في الوقت الذي تحاول فيه تونس لملمة أوضاعها السياسية والأمنية، التي شهدت تدهورًا كبيرًا خلال الفترة الأخيرة، وبعد أن ضخت الحكومة التونسية، بقيادة الحبيب الصيد، دماء جديدة في تشكيلها، من خلال التعديلات الأخيرة، التي شملت 13 وزارة، وحصلت على ثقة 186 نائبًا في البرلمان، لا تزال الانشقاقات والأزمة السياسية التي تعصف بمستقبل الحزب الحاكم “نداء تونس” مستمرة، في ظل محاولات قياديي الحزب رأب الصدع.
نداء تونس.. صراعات وانشقاقات
شهد حزب نداء تونس، الذي يقود الائتلاف الحاكم في البلاد، حالة من الانقسام الحاد والخلافات، التي بدأت منذ شهور على المناصب القيادية داخل الحزب ومرجعية الحزب وهويته، وانقسم الأعضاء إلى فريقين: أولهما يتزعمه نجل الرئيس التونسي حافظ قايد السبسي، والذي يرغب في إعادة هيكلة نداء تونس؛ بهدف توسيع صلاحياته داخل الحزب، والفريق الآخر هو المعسكر اليساري، الذي يتزعمه محسن مرزوق، والذي يشغل منصب الأمين العام للحزب، ويرافقه مجموعة من 30 عضوًا هددوا بالاستقالة؛ بسبب ما قالوا إنها محاولات من حافظ قائد السبسي لتغيير اللوائح؛ من أجل التمتع بمزيد من السيطرة على الحزب، حيث يرى مؤيدو “مرزوق” أن السبسي يحاول توريث السلطة وإعادة النظام السلطوي الذي ميز حكم بن علي.
في نوفمبر الماضي قدم 32 نائبًا من حركة نداء تونس استقالتهم من كتلته في البرلمان، وذلك قبل أن يعلقوها مؤقتًا، ثم يتراجعوا عنها؛ لفتح الباب للمبادرات الوفاقية، وفي 8 يناير الجاري قدم 12 نائبًا استقالتهم لمكتب مجلس نواب الشعب؛ ليرتفع عدد المستقيلين من الكتلة البرلمانية حينها إلى 16 نائبًا، فيما قدم أمس الأول 11 نائبًا استقالتهم من الحزب؛ ما يرفع عدد النواب المستقيلين من الحزب إلى 28 نائبًا حتى الآن.
وعلى الرغم من تعدد الاستقالات والانشقاقات التي ضربت وحدة الحزب الحاكم، إلا أن استقالة الأمين العام لحزب نداء تونس محسن مرزوق، ومعه 17 آخرين، في ديسمبر الماضي، كانت بمثابة التصدع الكبير الذي أصاب جدران الحزب. وجاءت استقالة مرزوق ورفاقة بعد مفاوضات مع لجنة تضم 13 عضوًا من الحزب، كان السبسي قد شكلها في وقت سابق، وأوكل لها مهمة التوفيق وتحقيق التوافق بين من وصفهم بـ “الفرقاء”. لكن مرزوق قال: إن أعضاء اللجنة طرحوا نفس المقترحات، التي كانت جاهزة من البداية، وقدموها قبل مبادرة التوافق، والمؤتمر قائم على طرف واحد، وعلى التعيينات، وغير ديمقراطي، ولن نحضره، وهو مؤتمر تفارقي، يخدم صالح رئيس الهيئة المركزية حافظ قائد السبسي. ووصف مرزوق المؤتمر بأنه “مومياء سياسية”، مؤكدًا أن اللمسات الأخيرة للاستيلاء على حركة نداء تونس تمت، وأنهت مهامها.
استقالة الأمين العام للحزب كرست الخلافات داخل الائتلاف الحاكم أكثر، حيث انقسم الأعضاء إلى فريقين: الأول يدعم أمينه العام المستقيل محسن مرزوق، والثاني يساند حافظ قائد السبسي نجل الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي.
وفي 6 يناير الجاري أعلن المستقيل اعتزامه تأسيس حزب سياسي جديد، وأوضح أنه سيعلن في 2 مارس المقبل عن الحزب أو الجبهة السياسية الجديدة، وقال مرزوق حينها: نحن في حاجة لسياسة جديدة قائمة على الشباب والمرأة والديمقراطية، مشروع عصري ومفتوح وقائم على الحريات، ليس حزبًا محنطًا.
حركة الانقسامات والانشقاقات التي ضربت الحزب الحاكم جعلته هشًّا قابلًا للتفتيت في أي وقت، حيث تسببت استقالة 28 عضوًا في البرلمان التونسي من نداء تونس حتى الآن في تقليص عدد مقاعد الحزب بالبرلمان من 86 مقعدًا إلى 58 فقط، وهو ما يعطي لحركة النهضة التي تحافظ على عدد مقاعدها كما هو، 69 مقعدًا، اليد العليا والأغلبية في البرلمان. ومن ناحية أخرى كان هذا الانقسام والتفتت سببًا في عودة النهضة إلى الساحة السياسية بقوة، وهو ما ظهر جليًّا في التشكيلة الجديدة للحكومة، التي نالت الثقة مؤخرًا، والتي تشارك فيها حركة النهضة بتمثيل أفضل بكثير من الحكومة الأولى؛ لتصبح الحركة من أكثر المستفيدين بالأزمة.
