تحولت العاصمة التونسية، إلى قبلة لتحركات سياسية ودبلوماسية مكثفة ومتسارعة، قاسمها المشترك البحث عن حل للأزمة الليبية التي اقتربت كثيرا من المربع الخطير الذي لا يزال يشكل هاجسا مقلقا ومرعبا لدول الجوار، أي عودة الاقتتال بين التشكيلات والمليشيات المُسلحة، واحتمال توسع رقعته، بما قد يجرّ ليبيا إلى ساحة صراع إقليمي ودولي بأجندات مختلفة، وبحسابات استراتيجية متباينة.
وحملت زيارة وزير الخارجية المصري سامح شكري إلى العاصمة تونس، التي بدأها الثلاثاء، العديد من الدلالات التي لا يختلف توقيتها عن أهمية فحواه، لا سيما وأنها تزامنت مع الإعلان عن وصول أحمد أويحيى مدير ديوان الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة، إلى تونس في زيارة مفاجئة لم يعلن عنها من قبل.
وإذا كانت زيارة رئيس الدبلوماسية المصرية سامح شكري تبدو واضحة في سياقاتها وأهدافها، باعتبارها رسمية ومُعلنا عنها من قبل، حيث سيتم خلالها "التطرق بقدر من التفصيل إلى تطورات الأزمة الليبية، باعتبار أن مصر وتونس من أكثر الدول تأثرا بتداعيات الوضع في هذا البلد بحكم الجوار الجغرافي"، فإن زيارة أحمد أويحيى طرحت بعناوينها المختلفة تساؤلات إضافية دفعت المراقبين إلى محاولة تفكيك خيوطها المتشابكة، لا سيما وأنها تأتي بعد أقل من يومين من لقاء جمع في الجزائر بين الرئيس بوتفليقة، وراشد الغنوشي رئيس حركة النهضة الإسلامية.
وضمن هذا السياق، الذي يوحي بأن هناك مسعى لإعادة ترتيب الأولويات في المعادلة الراهنة المرتبطة بهذا الحراك السياسي والدبلوماسي المتصاعد، لجهة تقديم إضافات جديدة قد تدفع نحو تحولات مفصلية في المشهد الليبي، أكدت مصادر مُقربة من حركة النهضة الإسلامية، لـ"العرب" أن الغنوشي اجتمع مع أحمد أويحيى فور وصوله إلى تونس. ولكنها امتنعت عن تقديم توضيحات حول فحوى هذا الاجتماع، حيث اكتفت بالقول إنه "يندرج في إطار متابعة المشاورات الجارية بخصوص الملف الليبي"، ومع ذلك كشفت صحيفة "آخر خبر أونلاين" أن الجزائر "عبّرت عن قلقها من الدور الذي يقوم به الإخوان في ليبيا، وعرقلتهم لمبادرات الوفاق".
ونقلت عن مصادر لم تذكرها بالاسم، قولها إن راشد الغنوشي "كان قد قدم وعودا للجزائريين بأنه قادر على التأثير على أطراف سياسية ليبية في اتجاه مشاركتها في التوافق، غير أن هذه الوعود لم يتمّ تجسيدها ميدانيا وأنّ ‘الإخوان في ليبيا’ مازالوا يصرون على الحصول على نصيب الأسد في أي حل رغم انحسار رقعة تأثيرهم سياسيا وعسكريا". ولم يستبعد مسؤول ليبي مُقرب من حكومة الوفاق الوطني برئاسة فايز السراج وجود مثل هذا القلق لدى الجزائريين، ولكنه قال لـ"العرب" طالبا عدم ذكر اسمه، إن المُعلن حاليا "ليس سوى مجرد تفاصيل عائمة على سطح المقاربات، ومنفصلة عن سياقها العام".
واعتبر أن المشهد بتجلياته المختلفة "يطرح عناوين قادمة ستكون ربما صادمة لمرحلة لم تعد تنفع معها عملية الترقيع هنا أو هناك، التي سعت أطراف سياسية إلى تمريرها في سياق البحث عن تموضع سياسي جديد لتيارت الإسلام السياسي بتفرعاتها المختلفة، وخاصة منها جماعة الإخوان المسلمين".
وشدد في المقابل على أن تلك التيارات، بميليشياتها المسلحة التي تُحاول جاهدة الحفاظ على تموقعها في تلوين مجريات الأحداث والتطورات والأجندات، تسعى حاليا إلى إيجاد وسيط، أو وسطاء حتى تكون واحدة من العناوين الحاضرة ضمن الأدوار المستجدة التي تفترضها طبيعة التطورات في سياق المقاربة الإقليمية الراهنة أو القادمة. ويرى مراقبون أن هذه القراءة السياسية، لها ما يُبررها على ضوء أدوار الأدوات الوظيفية، التي تبدو هذه الأيام أقرب إلى إعادة التموضع تحت غطاء بات لا يكفي لإخفاء ما مضى، وذلك في وقت بدأ فيه الدور التركي يتراجع بشكل لافت، بينما انكفأ دور قطر، وفقد أهميته بعد خسارته الإخوان في مصر، وصولا إلى خروج حركة النهضة من الحكم في تونس، وفشل مشروع "أخونة" ليبيا.
ولا شك ان الدور الوظيفي الذي يلعبه رئيس حركة النهضة الإسلامية ضمن سياق الملف الليبي المتشعب، تحت عناوين الوساطة حينا، وتسهيل التوصل إلى التوافق تارة أخرى، أصبح في منتصف الطريق الوعر، وبات يصطدم بإكراهات الواقع السياسي الجديد، وموازين القوى الميدانية التي كشفت عن حقيقة أهداف تيارات الإسلام السياسي، وعرّتها أمام المجتمع الليبي على وجه الخصوص.
ومع ذلك، مازال هذا الدور الوظيفي يطرح أسئلة، ويُثير غبارا في المشهد الليبي أولا، وكذلك على الصعيد الإقليمي، وهي أسئلة مُلحة وحائرة أحيانا في توصيف أبعاد التمسك الجزائري بهذا الدور الذي تعكسه زيارات الغنوشي المتكررة إلى الجزائر، ولقاءاته بالرئيس عبدالعزيز بوتفليقة. بل إن تلك الأسئلة تأخذ منعرجا آخر عندما تبقى الجزائر تُراهن على قادة من تيارات الإسلام السياسي في سياق تحركاتها لإيجاد مخرج للأزمة الليبية، وذلك في الوقت الذي بدأت فيه تونس ومصر تلعبان آخر الأوراق للخروج على قاعدة البحث عن طريق للمأزق الليبي من الغلبة إلى التوافق.