20100803
المحيط
فجرت الاضطرابات الأخيرة التي أثارها بعض الأقباط الذين ينقصهم الشعور بالانتماء إشكاليات كبيرة تتعلق بنوع العلاقة التي تربطهم بالدولة وأجهزتها ووزرائها وأثارت العديد من التساؤلات حول السياج الذي يفرضه المسيحيون حول أنفسهم بصورة تدلل على أنهم يتصرفون وكأنهم "دولة كاملة السيادة" داخل الدولة المصرية.
حيث أثار بعض هؤلاء الأقباط طوال الشهرين الماضيين العديد من القلاقل بداية من رفض حكم القضاء بشأن تنظيم زواج الأقباط ووضع المشرع في مأزق حرج ما بين تطبيق القانون أو إخماد الفتنة مما اضطره لإنهاء الأزمة بالإذعان لمطالب المسيحيين الذين احتكموا لتعاليم الإنجيل وعصفوا بأحكام القضاء المدني الذي من المفترض أنه يحكم جميع المصريين.
وكانت ثاني الأزمات التي أثارتها هذه القلة من الأقباط هي الترويج لمزاعم خطف المسلمين لسيدة مسيحية تدعى كاميليا شحاتة وهي زوجة أحد كهنة مدينة "دير مواس"، التابعة لمحافظة المنيا 350 كم جنوب العاصمة القاهرة، وأقام الأقباط الدنيا ولم يقعدوها ونظموا احتجاجات واسعة وتظاهرات غضب واتهموا قوات الأمن بالتواطؤ بحجة إجبار السيدة المختفية على دخول الإسلام.
إلا أنه سرعان ما تكشفت الحقيقة بعد العثور على الزوجة وتبين أنها هاربة من بيت الزوجية على أثر خلافات عائلية، لكن نار الأقباط لم تهدأ ولم يسلموا بالحقيقة التي أعلنوها بأنفسهم فادعوا أن الشرطة استجابت لضغوطهم واضطرت لتسليم كاميليا فيما يبدو خوفا من انتقام المسيحيين، الخطير في الأمر تردد أنباء حول اختفاء زوجة الكاهن ولكن هذه المرة بأيدي بعض هؤلاء الأقباط.
[زوجة كاهن المنيا وخلفها صورة مزعومة لوفاء قسطنطين]
زوجة كاهن المنيا وخلفها صورة مزعومة لوفاء قسطنطين
حيث أعلن زوجها أنها تم إيداعها أحد الأديرة لغسل مخها من عملية الغسيل التي خضعت لها على أيدي المسلمين، ويفهم من هذا أنهم يطبقون قانونا خاصا بهم يعاقبون به من يشاءون وبالصورة التي يحددها الكهنة والقساوسة بعيدا عن جميع قوانين الدولة وأجهزتها.
أما ثالث هذه المشاكل فتتمثل في قيام أسرة إحدى الفتيات المسيحيات التي أعلنت إسلامها بتنفيذ جريمة قتل بشعة بدم بارد ضد زوج الفتاة بعد استدراجه وتسديد عشرات الطعنات القاتلة والتمثيل بجثته بصورة وحشية جعلت من المستحيل التعرف على ملامح الوجه بصورة انتقامية بذيئة، الأمر الذي بدا أيضا إقصاءً لدور الدولة على نحو انفصالي لا يمكن مصادفته في أي دولة أخرى ذات سيادة.
ولم تكتف هذه القلة المندسة بين أقباط مصر بكل هذا، بل قامت بتنظيم العديد من الإضرابات والاحتجاجات بسبب عدم انصياع أحد المحافظين لرغبتهم في بناء كنيسة جديدة فأثاروا ضجة واسعة ووجهوا اتهامات غير منطقية بتعرضهم للاضطهاد وترديد شعارات لا تعبر عن الواقع تزعم أنهم لا يحصلون على حقوقهم إذا ما قورنوا بالمسلمين وطالبوا بعزل المحافظ.
