20110612
الجزيره
وأنا أستمع للأستاذ الذي هاتفني ليدعوني إلى المشاركة في مؤتمر يُعقد بتونس.. لم أفكر لحظتها في طبيعة المؤتمر وموضوعه، بقدر ما شعرتُ بأنها لحظة مناسبة لرؤية (تونس ما بعد الثورة).. تلك التي أوقدت الشرارة، وفيها سقط مكعّب الدومينو الأول في مشهد التداعي العربي الكبير.
وحين أتحدث عن (تونس ما بعد الثورة) فكان بداهة -عندي على الأقل- أن تشمل الرحلة زيارة المدينة الصغيرة التي انطلقت منها الثورة (سيدي بوزيد).
ولأن المؤتمر يتحدث عن العالم العربي بعد الثورات. وقد اختار لهذا السبب تونس مكاناً لانعقاده.. فقد دفعني هذا إلى توقع أنني سأجد عدداً من الضيوف العرب يُشاركونني الرغبة في زيارة سيدي بوزيد.. ولم تكن المفاجأة في أنني لم أجد أحداً ينوي ذلك.. فهذه المدينة الصغيرة ليست قريبة من العاصمة، بل تقع في منطقة صحراوية حارّة بوسط تونس، وتحتاج لكي تصل إليها أكثر من أربع ساعات بالسيارة.. لكن المفاجأة كانت في مدى اندهاش الكثيرين حين أسألهم إن كانوا يرغبون الذهاب لها.. وكان سؤالهم المُتكرر: وهل في سيدي بوزيد شيء يستحق الزيارة؟!.. وكنتُ أجيبهم ضاحكاً: بالطبع.. هناك البركة.
أصدقاء توانسة قالوا لي إنه يجب الحذر في هذا الوقت تحديداً أثناء زيارة سيدي بوزيد.. لأن مناطق قريبة تشهد حالياً مواجهات دامية مع الأمن، وقد سقط حتى الآن عشرة قتلى وتسعون جريحاً.. وقد تتسع رقعة المواجهات أكثر.
تقع مدينة سيدي بوزيد بوسط تونس تماماً، وهي جنوب العاصمة بقرابة الثلاثمائة كيلومتر.. وفي منتصف الطريق إليها تقع مدينة القيروان التاريخية.. لهذا انطلقتُ صباح الأحد 5 يونيو/ حزيران في حافلة بصحبة عدد من المشاركين بالمؤتمر الذين قرروا زيارة عِدة مدن سياحية بدءا بالقيروان.. وفي القيروان -التي زرتها من قبل- ودّعتهم وركبت مع سائق أجرة للبحث عن وسيلة تنقلني إلى سيدي بوزيد.
محطة الحافلات
كانت الساعة دون العاشرة صباحاً بقليل.. ذهبتُ إلى محطة الحافلات الكبيرة، فأخبروني بأن حافلة سيدي بوزيد ستتحرّك في الثانية عشرة والنصف ظهراً، أي بعد ساعتين ونصف الساعة.. سألت سائق التاكسي عن حلٍ أسرع للوصول.. فأخبرني بأن عليّ أن أتوجه إلى (الولاج) وهي المحطة الخاصة بالحافلات الصغيرة (الميكروباص) التي تنقل الركاب إلى عدة مدن بدون توقيت مُحدد، ولكن بمجرد امتلاء الحافلة.
وفي الولاج حجزت مقعداً في الحافلة المتجهة إلى سيدي بوزيد، واتجهت إليها لأتفاجأ بأنني حتى الآن الراكب الوحيد على هذا الخط.. وأن عليّ أن أنتظر حتى يأتي سبعة ركاب كي تمتلئ هذه الحافلة الصغيرة وتتحرّك.. فكّرتُ لوهلة أن أشتري تذاكر كل المقاعد وأتحرك وحدي، فسِعر المقعد الواحد ليس مرتفعاً بالطبع.. ولا أريد إضاعة مزيدٍ من الوقت.. ولكني تراجعت عن هذا السلوك البرجوازي رغبة في الالتزام بتقاليد هذا المكان البسيط.
