يتأكد يوم بعد يوم أن الجولة الإفريقية التي قام بها وزير خارجية إسرائيل مؤخرا كانت تستهدف بالأساس مصر ومياه نيلها ، حيث كشفت صحيفة "لوفيجارو" الفرنسية في 8 سبتمبر عن تفاصيل مخطط إسرائيل الجديد للسيطرة على مياه نهر النيل بعد الإغراءات التي تقدمت بها للدول الإفريقية في السنوات الماضية لإثارة القلاقل مع مصر وإعادة توزيع مياه النهر.
ووفقا للصحيفة ، فإن الجولة التي قام بها افيجدور ليبرمان إلى بعض الدول الإفريقية في 2 سبتمبر تشكل تهديدا خطيرا لمستقبل مصر ، موضحة أن هذا التحرك وهو الأول منذ 25 عاما يعتبر تمهيدا لحرب المياه في الشرق الأوسط التي تبدأ في قلب القارة الإفريقية.
وأضافت أن الوزير الإسرائيلي زار إثيوبيا وكينيا وأوغندا لأنها تشكل دول منبع النيل ، مشيرة إلى أنه ضغط على إثيوبيا لبناء سدود على نهر النيل خاصة وأن 80% من المياه التي تجري في مصر تأتي من النيل الأزرق الذي ينبع من إثيوبيا.
واستطردت " مصر تمول حفر الآبار في كينيا لتنظيف البحيرات الأوغندية ولكن إسرائيل تساهم في الوقت ذاته في بناء السدود في إثيوبيا وثلاثة مشاريع جديدة في أوغندا ، هذه الإغراءات التي تمارسها إسرائيل تتجاوز حدود المنافسة الدبلوماسية مع مصر لأن الموضوع بالنسبة لإسرائيل هو الوصول إلى مياه النيل".
وانتهت الصحيفة إلى القول إن إسرائيل ومنذ تأسيسها تحاول أن تحصل على مياه النيل وقد سبق أن طرحت في عام 1974 فكرة إعادة القدس المحتلة إلى الفلسطينيين ، مقابل نقل 840 مليون متر مكعب من مياه النيل سنويا إلى إسرائيل وهذه الكمية كافية لتغطي احتياجاتها من المياه ، غير أن المشروع اصطدم بمعارضة إثيوبيا والسودان حينها.
إثيوبيا كلمة السر
ويبدو أن "لوفيجارو" لم تكن الصحيفة الوحيدة التي تدق ناقوس الخطر في هذا الشأن ، فقد نشرت جريدة "القدس العربي" أيضا مقالا للكاتب عبد الباري عطوان في 4 سبتمبر جاء فيه أنه لم يكن من قبيل الصدفة أن يبدأ وزير الخارجية الإسرائيلي افيجدور ليبرمان جولته الإفريقية بزيارة العاصمة الإثيوبية أديس أبابا ولم تكن صدفة أيضا أن تشمل هذه الجولة دولتين أخريين تشكلان مع إثيوبيا المصدر الأساسي لمياه نهر النيل وهما أوغندا وكينيا.
وقال :" إسرائيل بدأت تدرك جيدا أن هناك حالة من التذمر في أوساط دول المنبع الإفريقي لهيمنة دولتين عربيتين على الغالبية الساحقة من مياه النيل، هما مصر (55.5 مليار متر مكعب) والسودان (18.5 مليار متر مكعب)، أما ما تبقى، أي عشرة مليارات متر مكعب، فيذهب إلى ست دول إفريقية على الأقل ، وشهدت الأعوام الأخيرة مطالبات علنية بتعديل اتفاقيتي 1929 و1959 لتوزيع مياه النيل، خاصة الشق المتعلق منهما باعطاء مصر (دولة المصب) حق الفيتو على أي مشاريع سدود في أي من دول المنبع".
وأضاف " التركيز الإسرائيلي على إثيوبيا مهم لأنها تقود التمرد على الاتفاقيتين المذكورتين أولا، ولأن 86 بالمائة من مياه النيل تأتي من مرتفعاتها، والأهم من كل ذلك الوجود العسكري الإسرائيلي المتعاظم في هذه الدولة التي باتت مخلب القط الأمريكي في القرن الإفريقي، وتجلى ذلك واضحا في الفترة الأخيرة بإرسالها قوات إلى الصومال واحتلاله فعليا".
وتابع عطوان يقول :" الاحصاءات الرسمية ترجح أنه في عام 2017 لن يكون لدى مصر الماء الكافي لمواجهة احتياجات مواطنيها المتفاقمة ، حيث ستبلغ هذه الاحتياجات 86 مليار متر مكعب سنويا، بينما لن تتعدى جميع مصادرها 71 مليار متر مكعب، أي أنها ستواجه عجزا مقداره 15 مليار متر مكعب ، الصورة ربما تبدو مأساوية بشكل أكبر إذا مضت إثيوبيا قدما في نواياها في إقامة سد على النيل الأزرق، مصدر معظم مياه النيل، ويبدو أنها مصممة على ذلك، وأعلن وزير الري فيها أنه لا توجد قوة في العالم تحول دون اقدامها على ذلك، فالمياه مياهها، ولا حق لأحد بأن يملك الفيتو ضد مشاريعها، وهدد بالانسحاب من معاهدة 1929 المذكورة".