الأمر الذي رأى فيه الكثيرون شقا لصف الوحدة الوطنية وترديدا لدعوات خارجية هدامة تنال من أواصر الوحدة بين قطبي الأمة وتهدد باحتراق الوطن إذا لم يتم السيطرة عليها، الأمر الذي وصفه اللواء حبيب العادلي فيما نسبته له صحيفة الجريدة الكويتية ولم ينفه واصفا هذه الاحتجاجات بأنها من باب استعراض عضلات الأقباط.
ولعله من الأهمية بمكان في هذا السياق الإشارة إلى دور الأنبا شنودة الثالث، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، حيث تراوحت حدود هذا الدور خلال تلك الأزمات ما بين المؤيد لما يمكن تسميته بحالة تمرد بعض الأقباط كما ظهر جليا في موقفه من رفض قانون زواج الأقباط وإعلائه لتعاليم الكنيسة والإنجيل فوق صوت القانون والدولة، فيما التزم الصمت حيال باقي الأزمات وهو ما اعتبره الكثيرون مباركة لموقف هذه القلة من الأقباط بدليل أنه لم يحاول لجم تمردهم.
وتحذر وجهات نظر حصيفة من أن هذه الأزمات المتوالية التي يتعمد بعض الأقباط إثارتها ربما تنال من الرصيد الكبير لقداسة البابا شنودة في نفوس المصريين لما عرف به من مواقف وطنية عديدة، وتتركز هذه المخاوف من سيناريو يتم الترويج له يصور وضع المسيحيين بأنهم أقاموا لأنفسهم دولة مستقلة شعبها من الأقباط ورئيسها البابا شنودة ودستورهم الإنجيل وحدودهم تبدأ من صعيد مصر، على النحو الذي شهدته الدعوات الانفصالية التي انتشرت بصورة خطيرة خلال حقبة الستينات والتي تصدى لها الرئيس الراحل أنور السادات بكل حزم وقوة.
وتؤيد هذه المخاوف ظهور كثير من الأقباط بمظهر المنعزلين بإرادتهم عن الوطن حتى أن التقارير تشير إلى عدم تجاوبهم مع أي متغيرات سياسية إلا وفق حساباتهم الخاصة، وعلى سبيل المثال سلسلة الإضرابات والاحتجاجات الواسعة التي شهدها البرلمان المصري منذ نحو الشهرين والضجة المثارة حول تحركات د. محمد البرادعي واحتمال ترشحه في انتخابات الرئاسة المقبلة.
كل هذا وغيره من التفاعلات لم يثر شهية حتى بعض الأقباط للمشاركة سواء بالرفض أو التأييد وكأنهم يعيشون خارج حدود الوطن وهمومهم تختلف تماما عن تلك التي يعاني منها المسلمون، ففي حين يتظاهر المسلمون ضد ما يشكونه من فقر أو بطالة وارتفاع أسعار أو خصخصة وتسريح عمال، نجد الإخوة المسيحيين لا يتظاهرون لكل هذا وإنما من أجل تأخير تصريح بناء كنيسة أو اختفاء زوجة أحد الكهنة لأسباب عائلية خاصة وكأن همومهم غير هموم المسلمين بالمرة.
وقبل ختام هذا العرض فحري بنا أن ندق ناقوس الخطر إلى كل من يهمه أمر هذا الوطن الذي يرى كثيرون أنه يتعرض لمنزلق حاد يجب أن لا يستدرجنا إليه أحد إليه، فالتاريخ يشهد أن قوة مصر وعظمتها تكمن دائما في وحدتها وانتصارها على أخطر مؤامرات الفتن التي تهدف لبث الفرقة بين قطبيها، ونهمس بكلمة في أذن قداسة البابا شنودة الثالث وعقلاء المسيحيين بضرورة استعادة أمجاد مواقفهم الوطنية لإخماد مثل هذه الفتن التي ستكون عواقبها كارثية على الجميع فنارها لن تبقي ولن تذر.