ذاكرة احتجاجيّة
ما حصل في سيدي بوزيد لم يكن استثناءً في التاريخ التونسي الحديث.. فلتونس ذاكرة احتجاجية عريقة تمتد حتى أواسط القرن التاسع عشر.. صحيح أن الأحزاب المحليّة ضعيفة ولم تلعب دوراً كبيراً في مسيرة النِضال السلمي ضد السلطة.. ولكن في تونس ثمة تشكيلات نقابيّة ومهنية عريقة كانت دوماً رأس حربة في مسيرة الدفاع عن الحقوق والحُريّات.. من أبرزها (اتحاد الشغل) و(نقابة المحامين).
والتجربة الاحتجاجيّة التونسيّة تتذكر دوماً باعتزاز (عليّ بن غذاهم) الذي كان يُلقّب بـ (باي الشعب)، وهو من قبيلة ماجر بولاية القصرين، وقد قاد ثورة ضد الحكومة التونسيّة عام 1864م بسبب مُضاعفة الدولة لضريبة الإعانة رغبة في حلّ المشاكل الاقتصاديّة التي كانت تعانيها تونس.. وقد شملت الثورة عدة مناطق في الشمال الغربي والساحل والجنوب.. إلا أن قوات السُلطة (الباي) تمكنت في نهاية المطاف من إخمادها.. وتم اعتقال بن غذاهم في فبراير/ شباط 1866م، ومات بالسجن في أكتوبر/ تشرين الأول 1867م.
وفي القرن العشرين شهدت تونس كثيراً من الاحتجاجات السلميّة، من أبرزها تلك التي قادها فرحات حشّاد ضد السلطة الاستعمارية، ونتج عنها تأسيسه لأقوى تشكيل نقابي مُستقل بتونس (الاتحاد العام للشغل) عام 1946م. وبسبب المواقف الصارمة لابن حشّاد تجاه استغلال السلطة، وبسبب الإضرابات الكبيرة التي قادها، وموقفه الحاد تجاه قوات الاحتلال الفرنسي، تم اغتياله على يد عِصابة (اليد الحمراء) التي تتكون من فرنسيين مُقيمين بتونس، يوم 5 من ديسمبر/ كانون الأول 1952م.
وبدوره قاد الاتحاد العام للشغل -الذي له حضور واسع في كل المدن التونسية- مسيرة طويلة من الاحتجاجات السلميّة.. من أبرزها الإضراب الكبير الذي قاده عام 1978م وشمل غالب المدن التونسيّة، ونتج عنه مواجهات عنيفة مع السلطة سقط على إثرها عشرات القتلى وتم اعتقال قادة الإضراب لعدة أعوام.. أيضاً كان لاتحاد الشغل دور كبير في قيادة ثورة الخبز عام 1984م التي اشتعلت احتجاجاً على رفع أسعار الخبز والحبوب، ونتج عنها تراجع الرئيس بورقيبة عن قراره برفع الأسعار.
إضراب الجوع
وكان آخر حدث احتجاجي كبير شهدته تونس قبل الثورة هو (إضراب الجوع) الذي أعلنه ثمانية من القادة الحزبيين والحقوقيين يوم 18 من أكتوبر/ تشرين الأول2005م قُبيل مشاركة إسرائيل في قمّة المعلومات بتونس.. وكان الإضراب موجهاً ضد مشاركة إسرائيل، وضد الاستبداد والفساد وقمع الحريات وسياسة الإفقار والاستغلال.. ونتج عنه تأسيس أبرز تكتل حقوقي بين الإسلاميين والعلمانيين هو (هيئة 18 أكتوبر للحقوق والحريات).
وبرزت في الداخل التونسي شخصيات عديدة من الرجال والنساء كانت صارمة في موقفها ضد انتهاكات حقوق الإنسان، وتعرّضت بسبب ذلك إلى الاعتقال والأذى الأمني المتواصل.. من أبرزهم الكاتبة الصحفيّة (نزيهة رجيبة/أم زياد)والناشطة الحقوقيّة (سهام بن سدرين) والناشط السياسي والحقوقي (المنصف المرزوقي) والسياسي (أحمد المنستيري)، وسواهم.