ارتفع منسوب حدة الرياح الساخنة التي تعصف بحركة النهضة الإسلامية التونسية منذ مدة، لتتخذ هذه الأيام مسارا دائريا يُنذر بعاصفة لولبية قد تُزعزع مكانة راشد الغنوشي وتُخلخل أركان مرجعيته الدينية والسياسية التي راكم مفاعيلها على امتداد نحو 24 عاما.
وتُشير المُعطيات والتطورات التي تشهدها هذه الحركة المحسوبة على جماعة الإخوان، إلى أن عوامل اندلاع هذه العاصفة بدأت تتجمع وتقترب كثيرا من راشد الغنوشي الذي يرأس حركة النهضة الإسلامية منذ العام 1991، وسط توقعات بانزلاق نحو شرخ عمودي برزت مُقدماته من خلال احتدام الصراع بين جناحي الصقور والحمائم ارتباطا بالاستعدادات لعقد المؤتمر العاشر. ففي تطور لافت في مجريات هذا الصراع، قررت لجنة النظام التابعة لحركة النهضة الإسلامية تسليط عقوبات على عدد من أعضائها تضمنت إجراءات وصفتها بـ"التأديبية" على خلفية عدم الالتزام بموقف الحركة خلال الانتخابات التشريعية التي جرت في العام 2014. وشملت تلك الإجراءات التي تراوحت بين تجميد العضوية لمدة عام والتوبيخ، عبدالوهاب الكافي الذي يُعد واحدا من مؤسسي حركة النهضة، إلى جانب كمال الورتاني وهشام الشوك وفوزي الرماح، وذلك بسبب ترشحهم في قائمات منافسة للنهضة في الانتخابات التشريعية أو مساندة قائمات أخرى مستقلة.
وشد هذا التطور انتباه المراقبين لسببين اثنين أولهما أنه من المناسبات القليلة جدا التي تُعلن فيها حركة النهضة الإسلامية عن مثل هذه القرارات التي تتضمن إجراءات تأديبية ضد أعضائها وثانيا لأن تلك القرارات جاءت بعد نحو 10 أشهر من إجراء الانتخابات، وفي خضم تباين في الآراء والمواقف بين جناحي الصقور والحمائم وسط سجال إعلامي متواصل. وقد سعت حركة النهضة الإسلامية إلى التقليل من أهمية تلك القرارات، حيث وصفها زبير الشهودي مدير مكتب راشد الغنوشي في تصريحات نُشرت أمس، بأنها "إجراء عادي"، وجاء لعدم انضباط المعنيين به. غير أن المتابعين لتطور الصراع داخل حركة النهضة، ربطوا توقيت الإعلان عن تلك القرارات بالاستعدادات الجارية لعقد المؤتمر العاشر للحركة، وبسير النقاش الدائر حاليا حول الوثائق السياسية والتنظيمية والفكرية والمالية التي ستُعرض على المؤتمر. ويقول المُحلل السياسي الدكتور مصطفى التليلي، إن إعلان حركة النهضة عن تلك القرارات يُعد تطورا يتعين التوقف حول مغزاه ودلالاته، لا سيما وأن هذه الحركة “أثبتت خلال السنوات الماضية أنها قادرة على إخفاء خلافاتها، ولها القدرة على معالجة غسيلها الداخلي بعيدا عن الأنظار، وبالتالي ما الذي جد حتى يتم هذا الإعلان”.
واعتبر في تصريح لـ"العرب"، أن المسألة تستدعي الاهتمام ارتباطا بالمستجدات السياسية في البلاد، وبالمراجعات الفكرية التي تسعى هذه الحركة إلى اعتمادها، وخاصة منها القطع بين “السياسي والدعوي” خلال المؤتمر القادم. وفي المقابل، ترى بعض الشخصيات السياسية المقربة من حركة النهضة الإسلامية، أن تلك الإجراءات مرتبطة ارتباطا وثيقا بالتحضيرات لهذا المؤتمر، وذلك من زاوية إبعاد الكوادر والأعضاء التي قد تُخل بموازين القوى التي ستسود المؤتمر القادم وفق حسابات المُشرفين عليه. وتتمحور الخلافات داخل النهضة حاليا حول ثلاث وثائق أساسية الأولى تحمل إسم "الوثيقة التقييمية" التي يُفترض أن تتعرض للمسيرة التنظيمية والسياسية لحركة النهضة منذ 1981، وخاصة تقييم مرحلة 1991 التي تميزت بقرار إعلان الصدام مع النظام القائم وقتذاك، مع تحميل مسؤولية ما شهدته النهضة من ضربات متتالية لمن اتخذ ذلك القرار، والثانية تتعلق بالوثيقة الفكرية التي يُفترض أن تتضمن فصلا بين السياسي والدعوي، بينما الثالثة تتعلق بالوثيقة المالية، وخاصة خلال فترة العمل السري. ويُنظر إلى تلك الوثائق على أنها جوهر الخلافات التي تعصف بحركة النهضة، وهي خلافات شبيهة بتلك الخلافات التي تسببت في انقسام وتشرذم فروع جماعة الإخوان في عدد من الدول العربية منها الأردن، ومصر.
ويُشاطر هذا الرأي، الدكتور مصطفى التليلي الذي قال لـ"العرب"، إن حركة النهضة الإسلامية "مُرشحة لهزة كبيرة، ومُقدمة على شرخ عمودي إن ذهبت نحو حسم جذري تقطع به نهائيا بين الدعوي والسياسي، وبالتالي الفصل بين الذين يتمسكون بالدولة الدينية، والقوى الجديدة التي تساير التطورات والتحولات في تونس وعلى الصعيدين الإقليمي والدولي". وعلى ضوء هذه التطورات التي ترافقت مع تراكم الخلافات داخل حركة النهضة، بدأ الصراع يقترب كثيرا من راشد الغنوشي، وأصبحت مرجعيته مُهددة، وبقاؤه على رأس هذه الحركة يحيط به ضباب كثيف، حيث رأى مراقبون أن تمسك القيادي عبداللطيف المكي بموقفه المتناقض مع موقف الغنوشي بشأن مشروع قانون المصالحة الاقتصادية، إنما هو شكل من أشكال التحضير لإبعاد الغنوشي من رئاسة حركة النهضة. غير أن الدكتور مصطفى التليلي يرى أن الغنوشي الذي استطاع إنقاذ حركة النهضة خلال السنوات الماضية بمناورات سياسية مُتعددة، وأفلح في الحفاظ على الوضع الحالي الذي يتسم بالضبابية، مازال قادرا على المناورة، كما أن حركته لم تفرز بعد شخصية قادرة على الخلط بين الدعوي والسياسي مثل الغنوشي.