20120721
المصري اليوم
الطريق إلى لقاء «ت. أ» الناشطة بحركة «التغيير الآن» فى أحد مقاهى حى الرياض بالسودان، كأنه كان يرسم مسار الحديث نفسه، ففى موقف سيارات الأجرة «ميكروباص»، الكائن خلف ستاد الخرطوم المهجور، كان الأسفلت متكسراً والرمال تنغرس فيها الأقدام، وهناك جندى بزى الاحتياطى المركزى «الأمن المركزى» يمسك بعصا رفيعة، ويمر بتعالٍ إلى جوار بائع بالغ النحافة، فيمد الجندى عصاه بهدوء مزيحاً ببطء واثق بضاعة البائع من «مصاصات» أطفال صغيرة مغلفة إلى الأرض، ينظر البائع إلى الجندى، ولا تتحرك فى جسده أو وجهه عضلة، ويمر أغلب الوقوف دون أن يلتفت أيهم للمشهد، وكأنه روتين يومى.
السيارة تنطلق إلى حيث حى الرياض المترف، وفيه يسكن موظفو الدولة وضباط الشرطة والجيش، يمر الطريق بشارع المطار حيث المطاعم والكافيهات وفيلات ومكاتب الكبار، يتغير حال الأسفلت، ويصبح ممهداً ناعماً، وبوصول محررة «المصرى اليوم» لحى الرياض، بدا وكأن هناك «خرطوم» أخرى غير التى يشهدها ويعيشها ركاب موقف السيارات الكائن خلف الاستاد.
«ت. أ» الناشطة بحركة التغيير الآن يبدو هذا لها عادياً تقول: «هذا هو حال السودان، وستجدينه مطابقاً للحال فى مصر وكثير من الديكتاتوريات الأخرى، لا يهم أن تكون حياة الناس سهلة، لكن يجب أن تبدو كذلك»
«ت» واحدة من الناشطات، الذين بدأوا العمل السياسى فى الجامعة، ورغم أنها تنتمى لأسرة متوسطة ذات مستوى اجتماعى معقول، فإن الأوضاع فى السودان جعلتها تنضم مبكراً للحركة الطلابية، ثم تواصل العمل السياسى عبر أحد الأحزاب قبل أن تنضم لحركة التغيير الآن.
تقول «ت»: «القضية ليست اقتصادية، فالأزمة الاقتصادية التى يشهدها السودان وتضغط على الجميع، يعرف الناس أنها نتيجة فساد النظام، لهذا يوجد شباب ورجال ونساء من الطبقة الميسورة قليلاً ينضمون للثورة، وإن كان الحق يوجب علىّ إيضاح أن حتى ميسورى الحال يعيشون انحداراً اقتصادياً ما داموا ليسوا أعضاء فى الحزب الحاكم»، وتواصل: «صدقينى الحال لا يختلف عن مصر، فالفساد والقمع هما محركا الثورة هنا كما كانا هناك».
تتنقل «ت.أ» أثناء حديثها بين موضوعات كثيرة تصب كلها فى إدانة النظام، حديثها المنطلق يتوقف لدقائق عند سؤال «أهى ثورة أم انتفاضة؟»، تفكر الناشطة السياسية الشابة طويلاً قبل أن ترد: «ما يحدث الآن لم يبدأ عند خروج فتيات داخلية البركس، لقد صادر النظام كل فرص التغيير عبر صندوق الانتخابات فى 2010 عندما تمت صفقات بينه وبين المعارضة الرسمية، وتم تزوير الانتخابات لصالح البشير. المظاهرات والفعاليات الاحتجاجية الشابة من وقتها لم تتوقف، لقد بدأت الثورة منذ تم رفع شعار سقوط النظام للمرة الأولى فى نهايات 2009 قبل حتى أن يتردد النداء فى تونس».
محمد عبدالرازق أبوبكر أو «بكرى» كما يناديه أصدقاؤه، المتحدث الإعلامى باسم حركة «التغيير الآن»، يتفق مع زميلته «ت.أ» يقول: «لا يوجد نظام يتغير بين يوم وليلة، والدليل قائم فى مصر وتونس، حيث ما زال هناك صراع بين النظام والثوار حتى الآن، الانتفاضة التى يشهدها الشارع السودانى الآن مهمة باعتبارها مرحلة من مراحل الثورة المستمرة منذ 2010، لا يوجد سبب موضوعى واحد لبقاء نظام البشير، فأجنحة نظامه تتصارع، وهو مطلوب دولياً والفقر والحروب العرقية التى يقودها النظام تستنزف المواطنين، شعبية النظام وشعبية الإسلاميين تتآكل بسرعة كبيرة».
لا يبدى «بكرى» تفاؤلا كبيراً باستمرار الانتفاضة الحالية، جرى حديثه مع «المصرى اليوم» فى المقهى نفسه الذى قابلنا فيه «ت.أ» فى الأسبوع الثالث من الثورة السودانية، التى تدخل الآن أسبوعها الخامس، كانت وتيرة التظاهر وقتها آخذة فى الهدوء بعد جمعة «لحس الكوع»، وبدا عند بعض النشطاء إحباط من تراجع الموجة، لكن قبل نهاية الأسبوع نفسه كانت مدن جديدة فى قطاعات بعيدة جغرافياً عن مركز التظاهر «العاصمة الخرطوم»، بدأت تنضم للمظاهرات اليومية العائدة، وكان الخروج فى الجمعة التالى «جمعة شذاذ الآفاق» أكبر من الأسابيع السابقة عليه من حيث عدد المدن والأحياء المنضمة للتظاهر، ومن حيث عدد المتظاهرين، ومن حيث الحشد الأمنى كذلك.
