جاءت زيارة الرئيس المصري محمد حسني مبارك إلى الولايات المتحدة الأمريكية ممزوجة بمناشدة قدمها البابا شنودة الثالث ـ بطريرك الكرازة المرقسية ـ لجماعات ما يسمى "أقباط المهجر" لعدم مهاجمة الزعيم المصري خلال زيارته، مما فتح سجالا حول الدور المشبوه لهذه الجماعات التي لا تألو جهدا في صب حقدها المعلن على مصر والترويج لأكاذيب مفادها أن الأقباط مقهورين ويرزحون تحت نير الظلم والاستعباد في مصر رغم أن الواقع التاريخ يثبت أن الأقباط والمسلمين نسيج واحد.
وترافقت هذه المزاعم مع حملة اغترابية لا تقل عنها خطورة، حمل لواءها حشد من العلمانيين ورموز للأقباط تدعو إلى انتزاع مصر من هويتها العربية داعية إلى تغيير اسم البلد إلى "جمهورية مصر" وحذف كلمة "العربية" من قاموسها، الأمر الذي يشير إلى وجود أصابع خارجية تسعى لإشعال نار الفتنة بين أبناء مصر وزحزحة البلد العريق من الجسد العربي بالتالي إدخال البلد في أتون أزمات طائفية لا يحمد عقباها.
فمن آن لآخر تشن جماعات أقباط المهجر حملات عدائية ممقوتة ضد مصر ـ حكومة ورئيسا وشعبا ـ وذلك باختلاق أكاذيب لا سند لها ولي بعض الحقائق وتحريف صحيح المعلومات بحيث توفر للأنظمة المتربصة بأمن وسلامة مصر غطاءً كيديا لمهاجمتها، وكانت أحد شواهد ما يضمرونه من حقد وما يكيدونه من مؤامرات ترويج شائعات عن فتنة طائفية بأحد الأحياء الشعبية بالعاصمة القاهرة بسبب الخلاف على أولوية الحصول على بنزين 80 المدعوم شرائيا من إحدى محطات التموين المملوكة لمسيحيين والتي وقعت أحداثها منذ ما يقرب من عام.
فعقب اندلاع المشاجرة ـ التي أصيب فيها عدد من العاملين بالمحطة وجميعهم من المسلمين فيما عدا شخص واحد اسمه روماني ـ طيرت المنظمات التابعة لأقباط المهجر نبأ وقوع فتنة طائفية على نحو يعيد للأذهان أحداث الزاوية الحمراء التي اندلعت في أواخر السبعينات، رغم أن القصة بكاملها لا تعدو كونها مشاجرة عادية كأي مشاجرة تندلع عشرات المرات بالحي الشعبي على مدار اليوم.
وعلى مدار أكثر من 30 عاما وقعت مئات الحوادث التي لها أبعاد طائفية معلنة وغير معلنة ، كبيرة وصغيرة ، لكن بشكل عام فإنه من الصعب تحديد متى بالضبط بدأ هذا الاحتقان يتخذ هذه الصورة وإن كان معظم المحللين يرجعونه إلى أحداث الخانكة سنة 1972.
ومنذ ذلك الحين توالت حلقات مسلسل الترويج لوجود فتنة طائفية، بداية من أحداث الزاوية الحمراء سنة 1981، التي أطلق عليها الفتنة الكبرى ، وأحداث 'عين شمس' الدامية عام 1985 ، ومرورا بـإمبابة 1991، أسيوط 1994، الكشح عام 1998 ومحرم بك في الإسكندرية 2005 وأحداث قرية بمها قرب مدينة العيّاط 2007 التي حظيت بتغطية إعلامية واسعة.
وفي الغالب تتمحور أغلب أسباب هذه الاشتباكات حول عدة مسائل من بينها حق بناء الكنائس ، نسبة التمثيل في الأجهزة الحكومية ، الشعور بالتمييز بين الأقباط والمسلمين في بعض الوظائف الحساسة.
البابا شنودة الثالث
ويرى البعض أن هناك طلبات للمسيحيين بعضها معقولة وأخرى غير معقولة ، فالمسيحيون في مصر يشكلون 6 % حسب الإحصائيات الرسمية. . وقد استجابت الحكومة المصرية لطلب بناء الكنائس وجعلته من سلطة المحافظين ومديري الأمن وليس رئيس الجمهورية كما كان من قبل ، مع العلم أن عدد الكنائس بالنسبة لعدد المسيحيين في مصر يزيد عن عدد المساجد بالنسبة لعدد المسلمين في مصر.
