20110617
العالم
ثمة تشابه مدهش يستحق التأمل والتوقف العميقين بين الأنهار والثورات، سواء في بداياتها مساراتها أو نهاياتها. ولكي يصبح النهر نهرا وتكون الثورة ثورة لابد ان يستكمل كلاهما رحلته وإلا تحولا شيئا آخر مغايرا تماما. النهر يبدأ مندفعا جامحا متدفقا محاولا تحديد مساره بكل عنفوان نحو مصبه النهائي.
وما بين المنبع والمصب يواصل النهر رحلته ناشرا النماء والكلأ والخير على جانبيه حيثما مر.'وكلما ابتعد النهر من المنابع مقتربا من المصب أخذت سرعة جريانه في التراجع رويدا رويدا، عندها يتحول الاندفاع انسيابا رقيقا والجموح إلى وداعة وليونة تتيح للطمي ان يترسب مكونا ضفتين عريضتين على جانبيه تفيضان بالخصوبة والحياة فتعمر الأرض ويأكل البشر والطير ويفيض الخير على وجه المكان.
تتيح هذه الاستكانة والرقة التي تميز النهر كلما قارب على نهاية رحلته، للبشر ان يروضوا النهر ويمتطوا ظهره ليقيموا عليه سدودا وجسورا تعينهم على ضرورات الحياة واعمار الأرض وبناء الحضارات. هكذا قامت وازدهرت الحضارات الإنسانية الأهم في التاريخ على ضفاف الأنهار، ومنها الحضارة المصرية التي قامت على ضفاف النيل. هذا هو ناموس الطبيعة منذ خلق الله الأرض ومن عليها، وذلك هو ومنطق الأشياء كما خبرناها. فماذا لو سولت لأحد نفسه أن يخالف هذا الناموس ويحاول ترويض النهر عند منابعه، حيث اندفاع الماء في ذروة جبروته وقوته، وحيث النهر أقرب للشلال المتدفق بعنف وجموح؟ سنكون هنا أمام احتمالين لا ثالث لهما: إما أن النهر الغاضب سيكتسح في طريقه كل المحاولات التي تريد وقف مسيرته وتذهب كل جهود ترويضه أدراج الرياح وتكون عندها هذا الجهود ضربا من الجنون والحماقة ومضيعة للمال والوقت.
أما الاحتمال الثاني فهو أن يتمكن البشر من الوقوف في وجه النهر وإرغامه على عدم اكتمال مسيرته الطبيعية، مستعينين في ذلك بكل ما أوتوا مما أنتجه العقل البشري من علم وتكنولوجيا وإمكانيات.. القاعدة هي أن الاحتمال الأول هو الغالب، وفقا لما يخبرنا به التاريخ وحقائق الجغرافيا. ولكن ماذا لو تحقق الاحتمال الثاني، وهو قد صار قابلا للتحقق في ظل التقدم العلمي الهائل؟ سنكون عندها أمام احتمالين أيضا: إما ان يغير النهر مساره متخذا وجهة أخرى غير الوجهة الطبيعية المنطقية،'بفعل الضغط عليه لإرغامه على التوقف، وهنا ربما تكون وجهة أكثر تدميرا وخطورة مما لو ترك يأخذ مساره الطبيعي، وهكذا قد يتحول النهر من مصدر للخير والنماء وعامل من عوامل النهضة والحضارة، إلى سبب للخراب والدمار وغرق البشر والحجر. أما الاحتمال الثاني فان النهر قد يخضع ويستكين لمروضيه قسرا، وهنا لن يصبح النهر نهرا بل سيتحول إلى بحيرة مغلقة لا تقيم حضارة ولا تنشئ مدنية، وربما تبخر ماؤها وأصبح آسنا بفعل السكون وانعدام الحركة والجريان، وهنا لا يتصورن أحد امكانية أن تنشأ نهضة أو حضارة على ضفاف هذه البحيرة الآسنة.
