20110612
الجزيره
امتدت لحظات انتظاري في المحطة قرابة الساعة.. في أثنائها تجولت على دكاكينٍ تبيع حلوياتٍ تشتهر بها القيروان، وأخرى تبيع منتجات شعبيّة.. ثم أخذتُ أتجول بين الحافلات.. أشاهد الناس وأستمع لأحاديثهم، وقد بدا لي واضحاً أنه كلما نزلتَ جنوباً في تونس، زاد الفقر، وقلّ التعليم، وبدت سِحنات الوجوه أكثر سُمرة وكدحاً، حتى أنك تكاد تستطيع أن تُميّز سُكان الجنوب عن الشمال.
وتحركت الحافلة باتجاه سيدي بوزيد بعد أن اكتملت في الساعة الحادية عشرة صباحاً.. وبدا الطريق ضيّقاً وزِراعيّاً في غالبه.. ويمر بوسط عدة قرى.. ويمتد لقرابة المائة وخمسين كيلومتراً باتجاه الجنوب.. وفيه نقطع عدة كيلومترات من الطُرق الترابية.. ولأن المزارع كانت تُحيطنا عن اليمين والشمال في بداية الطريق، توقّف سائق الحافلة مرتين كي يشتري هو وبعض الركّاب بعض الفواكه والخضراوات من هذه المزارع.. ولكن كلّما توغلت الحافلة في الطريق أكثر تضاءل منسوب الاخضرار في المُحيط، وازدادت ملامح الصحراء.
وقبل الوصول إلى سيدي بوزيد بنصف ساعة، كان الخبر الأول الذي بثته الأخبار الإذاعيّة هو سفر الرئيس اليمني علي عبد الله صالح إلى السعودية للعلاج، وكيف أن الثوّار اليمنيين اعتبروا خروجه نصراً، وأنه لن يعود.. عندها بدأت تعليقات ركاب الحافلة على خبر لجوء الرئيس اليمني -بعد رئيسهم زين العابدين- إلى السعودية.. وكان جيداً أنني لم أتحدث مع أحدٍ من الركاب أثناء الطريق، لذا لا أحد يعرف أنني سعودي.. فكانت فرصة للاستماع إلى انطباعاتهم دون تحفّظ .. طبعاً كانت النتيجة كما هو مُتوقّع أننا (تشرشحنا).
وصلتُ إلى سيدي بوزيد قبل الواحدة ظهراً.. وكان بانتظاري الأستاذ محمد طاهر.. وهو رجلٌ في أواخر الثلاثينيّات من عُمره.. ومن أعضاء حزب النهضة الإسلامي.. وقد قضى من شبابه أربعة أعوامٍ في السجن ابتداءً من 1991م بسبب نشاطه مع الحركة الطلاّبية بالجامعة التونسيّة.
بعد ركوبي مع طاهر وترحيبه الودود بي، التفتَ إليّ وقال: ما الذي تريد أن تعرفه في سيدي بوزيد؟.. قلت له مُبتسماً: أتيتُ كي أسمع القصة من أصحابها، وعلى أرضها، دون أن تُلوثها وسائط العولمة، ودون أن تَفقِد روحها وهي تتنقّل في مسارب الأثير الفضائي.
جامع الرحمة
سيدي بوزيد هو اسم لمُحافظة بالوسط التونسي.. تتوسطها مدينة سيدي بوزيد الصغيرة.. ويبلغ عدد سكّان المدينة قرابة الخمسين ألفاً.. غالبهم يعمل بالزراعة أو التجارة.. وغالب سكان المدينة ينتسبون لقبيلة (بني هلال) التي تسكن عشائرها بعدد من مدن الوسط التونسي.. ومحمد البوعزيزي ينتمي لعشيرة (الحورشان) من بني هلال.. وتُعتبر سيدي بوزيد من المُدن حديثة النشأة في تونس.. فهي لم تتأسس سوى قبل خمسين عاماً أو أزيد قليلاً.. وقد أُطلق عليها هذا الاسم لكونها تأسست بأرض تضم مقاماً لوليٍ اسمه (سيدي بوزيد).