المؤتمر التأسيسي.. هل يُعيد الأمور إلى نصابها؟
موجة الانشقاقات التي ضربت الحزب الحاكم تبعها انعقاد المؤتمر التأسيسي الأول للحزب، تحت شعار “الوفاء” في مدينة سوسة؛ ليكون محاولة جديدة لرأب الصدع، الذي حدث في مكونات الحزب، وتجاوز الخلافات والأزمات التي كادت أن تعصف بتاريخ الحزب السياسي.
وصف رئيس الحركة ورئيس مجلس النواب محمد الناصر انعقاد المؤتمر التأسيسي بأنه جاء بعد مخاض عسير، وأضاف أن الحزب ما زال قائمًا صامدًا بطاقاته الثرية، وأنهم توصلوا إلى رأب الصدع، وتجاوز المنزلقات التي كادت تعصف بالحزب، وتجاوز الأزمات بفضل الحوار. ودعا الناصر إلى ضرورة تغليب العقل والحكمة، والابتعاد عن كل ما من شأنه أن يضعف الحزب.
وأعلن رئيس المؤتمر رافع بن عاشور قائمة أعضاء الهيئة السياسية للحزب، بعد التصديقعليها، والمكونة من 30 شخصًا، بينهم 14 أمينًا وطنيًّا حُددت مهامهم، و16 عضوًا سوف يتم تحدد مهامهم لاحقًا. وضمت هيئة الأمناء التي أفرزها المؤتمر نجل الرئيس التونسي حافظ قايد السبسي مكلفًا بالإدارة التنفيذية والممثل القانوني للحزب، فيما جاء عبد العزيز القطي ناطقًا رسميًّا باسم الحزب، إضافة إلى رؤوف الخماسي، وسلمى اللومي، وبوجمعة الرميلي، وقاسم مخلوف، ورضا بلحاج، وخميس قسيلة، وناصر شويخ، وسفيان طوبال، وأحمد الزقلاوي، ومحمد صوف، وفوزي اللومي، وأنس الحطاب، حيث كُلِّف كل منهم بملف معين.
“الغنوشي” حليفًا
التصديق على قائمة أعضاء الهيئة السياسية لم يكن الإنجاز الوحيد الذي خرج به المؤتمر، بل كان حضور رئيس حركة النهضة “راشد الغنوشي” لافتة سياسية تستوجب التحليل، حيث إنه حضر المؤتمر وسط ترحيب من الجميع، وعلى رأسهم الرئيس الباجي قائد السبسي، وألقى الغنوشي كلمة له في مؤتمر الحزب الأول وسط تصفيق حاد من الحاضرين، وهو ما مثل تحولًا سياسيًّا في سياسة الحزبين المتنافسين.
اختلف المراقبون حول أسباب وأهداف حضور الغنوشي للمؤتمر التأسيسي لحزب غريمه السياسي الباجي قايد السبسي، فالبعض رأى أن الغنوشي حضر المؤتمر ليؤكد أن حزبه لا يزال الأقوى على الساحة السياسية التونسية والمساند الأول لحزب نداء تونس، وليؤكد انحياز حركة النهضة ومساندتها لمؤسس الحزب ورئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي، فيما رأى آخرون أن الغنوشي حضر المؤتمر التأسيسي في محاولة منه لإزالة شبهة تدخل حركته في تفكيك الحزب الحاكم، واعتبر مؤيدو هذا الاحتمال أن أي حديث عن تفاهم بين الحزبين ما هو إلا تصدير للأوهام.
اعتبر الغنوشي أن حضوره المؤتمر التأسيسي الأول لحزب نداء تونس لحظة تاريخية مهمة ومحطة من محطات نضج الديمقراطية في تونس، وأكد قيم التوافق التي تجمع بين كل التونسيين، وقال إنه يرى في تونس طيرًا يُحلق في السماء بجناحي النهضة والنداء، وأضاف أن الطائر ليس مجرد جناحين، بل هو طير يحتاج للجميع، مشددًا على أن تونس تحتاج إلى كل أبنائها، وأن منهج التوافق سيخدم كل الأطراف، وأن من مصلحة النهضة التوافق، كما أن مصلحة نداء تونس تكمن في التوافق.
في الوقت ذاته لم ينفِ الغنوشي وجود تنافس حقيقي بين نداء تونس وحركة النهضة، لكنه أكد أنه مجرد تنافس وليس تناحرًا، وقال: نحن ننتقل من مراحل التناحر والصراع الراديكالي إلى مرحلة المعايشة والمشاركة والتنافس التي تشهدها الأحزاب في كل الديمقراطيات. ونفى رئيس حركة النهضة ما يشاع عن اختراق حزبه لحزب نداء تونس ومحاولة تقسيمه، حيث قال: النهضة لا تنتهج أسلوب الاختراق كما يشاع عنها، والنداء هو من فرض نفسه وليست النهضة من أرادت خلقه. وأكد الغنوشي أن التقارب بين النهضة والنداء هو ثمرة من ثمار استراتيجية التوافق، التي بدأت في لقاء باريس سنة 2013، وأفضت إلى الحوار الوطني والانتخابات وإعطاء تونس دستورًا وهيئات دستورية.
البديل