لكل من يزور فرنسا يرى الازدهار والرفاه والعمران والعقارات الراقية والبنية التحتية الحديثة، الأولى في العالم من حيث الخدمات، ولكن تحت هذه الصورة توجد معاناة كابدها أيادي عمال شباب من المغرب العربي غالبيتهم من الجزائريين، استقدمتهم فرنسا بعد نهاية حقبة الاستعمار وإبان الثورة الجزائرية لاستلام وظائف وأعمال متدنية محفوفة بالمخاطر لا تفرض أي مهارة أو تكوين، عملوا حوالي نصف قرن من دون انقطاع تعرضوا فيها لممارسات لاإنسانية من استغلال وعزل وتمييز وعبودية.
على مرّ السنوات، حاول عمال الجيل الأول الاستقرار في فرنسا من دون الرحيل عنها بسهولة، ليصبحوا اليوم جزءا من المجتمع الفرنسي، إنها قضية تعرف بقضية "الشيبانيين" أي كبار السن، انفجرت مع بداية القرن الـ21 في فرنسا، بسبب الظلم الكبير الذي يعانيه آلاف المهاجرين بخلاف ما يعيشه المتقاعد الفرنسي، لا تزال وضعيتهم تراوح مكانها، لم يستفيدوا أبدا من ثمرة أعمالهم، ولم يحظوا بأبسط الشكر والعرفان، الأمر الذي أثار موجة غضب ورفض من قبل عدد كبير من أبناء المهاجرين بمساعدة مستشارين اجتماعيين وسياسيين وحقوقيين وإعلاميين.
على مدى أيام الأسبوع، استطاعت جمعيات لأبناء المهاجرين منها جمعية «لا صوت لهم» وجمعية «البداية في المغرب العربي» وجمعية "العمال المغاربيين بفرنسا» تنظيم حوارات عبر بعض وسائل الإعلام كراديو "الشرق" و"فرانس24" مع ندوات منها ندوة 29 مارس نظمت بمقر مجلس البرلمان الفرنسي تحت عنوان "الشيبانيين بناة الأمس أنسيتهم الجمهورية الفرنسية؟" شارك فيها سياسيون وباحثون وممثلو المجتمع المدني والإعلامي وشهادات لعديد من المتقاعدين، احتجاجا على نظرة فرنسا الدنيئة لهؤلاء الذين أبصروا النور فيها.
وجّه جميعهم أصابع الاتهام إلى البرلمان الفرنسي في وضع "الشيبانيين" المزري بسبب تعمُّد إبقاء تعهداته بحل مشاكلهم طي النسيان، رغم تقارير البعثة برلمانية في 2013 التي حذّرت من خطورة تهميش الجمهورية لهم.
ظروفٌ غير لائقة بحياة البشر
بحسب أرقام 2015 من الصندوق الفرنسي لتأمين المعاشات، استدل بها خلال الندوة فإن هناك 1,27 مليون عامل متقاعد من مختلف الجنسيات متواجد في فرنسا، تحتل الجزائر قائمة 440 ألف متقاعد، و120 ألف متقاعد مغربي، و80 ألف متقاعد تونسي، يمثِّل المغاربة نسبة 60 % من أصحاب المعاشات الضعيفة، يعيشون في أسوأ حالٍ من الناحية المادية مقارنة مع المتقاعدين الفرنسيين، أغلبيتهم يسكنون في مناطق منعزلة داخل ملاجئ الإيواء الاجتماعي على هيئة ذات طابع مملّ، من يزورها سوف ينتابه الشعور كما لو أنه في إحدى المدن الفقيرة الجزائرية، بنيت أولى هذه الملاجئ السكنية بين 1950 و1970 بصفة مؤقتة، والتي كان يطلق عليها آنذاك اسم "سوناكترا" نسبة إلى مصانع سوناكترا وتسمى اليوم "أدوما" بضاحية نانتير القريبة من العاصمة، اليوم أصبحت بيوتهم الدائمة، تتكون من مضاجع للنوم وغرف منفردة صغيرة جدا، أغلبهم أمضى حياته فيها على رغم من أنها غير ملائمة لعمرهم ولا لحالتهم الصحية.