مع طاهر اتجهنا أولاً لصلاة الظهر في جامع الرحمة.. هذا الجامع الكبير في هذه المدينة الصغيرة هو الذي شهد الشرارة الأولى للقصة.. فعلى بوابته الغربيّة كانت تقف عربة محمد البوعزيزي (محمد هو اسم الشهرة، واسمه في الأوراق الرسميّة طارق) ليبيع الخُضار يوم 17 ديسمبر/ كانون الأول 2010م .. وبعد الصلاة أتته (فادية حمدي) المشرفة في البلدية (مشرفو البلديات يُسمون في تونس بـ "أعوان التراتيب") ومعها رجل أمن، وصادرت الخُضار، وتعاملت معه بقسوة، وتفوّهت بألفاظ نابية، ويُقال إنها قامت بصفعه أيضاً.
عندها غضب محمد البوعزيزي.. وذهب إلى (قصر البلديّة) ليرفع شكوى على عون التراتيب (فادية) التي أهانته وصادرت خُضاره.. ولكن البلديّة لم تُنصفه ولم تلتفت لشكواه.. عندها اتجه البوعزيزي إلى مقر (الولاية) ليقابل مُحافظ المدينة.. ولكن المُحافظ لم يقبل بلقائه ابتداءً، فضلاً عن أن يستمع لشكواه.. بل قام موظفو الولاية بطرده وشتمه بألفاظ نابية.. وحينئذٍ ذهب محمد وأحضر إناءً يحوي بنزينا.. ووقف على باب الولاية.. وسكب البنزين على جسده.. ثمّ أحرق نفسه.. هذه هي الخطوط العريضة للقصة كما نُشرت في كل الصحف والمواقع.
* * * *
تداعيات الثورة
لم تكن ظاهرة إحراق النفس احتجاجاً على قمع السُلطة مُمارسة جديدةً في تونس.. ولم يكن محمد البوعزيزي هو أول من فعلها.. بل حصلت عِدة حوادث مُشابهة في التاريخ التونسي الحديث.. ففي عام 1990م أقدم شابٌ من محافظة سليانة على حرق نفسه أمام مقرّ المحافظة احتجاجاً على مُمارسات قمعيّة مورست ضِده.. وقبل شهور من قصة البوعزيزي أقدم رجل اسمه عبد السلام تريمش (وهو أبٌ لطِفلين) في الأسبوع الأول من مارس/ آذار 2010م على حرق نفسه أمام مقرّ محافظة المنستير بسبب مُصادرة مصدر رزقه وإهانته بقسوة.. وبعد هاتين الحادثتين كانت الاحتجاجات تثور في المحافظات التي تقع بها.. ولكن سرعان ما يتم إخمادها بقسوة أمنية.
وبعد إحراق محمد البوعزيزي نفسه مساء 17 ديسمبر/كانون الأول 2010م.. نامت سيدي بوزيد وهي على فوّهة بركان.. وكان يمكن أن يمرّ مشهد احتراق البوعزيزي كما مرّ غيره سابقاً.. ولكن ابن عمّه وبعضاً من أفراد أسرته وعشيرته الصغيرة قررت الاحتجاج في الغد أمام مقرّ الولاية.. واحتج ما يُقارب الخمسين شخصاً منهم.. وواجهتهم قوات الأمن بالعصي والقنابل المُسيلة للدموع واستطاعت تفريقهم.. وفي اليوم الذي تلاه واصلت ذات المجموعة الاحتجاج.. وتواصل القمع لهذه المظاهرات الصغيرة التي كان غالب المشاركين بها من أبناء عشيرته، إضافة إلى محامٍ صديقٍ للعائلة.
واصلت هذه المجموعة المُنتمية إلى عشيرة البوعزيزي احتجاجاتها لبضعة أيام.. وكانت في كل يوم تتصاعد المواجهات (لاحظ كيف يُمكن أن يكون للعشيرة دور إيجابي في الوقوف بوجه القمع والظلم).. وهو ما أدّى إلى ازدياد أعداد المُشاركين في المظاهرات.. وبعد أيام صارت الاحتجاجات تتجاوز الإطار الضيّق وبدأت تعمّ مُعظم المدينة.. وشارك شباب سيدي بوزيد بحماسٍ في هذه الاحتجاجات اليومية.. وسقط منهم قتيل واحد وعدد من الجرحى.