ولان مسار الثورات يتشابه تماما مع مسار الانهار فان الثورة تبدأ غاضبة مندفعة جامحة مجنونة تسعى لهدم كل ما هو قائم لتعيد بناءه على أسس جديدة تتفق ورؤية الثوار، وكلما هدأ غبار الثورة وأنجزت مطلبا من مطالبها، هدأت الاعصاب الملتهبة وافسحت المشاعر الجياشة مكانا للعقل والمنطق في إدارة الامور حتى تكتمل رحلة الثورة إلى منتهاها وتتحقق اهدافها كاملة غير منقوصة في وضع قواعد واسس لبناء جديد يحقق للشعب الثائر آماله وتطلعاته في الحق والحرية والعدل والمساواة والكرامة. ومن هنا تبدو خطورة محاولات البعض في مصر الان ترويض ثورة المصريين وسد الطريق أمام استكمال مسيرتها وتحويلها من نهر يفيض بالخير والنماء والحضارة على هذا الشعب، الذي تعرض لاكبر عملية نهب في تاريخه تحت حكم مبارك، الى بحيرة مغلقة آسنة، أو دفعها دفعا نحو مسارات ومنزلقات خطيرة قد تعيدنا خطوات الى الوراء بدلا من أن تدفعنا دفعا نحو الامام. ثمة مؤشرات كثيرة ومخاوف تبدو مشروعة من أن هناك اطرافا في الداخل والخارج تسعى جاهدة لتهذيب سلوك الثورة والثوار وترويضهم ومنعهم من انجاز الاهداف التي قامت من أجلها هذه الثورة.
وهنا استعيد تشبيها طريفا للكاتب الكبير محمد حسنين هيكل، أثار جدلا حين قاله، حول ما جرى في مصر بعد الاطاحة بمبارك في ثورة 25 يناير، فهو يرى أن الثوار أدهشوا العالم وازاحوا الدكتاتور، كانوا كمن أراد أن يصل الى سطح القمر بصاروخ وعندما أنجز ذلك وسئل عن مطلبه طلب وجبة من الكباب. الاستاذ هيكل أراد من تشبيهه هذا التدليل على ان الثورة في حقيقتها لم تكتمل. صحيح أنها اسقطت حاكما فاسدا ولكنها لم تسقط النظام بسياساته وأفكاره وحتى بعض شخوصه. هذا الوصف إذا اضفنا اليه مقولة البعض بان ما جرى في مصر كان نصف ثورة ونصف انقلاب، يقدم لنا تفسيرا ضمن تفسيرات كثيرة عن الاسباب التي تحول حتى الان دون انجاز أهداف الثورة في إحداث تغييرات جذرية على قواعد اللعبة السياسية، ووضع اسس لاقامة نظام سياسي جديد كليا وليس البناء على ما هو قائم واختزال الثورة في مجموعة الخطوات الاصلاحية.
لكن ما يؤخذ على هذا التشبيه أنه يلقي باللائمة على الثوار في تواضع سقف طموحاتهم ومطالبهم، من دون ان يتطرق إلى مسؤولية اطراف اخرى كثيرة سعت منذ اللحظة الاولى لنجاح الثورة الى ترويضها لتكون مجرد انتفاضة شعبية او احتجاجات جماهيرية لتحقيق اصلاحات سياسية تمس ظاهر النظام السياسي من دون ان تمتد لجوهره وباطنه.
لقد تجمعت في الايام الاخيرة جملة من المؤشرات على أن الثورة التي أراد من قاموا بها تغيير وجه مصر سياسيا واقتصاديا واجتماعيا واعادة صياغة كل ما هو قائم، يراد لها وبقسوة أن تتوقف عند ما جرى من تغيير لرجالات الحكم والقبض على عدد كبير منهم والقائهم في السجون بتهم تتعلق بالفساد او التورط في قتل المتظاهرين، من دون ان تمتد لاحداث أي تغييرات جذرية في بينة الدولة المصرية السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
وفي هذا الاطار يمكن تفسير أمور كثيرة تبدو مثيرة للدهشة وتدفع دفعا للاعتقاد بان ثمة انقلابا على الثورة عبر مجموعة من المواقف، من قبيل البطء الشديد في التعامل مع رموز النظام السابق والتمسك الحرفي والشكلي بنصوص القوانين في معالجة الكثير من الملفات التي تتطلب سرعة وحزما وتجاوزا لنصوص القوانين الى روحها وجوهرها، وهو منطق يكشف عن انحياز المنادين به لفكرة الاصلاحات لا منطق الثورة.
