يقول محمود درويش في قصيدة خطب
الديكتاتور الموزونة: «قفوا أيها الناس حولي خاتمْ.. لنصلح سيرة حواء..نصلح أحفـاد
آدمْ. سأختار شعبا محبا وصلبًا وعذبا.. سأختار أصلحكم للبقاء». وان كانت مناسبة
خطاب الديكتاتور عامة، فالخطاب المقصود هنا هو الخاص بالاحتفال بليلة القدر. فما
جاء في حديث الواقع فرض درويش وطرح معه تساؤلا أكثر عمقا عن اختلاف الخطاب بين
رؤساء مصر من فترة لأخرى، ومن حدث لآخر، على خلفية الثورة. والتساؤل حول الأخ
الأكبر المسؤول عن كل الأشياء، والمسيطر على مفاصل الحياة، والقائم برسم الحدود بين
المفروض والقائم، والمسؤول عن تعريف المفاهيم أو بالمجمل اختيار الشعب الذي يتلاءم
معه كحاكم وانعكاسه على المشهد.
وبالنظر للصعوبات الموضوعية والعملية المرتبطة بدراسة مضمون حقيقية لخطب الرؤساء،
فإن ما يتم التعامل معه هنا هو خطاب واحد لرؤساء مصر من فترة ما قبل الثورة، مع
استبعاد فترة المجلس الأعلى للقوات المسلحة. ومن خلال التركيز على خطب الرؤساء في
الاحتفال بليلة القدر، حيث يتفق الحدث ويختلف الشخص والسياق. فيتم تناول خطاب
الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك في سبتمبر/ايلول 2010 قبل أشهر من الثورة التي أطاحت
به، وخطاب الرئيس الأسبق محمد مرسي في أغسطس/اب 2012 قبل أشهر أيضا من الإطاحة به،
وخطاب الرئيس الحالي المشير عبد الفتاح السيسي في يوليو/تموز 2014.
ومع الاتفاق على اختلاف الأحداث المحيطة بكل خطاب، بما يؤثر في اختلاف الموضوعات
التي يتم تناولها، وإدراك أن الخطاب يختلف عن الممارسة ولا يعبر عن الواقع على
الأرض بالضرورة، فإن الاقتراب من تلك الخطب ليس إلا محاولة للبحث عن مساحات للاتفاق
والاختلاف حول الأسلوب وكيفية عرض الفكرة، ونقاط التركيز، سواء في تحديد المشكلات
أو في طرح الحلول.
بالمجمل يأتي خطاب مبارك في المكانة الأولى في ما يخص قصر المدة وهيكل التناول، في
حين يتفق مع مرسي في عدم قراءة اللحظة، فرغم حديث مبارك قبل الثورة بأشهر قليلة عن
وجود تغييرات كبرى تحدث على الأرض، إلا أنه فشل في قراءة التطورات المحتملة. أما
مرسي فقد تحدث بثقة عن قدرته على ضبط الأمن والتصدي لكل المحاولات التي تبذل لتهديد
الاستقرار والأمان، ولكن بعد أشهر قليلة كان عليه أن يواجه نتائج عدم قراءته للواقع
المحيط به، سواء في الشارع أو في دهاليز السلطة والحكم.
أما من حيث هيكل التناول، فيمكن اعتبار حديث مبارك الأقرب للتعامل مع الحدث وتناول
النقاط المتصور وجودها في تلك المناسبة في السياق المصري. في حين تناول خطاب مرسي،
وهو أطول تلك الخطابات، الكثير من النقاط التي تتفق في هيكلتها مع مبارك، من حيث
تناول البعد الديني للمناسبة في البداية والواقع الإسلامي والمصري والعربي، وما
يتصور ان تقوم به مصر في مواجهة التحديات المختلفة. واختلف مرسي عن مبارك في مساحة
الدفاع عن النفس بصورة غير مباشرة، بما تعنيه من دفاع عن الإسلام والتمييز بينه
وبين الإرهاب الذي وجدت محاولات للربط بينه وبين جماعة الإخوان، والدفاع عن سياساته
والرد ضمنا على الانتقادات الموجهة له ولحكمه. أما خطاب السيسي، الأقرب من حيث
الحجم لخطاب مبارك، فيمثل حالة خاصة بعيدة عن المناسبة وتتسق مع الشخص وما يأتي في
خطاباته أو أحاديثه بصفة عامة من حديث الأنا العارفة والمدركة والمسيطرة على
الأوضاع. كما اتبع اسلوبه المعتاد في استخدام العامية المصرية والتحدث بشكل غير
رسمي في أمور داخلية، رغم ان الحدث والحضور والجمهور المستهدف أوسع من تلك القاعدة
التي وجه لها خطابه. وجاء هيكل الخطاب وما تناوله مختلفا أيضا، حيث ركز بصفة أساسية
على ضرورة إعادة النظر في الصورة التي يقدم بها الإسلام، سواء في الداخل أو في
العالم، وإسقاط ذلك على الوضع المصري وما تحتاجه السلطة في تلك اللحظة.