على سبيل المثال أشارعبد الله موبين، عضو في جمعية العمال المغاربيين بفرنسا وعضو في تجمّع التضامن مع الشيبانيين بمدينة جونفيليي القريبة إلى باريس، إلى أن المدينة لوحدها تحوي خمسة مراكز إيواء اجتماعية للمتقاعدين، بُنيت في 1975 في كل مركز يوجد 60 غرفة مشتركة بين شخصين لا تتجاوز مساحة كل غرفة 7 متر مربع، يتسع المركز لـ 200 شخص فقط، غير أنه يوجد حاليا في كل مركز ما يزيد عن 400 شخص 70% منهم أعمارهم تجاوزت 60 عاما، العديد ممن تبقوا لم يجدوا غرفا تأويهم، مما يضطرهم إلى العيش في الطابق الأسفل على شكل مهاجع.
وعن يوميات «الشيبانيين» داخل المراكز، ذلك الحلم الذي تحول إلى كابوس، فكانت شهادات بعض المتقاعدين هي الوحدة التي لا صوت لها طوال اليوم، تكلموا عن غدر وخذلان الجمهورية الفرنسية في التخلي عن اهتماماتهم، لاسيما وصفهم على هامش المجتمع الفرنسي، وأنه غير مرغوب فيهم حتى مسؤولي مركز الإيواء لا يظهرون أي احترام لهم ويعاملون كالحيوانات.
787 أورو شهريا وضائقة مزدوجة
الباحث في علم الاجتماع "حسن الزهراوي" أكد في تدخله أن ضائقة المتقاعدين مزدوجة، يعيشون السجن والتشرد معا بفعل القانون الفرنسي، الكثير يتقاضون مساعدة التضامن المخصصة للمسنين، وهي تضاف إلى معاشهم التقاعدي، الحد الأدنى هو787 يورو شهريا لشخص يعيش وحيدا مع الاستفادة من التغطية الصحية الكاملة، مع العلم أن هذه المساعدات لا تُمنح إلا بشرطين، أولهما عدم مغادرة فرنسا أكثر من 183 يوم (ستة أشهر على الأقل) وتوفِّر الاقامة الثابتة والمنتظمة، طبقا لمرسوم 18 مارس 2007، مما جعل العشرات منهم الآن يواجهون خطر التشرد من مساكنهم نتيجة تفتيش مكان الإقامة والمداخل، معتبرا ذلك بالقرار المجحف في حقهم.
ووصف عبد الله موبين عضو في جمعية العمال المغاربيين بفرنسا الوضع بالمأساة بالنسبة لهؤلاء المهاجرين المسنين، فهناك من تجاوز منهم الثمانين سنة ويطلب منهم البقاء في فرنسا لتقاضي "دريهيمات"، وأضاف أن بحوزته ملفات متقاعدين، مطالبين بإعادة مبالغ تقدر بـ15 ألف إلى 40 ألف يورو لصندوق التعويضات العائلية بسبب هذا القرار، وأنه يوجد قائمة بـ 70 شخصا ملاحق قضائيا لأنهم لم يتحملوا أعباء الدفع.
وفي اتصال هاتفي مع رئيسة جمعية "لا صوت لهم"، إحدى المشاركات على هذه الندوة، استنكرت ما اعتبرته "فصول معاناة المتقاعدين الجزائريين" خصوصا بحكمها تهتم بالمتقاعدين الجزائريين، هؤلاء الذين قدموا الكثير لفرنسا، وقالت إنه من واجبنا مساندة هؤلاء المتقاعدين والدفاع عنهم بشتى الوسائل.