واستطرد " ليبرمان الذي هدد بقصف السد العالي وإغراق الشعب المصري ذهب إلى القارة الإفريقية على رأس وفد إسرائيلي كبير يضم ممثلين عن أكبر شركات أسلحة إسرائيلية، علاوة على خبراء آخرين في شئون المياه والاقتصاد وحرب العصابات ، ليبرمان عرض على هذه الدول خدمات بلاده العسكرية لتعزيز قواتها المسلحة للتصدي لأي حرب يمكن أن تشنها مصر في المستقبل في حال إقدام هذه البلدان وخاصة إثيوبيا على مشاريع لتحويل مياه النيل ، التغلغل الإسرائيلي في إفريقيا يستهدف مصر ومستقبل أجيالها، وضربها في خاصرتها الموجعة، أي مياه نيلها ".
وأخيرا ، تساءل الكاتب عن رد الفعل العربي على هذا التغلغل الإسرائيلي في قارة كانت حتى نصف قرن مضى تعتبر بحيرة نفوذ عربية ومصرية على وجه التحديد تعتمد اعتمادا مباشرا على المنح الدراسية والخبراء الزراعيين والدعاة المصريين ، واختتم قائلا :" المحللون الإفارقة يقولون إن إسرائيل تعرض عليهم خبرات زراعية، ووعوداً بمساعدتهم للحصول على منح مالية أمريكية وأوروبية لما لها من نفوذ كبير هناك، وفوق هذا وذاك أسلحة حديثة ومتطورة وخبراء يتولون تدريب جيوشهم على حروب العصابات، فماذا عند العرب لكي يقدموه غير الفساد والتخلف والهزائم؟".
محادثات الإسكندرية
ورغم أن ما ذكره عطوان صحيح بنسبة كبيرة ، إلا أن مصر تعي وتدرك خطورة التحركات الإسرائيلية ، ففي 28 يوليو الماضي ، اختتم وزراء من الدول العشر المطلة على نهر النيل محادثاتهم في مدينة الإسكندرية بمصر حول مشروع اتفاقية إطارية جديدة بشأن كيفية تقاسم مياه النهر، والتي تأتي في إطار مبادرة دول حوض النيل التي وقعتها مصر في عام 1999 لبحث كيفية توزيع مياه نهر النيل بين دول المنبع والمصب العشرة، في ظل مطالبات دول في شرقي إفريقيا وخاصة أوغندا وكينيا بضرورة إلغاء اتفاقية أبرمتها بريطانيا عام 1929 لتقسيم مياه النهر بحجة أنها لم تراع احتياجات دول المنبع.
ويجب الإشارة إلى أن محادثات الاسكندرية لم تكن الأولى من نوعها في 2009 التي تبحث موضوع الاتفاقية الجديدة ، حيث شهد شهر يونيو الماضي أيضا محادثات حول القضية في كينشاسا ، إلا أنها منيت بالفشل ، حيث تمسكت دول الحوض بموقفها الرافض للاتفاقيات التاريخية التي تعطي لمصر حقوقها في مياه النيل، خاصة اتفاقيتي 1929 و 1959 وأصرت علي إعادة تقسيم حصص المياه بين دول الحوض بشكل أكثر عدلاً من وجهة نظرها.
وفي المقابل ، تمسكت مصر برفض أي اتفاق جديد يقلل من حصتها والتي تعد أكبر من حصة أي بلد آخر كما أصرت على الحصول على حق نقض أية مشاريع تنوي بلدان أخرى إقامتها على نهر النيل ، موضحة أنه مع استمرار نمو الكثافة السكانية ، فإن الطلب سيفوق حصتها التاريخية في مياه النيل ، هذا بالإضافة إلى أن إقامة أي سدود في منطقة منابع النيل يعرض الأمن المائي في كل من مصر والسودان للخطر ، فضلاً عن أن السدود لا تدخل ضمن برامج التعاون التي تشملها مبادرة دول حوض النيل.
ويبدو أن محادثات الاسكندرية حققت بعض التقدم ، حيث بدأت اللجان الفنية التي تم تشكليها من الفنيين والخبراء والقانونيين في دول حوض النيل وبحضور خبراء البنك الدولي والدول المانحة عملها اعتبارا منذ مطلع أغسطس الماضي في القاهرة ودول حوض النيل بالتناوب لبحث نقاط الخلاف حول الاتفاقية الإطارية الجديدة لمبادرة حوض النيل ، وذلك بهدف الوصول إلى رؤية موحدة للإطار القانوني والمؤسسي للمبادرة .
