كان يحيى جامع، الرئيس المزمن لغامبيا منذ انقلابه العسكري عام 1994، والذي فاز بعده في «الانتخابات» في أربع دورات رئاسية أنجزت، إضافة إلى دكتاتورية زعيمها، انسحاباً من رابطة الكومنولث ثم إعلان البلاد جمهورية إسلامية (باعتبار أن الدكتاتورية، في روع هذا النوع من الزعماء، أمر حلال في الشريعة الإسلامية!).
ويبدو أن أوهام جامع حول شعبيته التي لا ينافسها منافس (أو اعتماده على النفوذ الكبير لأجهزة أمنه ولحزب المنتفعين الكبير من سلطاته) جعلته يتورّط بدخول انتخابات حقيقية وكانت النتيجة المنطقية فوز مرشح المعارضة اداما بارو بنسبة 45٪ من الأصوات بينما حصد الزعيم، الذي جثم فوق صدر شعبه 22 عاماً، نسبة 36٪، وكما هو مفترض من أي دكتاتور فإنه لم يتوّرع عن التشكيك بنتائج الانتخابات والقول إنها مزوّرة وتم التلاعب فيها رغم أن الشخص الوحيد القادر على التلاعب بالانتخابات هو قائد الانقلاب العسكري الذي أضحى رئيسا وبعد ملله من تكرار اللعبة المرّة تلو المرّة أعلن عام 2012 إلغاء مدة الرئاسة!.
مفارقات حكاية جامع لا تنتهي هنا فمحاولته للتمسك بكرسي الحكم كانت ستؤدي بالتأكيد إلى صراع سياسي طاحن وإلى فقدانه شرعيّته ومن ثم إلى تدخّل أجنبيّ في بلاده ينتهي بتدمير غامبيا وقد يفضي إلى موته، ولكن، لحسن حظّ غامبيا وأفريقيا والعالم فقد أجبرت الضغوط الدولية والأفريقية (وبالخصوص دخول قوات مجموعة دول غرب أفريقيا إلى غامبيا يوم الخميس الماضي) جامع على التنحّي عن السلطة والرضوخ لنتائج الانتخابات الرئاسية ومغادرة البلاد إلى منفاه السعيد في غينيا الاستوائية وبذلك أصبح رئيس غامبيا الجديد، الذي قام بطقوس القسم في السنغال المجاورة، آمناً على حياته وقادراً على دخول البلاد.
تقدم قصة جامع، وقبلها قصة زعيم ساحل العاج غباغبو عام 2010 الذي أراد بدوره التشبث بالسلطة رغم خسارة الانتخابات ودخلت البلاد ما يشبه حرباً أهلية أدت إلى مقتل أكثر من ثلاثة آلاف شخص انتهت عام 2011 باعتقاله في مقر إقامته بأبيدجان وغادر بدوره إلى غينيا الاستوائية بعد حصوله على ضمانات بعدم ملاحقته، هو وأعوانه، قضائيا، ولكن الأمر انتهى به، بتسليمه إلى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي ليواجه اتهامات بارتكاب «جرائم حرب» و«جرائم ضد الإنسانية»، وهو الأمر الذي خطر بالتأكيد لجامع وكان أحد العناصر التي دفعت به نحو النهاية «الورديّة» لرحيله عن غامبيا معزّزاً مكرّماً بوداع رسميّ على طائرة خاصة وهو يلبس زيّه الناصع البياض ويحمل مصحفا وسبحة (لكن ليس قبل أن يسرق 11 مليون دولار من خزينة الدولة).
تشير قصة جامع، والتعديل الكبير الذي طرأ عليها مقارنة بقصة غباغبو المأساوية، إلى نضوج متزايد لدى الدول الأفريقية يسير بها إلى رفض الدكتاتوريات الفاسدة والقبول بالتداول السلميّ للسلطة ليس باعتباره النظام المقبول عالميّاً بل كأفضل الأنظمة التي تمنع الاستعصاء الدكتاتوري الذي يفضي بالضرورة إلى الاستنقاع السياسي والفساد والقمع واختلال منظومة الحياة الطبيعية ومنع الارتقاء السياسي والاجتماعي والاقتصادي للبشر.