إلى جانب ما سبق، وفي ظل الجدل المثار في مصر، خاصة بعد الثورة، عن الخطاب الديني
وتوظيفه في السياسة، يتصور أن يظهر هذا الأمر في تلك الخطابات، خاصة ونحن نتعامل مع
حدث ديني الطابع، إلا ان مراجعة تلك الأحاديث تكشف عن أن أكثر المرات التي تكرر
فيها القسم بصورة مباشرة كانت من نصيب خطاب السيسي، وهو أمر غير بعيد عن أحاديثه
السابقة، فهناك دوما الحديث عن المحاسبة أمام الله وما تمثله من مسؤولية تفرض عليه
إعادة هيكلة المشهد المحيط، ليس بتقديم واقع أفضل بالضرورة، ولكن بإعادة النظر في
معنى الأفكار الكلية الحاكمة بما فيها الحديث عن تقديم الإسلام نفسه في خطاب ليلة
القدر، ومطالب الثورة في خطاب يوليو/تموز. أما مبارك فقد كان حريصا على التأكيد على
الوحدة الوطنية ومخاطر الخلط بين الدين والسياسة، وبعيدا عن الإطار العام لطبيعة
الخطاب فقد أشار إلى نقاط عامة، كبعض النقاط الواردة في خطاب السيسي من حيث نصر
الله ودعمه. وتشابه مرسي مع مبارك في الإطار الديني العام للموضوعات والمزيد من
الاستشهادات الدينية، والثقة في نصر الله ودعمه.
ومن حيث تناول المشكلات، لم يختلف خطاب مبارك عن الصورة العامة التي قدمت خلال فترة
حكمه، حيث الحديث الدائم عن الزيادة السكانية بوصفها أصل المشكلات، فهي التي تضغط
على الموارد ولا تترك الفرصة لتحقيق آمال وطموحات الشعب. ولهذا، أكد على
الإنجــــازات التي تحققت والتي ما زالت تتحقق من أجل القضاء على انعـــكاسات
الأزمة السكانية، خاصة البطالة وضرورة مساندة الفقراء والمهمشين. فالإشارة إلى
الماضي تمت لتأكيد وجود إنجازات بدون الحديث عن اخطاء، وبهذا لم يقدم تصورا للتعامل
مع التحديات يختلف عن الواقع القائم. وهو الأمر الذي ظهر فشله في المرحلة التالية
عندما تطورت الأوضاع إلى ثورة.
كان لدى مرسي بدوره همه الخاص بالرد على ما يتعرض له من انتقادات أو تشويه، سواء من
خلال الخلط بين الإسلام والإرهاب والإخوان وغيرهم، أو التقليل من قيمة ما يقوم به.
ولهذا، أكد على التحديات الممتدة لعقود بسبب الفساد. مشيرا بشكل خاص إلى تحديات
غياب الأمن والإرهاب والأوضاع الاقتصادية. ومع ما تضمنه حديثه من خطاب إسلامي مرتبط
برمضان وما يحض عليه من تعاون وتراحم ومساعدة للمحتاج، فقد أكد على أهمية العمل
ومحاسبة المقصر، مستنكرا ومجرما قطع الطرق، وهي التحركات التي ظهرت واضحة كجزء من
المطالب الفئوية - كما يطلق عليها - التي مثلت أحد عوامل انتقاده حتى بعد ان ترك
السلطة، وخلال ما واجهته العديد من تجمعات مؤيديه من معاملة أمنية. وهو امر آخر
يضاف لعدم قدرته على قراءة اللحظة الفارقة بين الواقع والتطورات.
أما السيسي فأكد على أن مشكلة مصر والعالم هي غياب صورة الإسلام الحقيقية، وان مصر
عليها ان تقوم بهذا الدور من خلال الأزهر. وعلى عكس مبارك ومرسي وتقديرهم الخاص
للأزهر، خاصة في خطاب مرسي المليء بعبارات التبجيل والثناء في التعامل مع الأزهر
وشيخه والمنتمين له، فقد حرص السيسي على توجيه ملاحظاته علنا، وطالب الأزهر بتبني
خطاب وسطى في الداخل والخارج بما حمل ضمنا أنه لا يفعل وأن هناك ملاحظات علي ما
يقوم به. وجاء هذا الخطاب لينضم لخيط متصل من تعامله مع المسؤولين والمؤسسات بصفة
عامة، فهو يعرف أكثر ولديه الرؤية الكلية التي يجب عليهم اتباعها، إلى جانب الحرص
على إبراز هذا علنا على عكس مرحلة مبارك، التي كان يظهر فيها هذا الأمر من خلال
تكرار عبارة وفقا لتوجيهات السيد الرئيس. وأكد على أن قضية الداخل هي قضية عوز، وأن
الحل الوحيد للتعامل معها هو الكثير والكثير من الأموال التي تقدم له من أجل أن
يتعامل فيها ومعها بحرية لبناء وطن ما لا نعرف عنه الكثير لأن الزعيم مشغول باختيار
شعبه.
حتى الآن ومع ما مر على مصر من خطب موزونة، يبدو أن هناك مساحة ديمقراطية مسموحة
ومشتركة بين الرؤساء تقضي بالسماح بالغناء ورفع صور الحاكم على كل جدار وشكره كل
صباح ومساء، في حين يعمد معظم الحكام لعد أسباب المشكلات والانجازات، والتفرغ لكرسي
الرئاسة ونياشين الملك والصولجان.
القدس العربي
Navigate through the articles | |
الأمصار بحاجة إلى الأخيار | النظام المصري يخسر الورقة الفلسطينية |
التعليقات تخص صاحبها ولا تخص ادارة الموقع
|