وأعلن الدكتور محمد نصر الدين علام وزير الموارد المائية والري في مصر بعد اختتام المحادثات أن نقاط الخلاف بين دول المصب وهي مصر والسودان ودول المنبع هي إثيوبيا وأوغندا وكينيا وتنزانيا والكونغو ورواندا وبوروندي تتمثل في ثلاث نقاط أساسية هى : الموافقة المسبقة ، والأمن المائي ، والحقوق التاريخية في مياه النيل لدول المصب.
وأضاف نصر الدين أن النقطة الأولى تتمثل في الموافقة المسبقة على إقامة أي مشروعات على امتداد نهر النيل ، فدول المنبع متفقة على الموافقة بالأغلبية ، ولكن مصر والسودان تقترحان أن الموافقة بالإجماع ، وفى حالة الأغلبية يجب أن تكون مصر والسودان ضمن الأغلبية.
التصريحات والتحركات المصرية السابقة وإن لم تحقق النجاح المرجو حتى الآن ، إلا أنها تبشر بالخير ولذا سرعان ما تحركت إسرائيل لتنفيذ مخططها القديم الجديد ضد مصر ونيلها .
فما أن انتهت محادثات المجلس الوزاري الـ17 لدول حوض النيل في الاسكندرية ، إلا وأعلنت إسرائيل عن موافقتها على تمويل إنشاء ثلاث سدود علي نهر النيل بأوغندا، بزعم استغلال هذه السدود في توليد الكهرباء ، بجانب استغلال مياهها المخزنة خلف هذه السدود في مشروعات التنمية الزراعية بأوغندا.
وفي 2 سبتمبر ، قام وزير الخارجية الإسرائيلي أفيجدور ليبرمان بجولة إفريقية استمرت ثمانية أيام وزار خلالها خمس دول في القارة هى إثيوبيا وكينيا وغانا ونيجيريا وأوغندا.
حقائق تاريخية
وما يؤكد مصداقية ما ذكرته صحيفة لوفيجارو عن المخطط الإسرائيلي الجديد ضد مصر ونيلها أن هذه الجولة تعد المرة الأولى منذ أكثر من عشرين عاما التي يزور فيها وزير خارجية إسرائيلي إفريقيا ، كما أنه رافقه في جولته نحو 20 من رجال الأعمال الإسرائيليين في مجالات الطاقة والزراعة والشحن والري والبنية التحتية والكيماويات والإعلام والأمن ، هذا بالإضافة إلى تأكيده أن الجولة تندرج في إطار خطته لتطوير اتجاهات جديدة في سياسة إسرائيل الخارجية ، زاعما أن إسرائيل غابت طيلة سنوات عديدة عن مناطق بأكملها في العالم وأن ثمة أهمية كبيرة لهذه الجولة في تقوية مكانة إسرائيل وتعزيز العلاقات الاقتصادية والتجارية مع الدول الإفريقية ، وخاصة مع إثيوبيا.
وأيا كانت نوايا ليبرمان الشيطانية ، فإن هناك عدة حقائق تاريخية تؤكد أن أمن مصر المائي "خط أحمر" لا يمكن لأحد أن يتجاوزه ، فمعروف أن نهر النيل هو أطول نهر في العالم ، وقد حصلت مصر وفقا لاتفاقية وقعت بينها وبين بريطانيا عام 1929 على حق تعطيل أي مشاريع في حوض النهر كفيلة بالتأثير على حصتها من المياه ، كما كفلت اتفاقية وقعت عام 1959 بين السودان ومصر للأخيرة الحصول على 55,5 مليار متر مكعب من مياه النيل سنويا، وهو ما تعترض عليه الدول الثماني الأخرى، وتقول مصر إنها ستكون بحاجة الى 86,2 مليار متر مكعب من المياه في عام 2017، ولكنها لا تملك سوى مصادر تكفي لتأمين 71,4 مليار متر مكعب فقط.
وبالإضافة إلى الحقوق التاريخية ، فإنه هناك أيضا أحداثا تاريخية تؤكد أن مياه النيل تشكل مسألة "حياة أو موت" بالنسبة إلى مصر على مدى العصور، ففي القرن التاسع عشر ، وضعت حكومة محمد علي باشا خطة طوارئ للتدخل عسكريا ضد أي دولة يمكن أن تشكل أي خطر على تدفق مياه النيل إلى مصر، كما دعا الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات خبراءه العسكريين لوضع خطة طوارئ عام 1979 عندما أعلنت إثيوبيا عن نواياها بإقامة سد لري 90 ألف هكتار في حوض النيل الأزرق، وهدد بتدمير هذا السد، وعقد بالفعل اجتماعا طارئا لقيادة هيئة أركان الجيش المصري لبحث هذه المسألة.
الحقائق السابقة تؤكد أن العلاقة بين مصر ودول حوض النيل يجب أن تبقى علاقة تعاون ، لأن غير ذلك يصب في صالح إسرائيل فقط.