غنى عبد الحليم حافظ واحدة من أشهر أغنياته العاطفية، التي يقول مطلعها "في يوم في شهر في سنة"، فما الذي من الممكن أن نقوله عن يوم رحيل عبد الحليم الموافق 30 مارس/آذار 1977. غادر "حليم" الحياة وهو يقترب من يوم ميلاده 11 يونيو/حزيران، ولم يكن قد أكمل بعد الثامنة والأربعين من العمر، ورغم ذلك فإنه كان أكمل أركان أسطورته التي تجاوزت عمره لتستمر حتى الآن؟!
أنا لا أتفق أبداً مع الرأي القائل إننا لا نزال نعيش على ضفاف شاطئ أم كلثوم وعبد الحليم.. الحياة تتغير والحب والتعبير عن الحب يتغير.. حب الوطن في 2012 ليس هو حب الوطن كما تغنى به عبد الحليم في 1954 عندما غنى لجمال عبد الناصر "إحنا الشعب إحنا الشعب اخترناك من قلب الشعب"، وحسني مبارك الذي ينتظر أن يودع في ليمان "طرة" بسبب فساد الحكم، ليس هو بالتأكيد جمال عبد الناصر، الذي يحتفل الوطن العربي كل عام بذكرى رحيله وميلاده رمزا للعزة والكرامة..
الحب الذي غنى له حليم في منتصف الخمسينيات "على قد الشوق اللي في عيوني يا جميل سلم"، ليس هو الحب الآن.. الحياة فرضت الكثير من المتغيرات، هذه هي الحقيقة التي ينبغي أن نتقبلها جميعاً. حتى ملامح المطرب تغيرت، عمرو دياب تأملوه مفتول العضلات، رياضي، وهو الآن تجاوز الخمسين من عمره.
الملامح تغيرت، ولو اختصرت 20 عاما، وشاهد مثلاً تامر حسني، الذي يصغر عمرو بهذه السنوات، ستجد أنه أيضا يحافظ على لياقته وبنيته الجسدية وعضلاته، بل يحرص على أن يُظهر شعر صدره كلما وجد الفرصة مهيأة أو حتى غير مهيأة لذلك، بل إن حمادة هلال شاهدناه في أحد أفلامه ملاكما عالمياً..
خالد سليم يصلح لبطولة كمال الأجسام، خالد عجاج وأحمد فهمي من الممكن أن ينافساه في نفس المسابقة.. هل تصور أحدكم مثلاً أن يرى حليم أو فوزي أو فريد أو عبد الوهاب أو وديع يشاركون حتى في مباراة كرة قدم، مجرد أن نرى ذلك سيصبح بالتأكيد مشهداً كوميديا؟!
عندما يصبح هذا هو نموذج المطرب الآن، فهذا يعني أن مشاعر الناس تغيرت. المطرب ضعيف البنية "مهدود الحيل" لم يعد هو النموذج.. لماذا عبد الحليم حافظ عاش؟ لأن به شيئا أعمق من الملامح ومن الكلمات، إنه الإحساس الذي خلق بينه وبين الناس هذا التقابل السحري..
ولا يزال حليم يحتل مساحة في القلوب حتى الآن إلا أن العلاقة مع عبد الحليم في هذا الزمن هي أقرب لعلاقة رجل متزوج لديه بيته وأسرته، لكنه يذهب أحياناً لبيت العائلة.. لديه حياته والتزاماته، ولكنه في نفس الوقت لا يجد بأساً من تلك الزيارة الخاطفة.. هذه هي مشاعر هذا الجيل في تعاطيهم مع مطربي الزمن الذي نطلق عليه جميل.. نعم عبد الحليم له مساحة أكبر إلا أن الأمر لا يعني أبداً أن عبد الحليم يدخل في صراع حقيقي على قلوب شباب هذا الجيل مع عمرو ومنير وتامر وصابر ووائل وراغب وغيرهم!!
ربما تقولون إن أرقام التوزيع لا تزال تشهد أن عبد الحليم وأم كلثوم على القمة، الأشرطة والأقراص المدمجة (C.D) لا تزال تضعهما في مكانة عالية من خلال أرقام البيع، ولكن هذا لا يعني الانتشار. إن الأرقام هي الجانب الموثق من الصورة، ولكن تابعوا النت المفتوح لتكتشفوا أن الشباب -وهم المؤشر الحقيقي لحال الغناء والفن عموماً- لتتأكدوا أن الملايين تتابع المعارك بين عمرو وتامر، وأن القضايا الغنائية المثارة والساخنة لا يشارك فيها عبد الحليم أو أم كلثوم أو عبد الوهاب أو فريد..
