأزمة الليبية والتعجيل بإنهاء الحرب ضد المتطرفين، هما قبيلتا الطوارق والتبو.. «هناك ضابط كبير يدعى علي كنة، وهو أيضا برتبة فريق.. وهو من قبيلة الطوارق، ويطلق عليه الطوارق لقب أمغار، ويعني أمير. وهو الآن موجود في الجزائر.. والطوارق مقاتلون شرسون جدا.. وتحت يد علي كنة ألوف المقاتلين المحترفين في جنوب وجنوبي غرب ليبيا.. من مصلحة من ترك هؤلاء القادة وهؤلاء الجنود بعيدا عن المعارك التي يخوضها جيش حفتر؟ جيش حفتر وحده غير قادر حتى الآن على طرد المتطرفين من مدن درنة وبنغازي وطرابلس وسرت وصبراتة وسبها. فإلى متى؟».
ورغم مشاركة عسكريين كثر من قبيلة التبو في الحرب على المتطرفين خاصة في مناطق الجنوب والشمال الأوسط، فإنه كانت هناك أسئلة لا تجد إجابات، كما بدا خلال اجتماع آخر عقد في القاهرة، وهي: «لماذا لا تأتي من التبو بالقائد العسكري المخضرم، واسمه بركة ورد أجوه.. وهو برتبة لواء ويعد شيخا معتبرا بالنسبة لقبيلة التبو أيضا؟».
أما المفتاح الرابع، وفقا لما دار في الاجتماع المشار إليه، فيكمن في النائب فتحي باشاغا وأنصاره، الذين أصبحوا يمثلون التيار المعتدل في مدينة مصراتة والمدن القريبة من طرابلس في غرب البلاد. ومع ذلك، ورغم أهمية هذا التحول، فإن حكام ليبيا الجدد ودول الجوار والأمم المتحدة «يتجاهلون هذا التيار المعتدل الذي تشكل في أوساط المتطرفين، خاصة داخل قوة (فجر ليبيا)، وهي قوة ضاربة تنتمي بالأساس إلى مدينة مصراتة ويسيطر عليها قادة متشددون من جماعة الإخوان والجماعة الليبية المقاتلة».
ويقول أحد المشاركين في الاجتماع: «إذا لم يسارع المعنيون بحل الأزمة الليبية لمؤازرة تيار باشاغا فإن المتطرفين في الغرب يمكن أن يقضوا على حركته في المهد، وبالتالي إطالة أمد الأزمة الليبية.. يوجد قادة لكتائب مهمة في مصراته، منها كتيبة الحلبوص وكتيبة المحجوب، أصبحوا يميلون إلى إيجاد حلول سلمية بدلا من الاقتتال الذي تصر عليه قوة (فجر ليبيا)، لكن مثلهم مثل تيار باشاغا، لا يجدون المساندة لا من الداخل أي من البرلمان والجيش حتى ولو بشكل سري، ولا من الأطراف الإقليمية والدولية».
أما المفتاح الخامس والمهم فيتمثل في الجيش الوطني نفسه وتركيبته «التي تحتاج إلى إعادة هيكلة.. قادته مثل حفتر والناظوري يتخوفون من وصمهم من جانب المتطرفين بأنهم يستعينون بقادة من جيش القذافي، بينما كان ينبغي على قادة الجيش الوطني أن يعلنوا صراحة أن عقيدة القوات المسلحة لا دخل لها بالتوجهات السياسية».
ويضيف أحد القادة القبليين: «نحن نقول كيف تريد من الجيش السابق أن يحارب معك، وأنت لا تريد أن تضم قياداتهم السابقة ولا تريد أن تعطي لهذه القيادات مكانتها واحترامها، حتى لو لم تعدها للعمل في الجيش بشكل رسمي. مجرد أن تعطي الاعتبار لهذه القيادات وتدعوها للانضمام للعمليات القتالية ضد المتطرفين، ولو معنويا، ستجد معك قوات كبيرة ومعتبرة من الجنود والضباط الذين يعزفون في الوقت الراهن عن المشاركة من قبائل ورفلة والطوارق وترهونة وغيرها.
وظهر من خلال هذه الاجتماعات أن بعض القادة القبليين تحدثوا مع رئاسة الأركان الحالية في الجيش الليبي عن حاجة البلاد لإعادة مثل هؤلاء الضباط بجنودهم للخدمة من أجل سرعة حسم المعارك قبل تفسخ البلاد ودخولها في المجهول.
الشرق الأوسط