أما بالنسبة لباقي الاتهامات فمردود عليها بتعيين عدد من الوزراء الأقباط في الجهاز الحكومي ، فغير بعيد تعيين د. يوسف بطرس غالي وزيرا للمالية ـ أهم وزارة في مصر ـ إلى جانب تعيين عدد من المحافظين المسيحيين ، بل أن قيادات الشرطة تضم عددا كبيرا من أصحاب المناصب الرفيعة من الأقباط.
نسيج واحد
وبشكل عام تتميز العلاقة بين المسلمين والأقباط في مصر بأنها علاقة متينة وقوية وسوية حتى وصل الأمر إلى حد القول بأن المسيحيين في مصر - وخاصة الأرثوذكس منهم- ليسوا أقلية ، بل جزء لا يتجزأ من النسيج الوطني المصري والعربي والإسلامي ، وكان ذلك يرجع إلى مجموعة من العوامل منها :
التسامح الإسلامي المعروف ، وسماح الإسلام لغير المسلمين بالمشاركة في البناء الثقافي والحضاري ، وقد ساهم المسيحيون المصريون في ذلك البناء بقوة .
أن الإسلام حين دخل مصر حرر المسيحيين من الاضطهاد الروماني، وكان لذلك أثره بالإضافة إلى عوامل أخرى في قبول المصريين مسلمين ومسيحيين للغة العربية ، التي أصبحت الوعاء الثقافي للجميع، ولا شك أن هذا صنع نوعا من التصور والوعي والتفكير المشترك .
- أن تراث الكنيسة المصرية ومن خلال صراع طويل سقط فيه العديد من المسيحيين ارتبط بفصل ما هو زمني عن ما هو روحي، ومن ثم أصبحت الكنيسة ممثلاً للمسيحيين في الجوانب الروحية فقط، وهكذا كان من الطبيعي أن يشارك المسيحيون مثل المسلمين في العمل العام سلباً وإيجاباً .
لكن ما يزيد الأمر تعقيدا محاولة زرع عوامل طائفية في البنية المصرية عبر أجهزة أجنبية وبعثات تنصير ، مثلما تم الضغط أكثر من مرة على الحكومة المصرية عن طريق الغرب الأمريكان في هذا الصدد ، الأمر الذي يوحي بأن هناك من يريد استغلال المسألة ، وانتظر هؤلاء أن تتخذ الكنيسة المصرية موقفاً حازماً من ذلك فلم يجدوا هذا الموقف ، الأمر الذي تم ترجمته في الشعور المصري العام بأن هناك استقواء من الجانب المسيحي المصري بالغرب والأمريكان.
وقد لفت الأستاذ جمال أسعد ـ وهو مسيحي أرثوذكسي مصري ـ نظر الكنيسة عدة مرات وندد بهذا الشعور بالاستقواء ، ولكن الرد كان من الكنيسة وعدد كبير من الرموز المسيحية بالهجوم على جمال أسعد بل والتشكيك في مسيحيته التي يعتز بها كما يعلق دائماً.
قائمة سوداء
في الإطار نفسه نجد أن هناك جماعات مسيحية مصرية في المهجر ، تدعي أن مصر محتلة بالعرب ، وأنه ينبغي إخراج المحتلين العرب من مصر، وتعقد هذه الجماعات مؤتمرات تقول فيها ذلك علناً بدعم معروف ومكشوف من منظمات يهودية وصهيونية وأمريكية وكنسية غربية ، ووصل الأمر بهؤلاء إلى حد تقديم شكوى إلى الأمم المتحدة بدعوى وجود اضطهاد في مصر للمسيحيين ، كل هذا بالطبع يترك بصمات من المرارة لدى المصريين عموماً والمسلمين منهم خصوصاً تجاه الكنيسة المصرية، لأن هذا الإحساس يزيد الاحتقان الطائفي ليصبح جواً عاماً من الغيظ وعدم الثقة بين الطرفين، سيعبر عن نفسه يوماً بطريقة غير سوية إذا لم يتم علاجه.
وقد تزايد عدد هذه المنظمات بشكل ملحوظ حتى وصل عددها إلى نحو 15 منظمة سواء كانت في أوروبا أو الولايات المتحدة الأمريكية أو استراليا وتنامي نشاطها عبر تنظيم المؤتمرات وتدشين مواقع الانترنت و المراكز الإعلامية الدولي لبث الافتراءات عن واقع الأقباط في مصر ومطالبة الحكومات الغربية لممارسة الضغوط على مصر بزعم إجبارها على حل مشاكل الأقباط .