ووفقا لذلك ايضا يمكن فهم المعالجات الترقيعية لملف العدالة الاجتماعية كأحد أهم مطالب الثورة، وعدم الرغبة في اتخاذ اي اجراءات حقيقية من شأنها أن تعيد الامور الى نصابها فيما يخص توزيع ثروات البلاد على ابنائها والتي قام مبارك وعصابته بتجريفها على مدى سنوات لصالح فئة قليلة فاسدة. ومن هنا يمكن فهم تصريحات وزير المالية سمير رضوان عن التمسك الكامل بالاقتصاد الحر، وأنه لا رجعة عن دعم القطاع الخاص ليقود قاطرة التنمية وتشجيع الاستثمار والمستثمرين. ويمكن فهم التراجع عن فرض ضريبة على الارباح الرأسمالية والتردد حتى الان في فرض ضريبة تصاعدية على الدخل.
وفي هذا الصدد ايضا يمكن فهم تصريحات وزيرة التعاون الدولي فايزة ابو النجا أمام وفد من المستثمرين الامريكيين عن انه لا تفكير اطلاقا في إعادة النظر في اتفاقية الكويز بين مصر واسرائيل وامريكا، بل إن الوزيرة قالت ان مشروعات الكويز ستتوسع في الفترة المقبلة. كل ذلك يظهر بجلاء أن ما تقوم به الحكومة الحالية التي جاء رئيسها من ميدان التحرير تسير باخلاص على درب حكومات ما قبل الثورة، وما كان تعتمده من سياسات اقتصادية فادحة التكلفة على النسيج والاستقرار المجتمعي. حتى شعار العدالة الاجتماعية الذي يرد في كلام المسؤولين الان في معرض حديثهم عن السياسات الاقتصادية يعيد الى اذهاننا نفس اللغة والرطانة اللتين كان مبارك ونظامه يخاطبان بهما الشعب، فهل فعلا حدثت ثورة في هذا الوطن كان ابرز مطالبها العيش والعدالة الاجتماعية؟
وإذا كانت بعض هذه التصريحات تكشف عن جوهر الرؤية الاقتصادية والاجتماعية للقائمين على الأمور حاليا، فان الامر الذي يعتبر في اعتقادي خيانة للثورة هو قرار الحكومة استئناف تصدير الغاز لاسرائيل التي ترفض، وهنا المفارقة، اي تعديل في اسعاره الحالية، ليس فقط لان هذا القرار هو قرار سياسي اكثر من كونه اقتصاديا، ولكن لانه يشكل استفزازا لمشاعر المصريين الذين كان وقف ضخ الغاز للدولة العبرية واحدا من أهم مطالبهم قبل الثورة وإن اضفنا الى ما سبق المعالجات التي تجرى حاليا لادارة المرحلة الانتقالية وخريطة الطريق الموضوعة لانهاء هذه المرحلة، وحالة الضبابية التي تحكم المشهد السياسي وغياب الوضوح في التعامل مع الكثير من الملفات وترك الناس نهبا للشائعات والتكهنات، فان كل هذه الاشارات تبعث للشارع المصري، وربما الأهم لجهات اخرى خارج الوطن، برسالة مفادها أن تغييرات جذرية لن تحدث في مصر الثورة لا على الصعيد الاقتصادي ولا على الصعيد السياسي، وأن الكثير من السياسات التي كانت قائمة في العهد السابق ستبقى دونما تغيير. بمعنى اخر إعادة إنتاج النظام السابق مع بعض عمليات التجميل والترقيع. وفي ظل هذا الوضع هل يمكن ان نتحدث بثقة وبقلب مطمئن عن أن ثورة جرت في مصر؟