وعلى العكس من «عدم تفاؤل» بكرى، كان عبدالله كمبالى، أحد مؤسسى حركة شباب 30 يناير، عضو الدائرة المركزية للحزب الديمقراطى الليبرالى، يميل كمبالى الذى يتوقع لجوء الناس لآليات جديدة، إلى التحليل والبحث وراء أسباب اندفاع الناس نحو التحرك أو إحجامهم عنه.
يتفق «كمبالى» مع «ت.أ» و«بكرى» حول أن الثورة لم تبدأ الآن، ويسمى ما يشهده الشارع السودانى الآن بـ«الانتفاضة»، ويعتبرها خطوة على طريق الثورة القائمة لا لإزاحة عمر البشير ونظامه فقط، لكن لإعادة بناء السودان على أسس جديدة تنبذ «العنصرية»، التى يتهم كمبالى و«ت.أ» وبكرى وكثير من النشطاء الشباب فى الحركات الشبابية السياسية والثورية فى السودان نظام البشير بتعظيمها وتعميقها، وصولاً لانفصال الجنوب.
يرى «كمبالى» أن مستقبل الانتفاضة الحالية يصعب التنبؤ به، فالوضع السودانى يختلف عن أى دولة أخرى فى المنطقة باعتبار النظام الحاكم «عسكرى - دينى» يستخدم الدين لحشد المؤيدين والأنصار وتخوين المعارضة، ويضمن ولاء الجيش والآلة العسكرية الضخمة التى تعمل لصالحه، وتدين له بالولاء الدينى والسياسى. ويعول «كمبالى» على تصاعد الأزمة الاقتصادية، واستمرار العزلة الدولية، إلى جانب لجوء النظام المستمر للحلول الأمنية.
ويرى الناشط الشاب أن هذه الظروف كلها هى ظروف موضوعية يصنعها النظام بنفسه فى ظل استمرار الفساد، وفشل الإدارة السياسية والاقتصادية ستؤدى فى النهاية لسقوطه، الذى يعتبره كمبالى «مسألة وقت».
«ت.أ» وبكرى و«كمبالى» من الآن يتفقان تماما على التغيير، وتعدد «ت.أ» أسباباً أخرى تضاف لعوامل حتمية سقوط النظام، فالعزلة الدولية حول السودان تتزايد، والعقوبات الاقتصادية المفروضة منذ عام 1997 تستنزف بترول السودان وموارده لاضطرار النظام للاعتماد على التكنولوجيا الصينية الرخيصة، التى تستنزف الموارد وتهدرها وتلوث البيئة، والانتهاكات التى ترصدها تقارير دولية ومحلية حول انتهاكات النظام ومجازره فى دارفور والنيل الأزرق ومناطق السدود وبورتوسودان، كلها قادت لنهضة جبهة ثورية مسلحة ضد النظام جعلته فى حالة اختناق داخل العاصمة والولايات الشمالية.
تؤكد «ت.أ» ما تقوله تقارير دولية حول فقد النظام سيطرته على أطراف البلاد لدفعه مواطنيه نحو حمل السلاح ضده، يذكر عبدالعزيز كمبالى أن الرئيس عمر البشير هو من دعا الحركات الثورية فى الأقاليم السودانية لحمل السلاح عندما صرح بأنه لن يتفاوض مع من لا يحمل سلاحًا، يقول كمبالى: الوضع هو أن النظام يعين مواليه حتى فى الولايات ذات العرقيات غير العربية كوزراء وولاة، هؤلاء يعاملون المواطنين فى تلك الأقاليم بعنصرية، والفقر والجوع يتضافران مع أسلحة النظام لحصد الأرواح لهذا صارت أقاليم السودان بؤر حروب. هذا الوضع كاف فى رأى كمبالى لسقوط النظام خلال شهور.
لكن هناك عنصراً آخر يعول عليه «كمبالى» و«بكرى»، بدا من اطمئنان بكرى الظاهر رغم تحذيرات صديقه وزميله فى الحركة «ص. م» من شابين يجلسان خلفنا فى المقهى حيث نتحدث، هذا الاطمئنان فسره بكرى بقوله: «القوى الشابة الجديدة هى المعول الذى سيهدم هذا النظام، لقد رفع الشباب مطالب إسقاط النظام نهائياً وقتما كان غاية المعارضة فى السودان أن تطالب بإصلاحات وزارية، لقد ارتفع مطلب إسقاط النظام بالفعل، ومن خرجوا فى الأحياء، وهتفوا فى وجه «الرباطة» ضد تجار الدين لن يتراجعوا ويقبلوا بإصلاحات شكلية ليس لدى النظام حتى استعداد لأن يناقشها فضلاً عن أن يقوم بها».
يقول عبدالعزيز كمبالى: هناك واقع سياسى جديد فرضته القوى الشابة، هذا الواقع يتضمن آليات عمل جديدة، وتواصل مباشر مع الشارع، وتبنى مطالبه، وتركيز على ما يوحد السودانيين لا ما يفرقهم، فالقوى الشابة تتجاوز بنية الأحزاب الاثنية والقبلية بطبيعتها، حتى أحزاب المعارضة. وتفرض طبيعة جامعة ضمن خطاب ومبادئ قومية وطنية، وقد غير هذا من الخريطة السياسية بالفعل، وفرض واقعه حتى على الأحزاب التقليدية.
يتفق من يمكن تسميتهم قادة العمل السياسى من الشباب فى السودان على أن ما يشهده السودان حالياً «انتفاضة» لكنها تأتى كما يقول بكرى، فى إطار «ثورة مستمرة، يصنعها الشعب السودانى نفسه بلا توجيه، وستستمر حتى تحقق غايتها بإسقاط النظام».