وقد استطاعت هذه المنظمات إصدار تقارير من الإدارة الأمريكية تتضمن وجود اضطهاد للأقباط في مصر بما يؤدي إلى فرض عقوبات عليها من بينها التهديد بقطع المعونة الأمريكية أو توجيه الجزء الأكبر منها إلى تجمعات الأقباط .
ولعل من أشهر هذه المنظمات هي منظمة أقباط الولايات المتحدة والتي أسسها المهندس مايكل منير في واشنطن والتي تزعم أن الأقباط في مصر يتعرضون يوميا لاعتداءات جسدية و نفسية موثقة و غير قابلة للإنكار وان هذه الاعتداءات مستمرة و ترتكب عمدا أو تحت غطاء الإنكار و الإهمال من الحكومة المصرية نفسها أو من بعض الأفراد المسلمين الجهلة و المضللين على حد وصف المنظمة .
وقد أسس منير موقعا على الانترنت ومركزا إعلاميا دوليا في الولايات المتحدة كما انه وثيق الصلة بلجنة الحريات بالكونجرس الأمريكي والذي شارك في العديد من جلسات الاستماع أمامها وتقديم تقارير تفيد باضطهاد الأقباط في مصر ومنها تقديمه تقرير عن الأحداث الطائفية في قرية بمها مركز العياط بمحافظة الجيزة ـ جنوب العاصمة ـ مؤخرا كما انه تقدم بمشروع قانون للكونجرس لمحاسبة مصر .
القائمة تضم أيضا منظمة الأقباط متحدون والتي أسسها الملياردير المصري المهندس عدلي أبادير في سويسرا في شهر سبتمبر عام 2004 والذي قام بتنظيم ثلاث مؤتمرات كلها تزعم وقوع اضطهاد للأقباط في مصر فكان المؤتمر الأول في زيورخ في 25 سبتمبر عام 2004 والثاني في واشنطن في شهر نوفمبر 2005 م الذي انعقد تحت شعار مسلمون ومسيحيون من اجل الديمقراطية وحقوق المواطنة في مصر .
وقد شارك في هذا المؤتمر الدكتور سعد الدين إبراهيم مدير مركز بن خلدون و الدكتور احمد صبحي منصور زعيم جماعة القرآنيين و الدكتور جهاد عودة رئيس قسم العلوم السياسية وعضو لجنة السياسيات وهو الأمر الذي شكل مفاجأة للكثيرين الذين اعتبروا مشاركة جهاد عودة يعد بداية اعتراف من الحزب الوطني بأقباط المهجر وقد وشهدت جلسات المؤتمر مناقشات ساخنة وحادة عن مشكلة أوضاع من أطلقوا عليهم الأقلية القبطية في مصر ووسائل حلها بينما عقد المؤتمر الثالث في مدينة زيورخ بسويسرا في شهر مارس من العام الحالي والذي حمل عنوان الأقليات في الشرق الأوسط .
وتشير المعلومات إلى أن هناك صراعا بين كل من عدلي ابادير ومايكل منير على زعامة تنظيم أقباط المهجر، وبتوصية من أبادير، أسس المهندس كميل حليم التجمع القبطي الأمريكي في نوفمبر 2005 حيث ذكر حليم أن التجمع بدا بفكرة من ابادير بضرورة تنظيم الأقباط في أميركا بسبب نسبتهم العددية وما يمكن أن تحققه لصالح قبضتهم .
ولعل هذا ما يفسر حالة التنسيق بين تجمع حليم ومنظمة ابادير والتي ظهرت جليا في المؤتمر الأخير الذي نظمه التجمع بالولايات المتحدة الأمريكية تحت عنوان "القضية القبطية.. معالجة جديدة للواقع و الآليات" في ولاية شيكاغو الأمريكية والذي غاب عنه مايكل منير رئيس منظمة أقباط الولايات المتحدة وشارك فيه أعضاء في الكونجرس الأمريكي وطالب بإلغاء خانة الديانة من البطاقة و زعم اضطهاد الحكومة للأقباط وتستر الأجهزة الأمنية على عمليات اختطاف الفتيات المسيحيات وإجبارهن على دخول الإسلام .
ومن المنظمات الخطيرة أيضا منظمة مسيحيي الشرق الأوسط والتي يرأسها نادر فوزي ومقرها كندا وتعلن المنظمة أن هدفها الأساسي هو حصول مسيحي الشرق الأوسط على حقوقهم وقامت المنظمة بتنظيم مؤتمر المساواة بكندا في يوليو 2004 ثم إصدار كتاب "المضطهدون" باللغة العربية والإنجليزية وتعد هذه المنظمة تبشيرية بالأساس وتتلقى أموالا طائلة من المتربصين بمصر وبالإسلام .