هذا هو الواقع وتلك هي الخريطة الحقيقية في الحياة.. ويظل الحنين إلى الماضي أو حتى البكاء على الماضي ليس بكاء على اللبن المسكوب لأننا جزء من هذا الماضي والماضي نفسه الذي نحن إليه كان من عاشوه يشعرون بالحنين للماضي عندما كان هو يمثل الحاضر.. نعم أيام عبد الوهاب كانوا يتحسرون على زمن صالح عبد الحي.. في زمن عبد الحليم ترحموا على زمن عبد الوهاب.. الكل يعتقد أن الزمن القديم هو الصحيح!!
نعم لم يكونوا ملائكة، لا أم كلثوم ولا عبد الوهاب، ولا عبد الحليم ولا فريد، كانت لهم أجنحة الملائكة أحياناً تنبت لهم أظافر وأنياب للدفاع عن أنفسهم.. مثلاً حكى لي محرم فؤاد في حوار مسجل أن عبد الحليم حافظ هو الذي أوعز إلى نجاة لكي تسجل بصوتها "يا حبيبي قولي آخر جرحي إيه" قبل محرم حتى تحرمه من الغناء ولكن محرم أصر على غنائها، ولا أحد يتذكر الآن هذه الأغنية بصوت نجاة!!
قال لي أيضاً محرم إن عبد الحليم أفسد علاقته مع محمد رشدي، عندما أوعز لكل منهما على انفراد أن يغني مطلع أغنية فولكلورية "متى أشوفك أشوفك يا غايب عن عيني" حتى يأخذ كل منهما قسطا من النجاح من الآخر، وتبادل محرم ورشدي الاتهامات على صفحات الجرائد، كل منهما يعتبر أنه الأحق بغناء "متى أشوفك"، ومن بين ما ردده بعد ذلك محمد رشدي أن عبد الحليم راقب نجاحه بعد أن غنى "وهيبة "و"عدوية"، وقرر أن يستحوذ على القوة الضاربة، التي صنعت هذا الرصيد الشعبي لدى رشدي وهما الشاعر عبد الرحمن الأبنودي والموسيقار بليغ حمدي ليقدما له أغنيات شعبية مثل "أنا كل ما أقول التوبة"!!
ولم يكن رشدي ملاكا كان أيضاً يسعى لكي يرد الصفعات والضربات لعبد الحليم.. مثلا المطربة إلهام بديع كان لها في منتصف الستينيات أغنية حققت قدرا من الشهرة "يا حضرة العمدة ابنك حميدة حدفني بالسفاندية" وكان من المفروض أن تغني إلهام "على حسب وداد قلبي" وأجرت البروفات مع بليغ حمدي، ولكن بالصدفة استمع عبد الحليم إلى اللحن فقرر غناءه.. راحت تشكي وتبكي لمحمد رشدي وقالت له ماذا أفعل أجابها: "انتحري، ولكن قبل الانتحار أتركي لي خطابا قولي فيه إن الذي دفعك للانتحار هو عبد الحليم حافظ وتحكي الواقعة، وبعد انتحارك أعدك بأنني سوف أنشر خطابك على الملأ"!!
وبالطبع لم تأخذ إلهام بنصيحة رشدي وعاشت في الظل ورحلت عام 2002 والناس لا تتذكر لها سوى أغنية واحدة "يا حضرة العمدة" ولم تنجح خطة رشدي في التشهير بعبد الحليم!!
بالطبع كان عبد الحليم حافظ حريصاً على أن يظل في البؤرة بكل الأسلحة وأهمها بالطبع سلاح الإعلام، وهكذا مثلاً نجد أنه كان قريباً للعديد من الصحفيين.. ورغم ذلك فإن كبار الكتاب كانت لديهم أيضاً قدرة على أن يرسموا بدقة صورة عبد الحليم حافظ، ويكتشفون المناطق السهلة والممنوعة، وهذا هو ما دفع كامل الشناوي إلى أن يطلق عليه تعبيرا صار لصيقاً به وكأنه مفتاح لشخصيته "عبد الحليم يصدُق إذا غنى ويكذب إذا تكلم"..
البعض يرى نصف الكوب الفارغ، فهو -أي عبد الحليم- إنسان كاذب، ولكنك لو تأملت النصف الثاني ستجده ملآنا ويؤكد أن عبد الحليم حافظ فنان صادق وأنه خُلق لكي يبدع فناً، كل شيء بالنسبة لعبد الحليم كان لديه وظيفة واحدة ووحيدة وهي أن يضع عبد الحليم حافظ في مكانة استثنائية.. قد تبدو مثل هذه الكلمات تحمل قدرا من القسوة، لكن دعونا نتفق على أن كل العمالقة في حياتنا ليسوا ملائكة ولهم مناطق ضعفهم، وهكذا عبد الحليم حافظ الذي لم يعرف الصدق إلا عندما يغني، وهكذا عاش في حياتنا ويتجدد لقاؤنا به في ذكراه وبعد ذكراه.