لنيل العظيم الذي عرف بمصر وعرفت به ولا يكاد أحدهما ينفك عن الآخر، صار قضية حياة أو موت، فهو "خط أحمر" و"أمن قومي" وليس مجرد نهر عذب يروي الأرض وأهلها، و"لن يسمح لأي كان تحت أي ظرف بالمساس بحق مصر فيه".. بهذا الوضوح لخص مسؤولون مصريون موقف بلادهم من قضية توزيع حصص نهر النيل بين دول المصب ودول المنبع.
فدول المنبع -وفي مقدمتها إثيوبيا- ما فتئت تثير هذه القضية منذ عام 1995، وتطالب بتعديل الحصص المتفق عليها عام 1929 بين بريطانيا -بصفتها دولة مستعمرة آنذاك- وبين مصر، ثم عام 1959 بين مصر والسودان، وتعطي لمصر 55 مليار متر مكعب من الماء (87%) وتمنح السودان 18 مليارا.
وإذا كان لمصر التي تعتمد على نهر النيل بنسبة 95% مصدرا للمياه العذبة -كما قال وزير الشؤون القانونية مفيد شهاب- ما يبرر موقفها إذ لا تملك موردا مائيا آخر، فإن دول المنبع التي تهطل فيها الأمطار بغزارة وعندها حاجتها من المياه لكثرة البحيرات العذبة والأنهار تتستر وراء الحاجة إلى "اتفاق منصف" يسمح بإنشاء المزيد من مشاريع الري والطاقة بحسبهم.
ودول المنبع بطلبها هذا ليست بريئة تماما كما يرى النائب في البرلمان المصري إبراهيم الجعفري "فهناك أصابع صهيونية ولا يمكن أن تمر مرور الكرام". وربما لا تكون من باب المصادفة زيارة وزير خارجية إسرائيل أفيغدور ليبرمان ثلاثا من دول المنبع (إثيوبيا وكينيا وأوغندا) في سبتمبر/أيلول الماضي بعد فشل مفاوضات بين دول المصب والمنبع.
المنبع والمصب
يمر النيل من منبعه من بحيرة فيكتوريا حتى مصبه في البحر الأبيض المتوسط بتسع دول سميت دول حوض النيل (بوروندي ورواندا وتنزانيا وكينيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية وأوغندا وإثيوبيا والسودان ومصر)، وانضمت إليها إريتريا بوصفها دولة مراقبة.
وقد فشلت عدة لقاءات بين دول حوض النيل في التوصل إلى اتفاق، ففي اجتماع كينشاسا المنعقد يوم 22 مايو/أيار 2009 اعترضت مصر على نقاط تراها جوهرية وتمس بحقها، وتكاد تكون نفس النقاط التي اعترضت عليها في اجتماع شرم الشيخ المنعقد يوم 14 أبريل/نيسان الحالي مع الدول ذاتها.
وتتلخص اعتراضات مصر في نقاط ثلاث: حقوق مصر المكتسبة في مياه النيل، وضرورة موافقتها على أي مشاريع ستقام في دول حوض النيل، والثالثة أن يكون لمصر والسودان حق النقض.
وتصر دول المنبع على توقيع اتفاق منفرد يوم 14 مايو/أيار المقبل بدون مصر والسودان بعد فشل مباحثات شرم الشيخ الأسبوع الماضي، وفي هذا الإطار صرح المتحدث باسم الحكومة الإثيوبية شامليس كيمال للصحفيين في أديس أبابا أمس بأن إثيوبيا وست دول أخرى ستوقع اتفاقا إطاريا "حول الاستخدام المنصف لنهر النيل".
وأضاف كيمال أن الاتفاقية قائمة على أساس القانون الدولي "ولكن مصر تتلكأ، وجميع البلدان السبع رفضت الاتفاق السابق بين مصر وبريطانيا الاستعمارية".
لكن المستشار القانوني وعضو الوفد السوداني للمفاوضات أحمد المفتي قال في مقابلة مع قناة الجزيرة إن القانون الدولي في صالح مصر تماما، فالمعاهدات الدولية والاتفاقيات تؤيد الموقف القانوني لمصر والسودان.
ولخص المفتي نقاط الخلاف مع الطرح الإثيوبي الساعي إلى اتفاقية جديدة بثلاث نقاط: علاقة الاتفاقية المزمعة بالاتفاقيات السابقة، وإخطار الدول الأخرى إذا أرادت إنشاء مشاريع مائية كالسدود والطاقة، والثالثة أهمية اتخاذ القرار بتوافق الأعضاء.
طرق الحل
يرى محللون أن مصر والسودان تدفعان ثمن عدم وجود إستراتيجيات واضحة في التفاوض منذ الحديث عن الاتفاقية الإطارية، خاصة مصر التي تدفع ثمن بعدها عن أفريقيا بعدما كانت موئل الثورات والحكومات الأفريقية، مما فتح الباب أمام تدخل إسرائيل.
غير أن مصر التي تملك مشاريع مشتركة مع إثيوبيا في الكهرباء ودول أخرى من دول المنبع ردت اليوم على التصريحات الإثيوبية برفع حجم استيراد المواشي الإثيوبية حسب مدير مكتب الجزيرة في مصر حسين عبد الغني.
وقد أرسل الرئيسان المصري والسوداني اليوم -كما أوردت صحيفة المصري- رسائل إلى دول المنبع لفتح الباب أمام مفاوضات جديدة بعد فشل مفاوضات شرم الشيخ.
ومصر التي كانت تمني نفسها بزيادة نصيبها من مياه النيل بـ11 مليار متر مكعب، باتت تكافح اليوم لتبقي على حصتها دون مساس، فقد فرضت المصالح أن تنقسم دول الحوض حول طاولة المفاوضات: مصر والسودان من جهة، والدول السبع التي تبدو كأنها أبرمت أمرها من جهة أخرى.
وبهذا الصدد يقول المفتي إن هناك أملا بمبادرة سودانية أيدتها مصر تمكن من التوصل إلى اتفاق قبل 14 مايو/أيار، فـ85% من المسائل الخلافية تم الاتفاق عليها بالحوار منذ عام 1997، وذكر أنه كانت هناك محاولة لدول المنبع لتوقيع اتفاق في غرة أغسطس/آب الماضي، لكن تم تأجيلها ستة أشهر بمبادرة مشتركة بين مصر والسودان.
والحل كما يقول المفتي لن يكون باللجوء إلى التحكيم الدولي ولكن بالاتفاق الشامل بين دول المنبع والمصب دون "الاتفاقات الجزئية"، وإنشاء مشاريع مشتركة بين دول حوض النيل، وإلا فإن الإصرار على توقيع الدول السبع اتفاقا إطاريا سيفتح الباب أمام نزاعات وحروب.
ففي ما يشبه التهديد قال وزير الموارد المائية والري المصري محمد نصر علام إنه في حال توقيع دول المنبع وحدها على اتفاق فسيكون من حق بلاده اتخاذ ما تراه مناسبا لحماية مصالحها القومية.
وبين المنبع والمصب، يتهادى غافلا عما يدور حوله أطول نهر في العالم (6650 كلم)، عاشت على ضفافه أمم وحضارات ما زالت آثارها ماثلة إلى اليوم.