وهو ما ظهر جليا خلال اعتقال اثنين من أعضائها وهما عادل فوزي رئيس فرع المنظمة في مصر وبيتر عزت مصور بموقع الأقباط بتهمة ازدراء الدين الإسلامي على موقع المنظمة على الانترنت والتي تزامنت مع تفجر قضية تنصير الشاب محمد حجازي
وقامت المنظمة أيضا بترجمة كتاب المضطهدون إلي اللغة العربية والذي يتكون من 230 صفحة تعرض المنظمة من خلاله مزاعم اضطهاد الأقباط بمصر خلال القرن الماضي وصورا مسيئة للإسلام والإساءة إلي النظام الرسمي في البلاد .
وكانت قبل ذلك قضية وفاء قسطنطين زوجة كاهن أبو المطامير ـ بمحافظة البحيرة ـ و التي شهرت إسلامها قد أظهرت دور المنظمة المشبوه والتي كانت تدغدغ مشاعر الشباب القبطي بمصر وتلهب حماسه بمطالبته بالاستمرار في المظاهرات والاعتصام داخل الكنائس حتى خضعت الدولة لإرادتهم وسلمت وفاء للكنيسة .
وقد دفعت حملات الإساءة التي قادتها المنظمة اثنين من المحامين إلي تقديم بلاغ إلي النيابة العامة يطلبان فيه التحقيق في الإساءات والأكاذيب التي تبنتها المنظمة وتحديدا علي موقعها الالكتروني علي الانترنت وبدورها قامت النيابة بمنح إذن للمصنفات الفنية لمراقبة ومتابعة الموقع وكتابة تقرير مفصل حول ما يحتويه من إساءات للإسلام ورسوله وزوجاته ثم تم القبض على الشخصين المذكورين .
غير أن هناك منظمات قبطية خارجية لا تقل خطورة عن المنظمات السابقة وأبرزها الاتحاد القبطي الأمريكي والذي أسسه المحامي رفيق اسكندر والذي دعا قبل ذلك رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي ارئيل شارون للتدخل لحماية الأقباط في مصر الذين زعم أنهم يتعرضون للإبادة ، كما طالب في تقرير أرسله إلي وزارة الخارجية الأمريكية ولجنة الشئون الخارجية بالكونجرس بفرض عقوبات اقتصادية وسياسية علي مصر لتعرض الأقباط بها للاضطهاد وهو نفس ما تطالب به الجمعية الوطنية القبطية الأمريكية التي يترأسها المحامي موريس صادق .
وتضم القائمة السوداء أيضا منظمات منظمة الأقباط الأحرار ويرأسها جاكوب كيرياكي اندرو فانوس وتأسست في مارس 2006 و الهيئة القبطية الأوروبية ويرأسها ناجي عوض و الهيئة القبطية الاسترالية أسسها صموئيل فاهد و يرأسها حالياً سمير حبشي و منظمة أقباط متحدون انجلترا ويرأسها إبراهيم حبيب وتأسست في يناير 2006 وكلها منظمات تسعى لإشعال نار الفتنة بين المسلمين والأقباط وتدويل قضية الأقباط في مصر كأقلية مضطهدة .
ويرى المراقبون أن الدور المشبوه الذي تلعبه تنظيمات أقباط المهجر يفرض على الجميع تحمل مسئولياته في التنبيه إلى هذا الخطر الداهم وفضح مزاعم وافتراءات تلك المنظمات في المحافل الدولية ، كما يضع أقباط الداخل على المحك لإبراء ساحتهم من المؤامرات الدنيئة التي يحيكها أعداء الوطن لبلدهم الراعي مصر .
وعلت بعض الأصوات في الفترة الأخيرة تؤكد أنه رغم عدم إنكار الدور الوطني على كثير من الرموز المسيحية في مصر والذين يأتي على رأسهم قداسة البابا شنودة الثالث ـ بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية ذات الأغلبية الكبيرة ـ إلا أن حالة الصمت المطبق التي غالبا ما تصاحب تلك المؤتمرات المشبوهة لأقباط المهجر وواقعة الانسحاب الأخيرة تثير حالة من الشكوك تستوجب الرد من الدوائر المسيحية المسئولة.
الأحد , 16 - 8 - 2009 الساعة : 2:16 مساءً