بدء الاحتجاجات
وهنا بدأت الاحتجاجات تتجاوز مُحيط سيدي بوزيد.. حيث انتقلت إلى عدة مدن محيطة.. فانتقلت أولاً إلى مدينة "القصرين" التي تبعد عن سيدي بوزيد ثمانين كيلومتراً.. والقصرين شهِدت أعنف المواجهات مع الأمن في تاريخ الثورة التونسية.. وتجاوز عدد القتلى فيها أكثر من ثلاثين شخصاً.. إضافةً لعشرات الجرحى (وهناك أحاديث عن عمليات اغتصاب عديدة قام بها عناصر الأمن).. وهو ما جعل البعض يكتب أن احتجاجات مدينة القصرين كانت مُنعطفاً مُهماً في الثورة.
وعند ذلك بدأت دائرة الاحتجاجات بالاتساع.. ووصلت إلى مدينة تالة القريبة من القصرين، والتي شهدت أيضاً مواجهات دمويّة.. وانضمت معظم القرى التابعة لمحافظة سيدي بوزيد إلى الاحتجاجات (المكناسي، وسيدي علي بن عون، ومنزل بوزيان، والرّقاب).. وفي مواجهتها ازداد استخدام الأمن للرصاص الحي الذي صار يوجه للصدور والرؤوس.. ووسط هذا القمع خرج الرئيس بن علي بخطابه الأول يوم 30 ديسمبر/ كانون الأول، وتحدث فيه بلغة حازمة عن نيته قمع الخارجين عن القانون.. وبعد هذا الخطاب المُستفز، بدأت عدوى المظاهرات تنتقل إلى عدد آخر من المدن التونسية.
ومع امتداد الاحتجاجات بدأ الحضور الكبير لـ (نقابة المُحامين) أولاً، ثم لـ (اتحاد الشغل) وذلك بالمشاركة في تنظيم وتأطير هذه الاحتجاجات.. حيث كان للحضور الكبير للمحامين ووقوفهم في الصفوف الأولى للمظاهرات دور مُؤثر في التدعيم الحقوقي لهذه الاحتجاجات، وكسب تعاطف المنظمات الحقوقية الدولية.. وبدأ الأمن في مطاردة المحامين، وتم اعتقال وضرب الكثير منهم.. وفي يوم 6 ديسمبر/ كانون الأول قام المحامون بإضرابٍ شمل كافة المحاكم احتجاجاً على التعامل الدموي مع المظاهرات.
طلبة الجامعات
ووصلت الاحتجاجات إلى الأوساط الجامعية.. حيث أقدم طلبة الجامعات في العاصمة وسوسة وعدد من المدن على تشكيل مظاهرات احتجاجية ضد ما يجري.. ولكن المظاهرات بالمدن الكبيرة لم تتجاوز بعدُ الأوساط النقابية والجامعية.
ومن المنعطفات المهمة بالثورة التونسية التظاهر الشعبي الكبير يوم 12 يناير/ كانون الثاني بصفاقس التي تُعدّ أهم معقِلٍ للنقابيين وثاني أكبر مدينة بتونس.. حيث تظاهر بهذا اليوم أكثر من خمسين ألفاً.. ويذكر المدوّنون للتاريخ الاحتجاجي التونسي أنه ما أن تُعلن صفاقس العصيان حتى تتبعها العاصمة.
وفي اليوم التالي بدأت بالفعل المظاهرات الشعبيّة الكبيرة تجتاح العاصمة تونس.. وبدأت تتردد شائعات عن استقالة الرئيس وعن سقوط مئات القتلى في المدن.. وبسبب ذلك سادت بعض أعمال الفوضى والنهب للمحال التجارية، وقام السكّان بتخزين المواد الغذائية، وتم إغلاق المؤسسات والمحال التجارية، وتوقفت القطارات، وقُطعت بعض الطُرق الرئيسية.
وفي اليوم الذي تلاه (14 يناير/ كانون الثاني) شل الإضراب العاصمة ومعظم المدن.. واندفعت الحشود بعشرات الآلاف إلى شارع الحبيب بورقيبة حيث مقر وزارة الداخلية.. وغصّ الشارع بالمتظاهرين الذين حاصروا مبنى الوزارة وهم يرددون الشعارات المطالِبة برحيل بن علي وإسقاط النظام.. وفي الخامسة مساءً تسرب خبر هروب الرئيس إلى فرنسا.. ثم تبيّن بعد ساعاتٍ عديدةٍ أن فرنسا رفضت استقباله، وأنه توجه إلى السعوديّة.