المقالات و التقارير > عن حال الدولة المصرية وإمكانية اجتيازها مرحلة الخطر!

عن حال الدولة المصرية وإمكانية اجتيازها مرحلة الخطر!

يذكر عدد من أصدقائي العراقيين أنني كنت لا أتوقع سقوط الدولة العراقية رغم الحصار، وحتى لو هوجمت وتم غزوها عسكريا، وكان منطلقي أن الدولة، وليس صدام حسين، ستدافع عن وجودها، وتصمد وتبقى، ومع تقدم جحافل الغزاة صوب بغداد صمدت الدولة بعض الوقت ثم انهارت. وجاء «بول بريمر» حاكما أمريكيا للعراق ليستكمل مهمة إسقاط الدولة، فسرح الجيش وسلم الحكم لأباطرة الطوائف وأئمة المذاهب؛ فساعدوه في تفكيك الدولة، ونجحوا في ذلك للأسف الشديد، وانتهى الأمر بهم إلى تقطيع أوصالها؛ مناطق وكانتونات وإمارات؛ تقاسمتها الطوائف والأعراق والفرق، وحين عملت واشنطن على إعادة تركيبها وضعوا لها صيغا اتحادية (فيدرالية) أو تعاهدية (كونفدرالية) وهمية؛ زادتها تفككا.
وحين ظهرت «داعش» وجدت الدولة العراقية وقد تحولت إلى شظايا وبقايا وأطلال، واقتطعت جزءا منها ضمته إلى جزء من سوريا لتقيم «دولة الخلافة الإسلامية»!!.
وذهب العراق ولن يعود إلا بمعجزة! وما جرى للعراق كان من أهم ما دار في خلد عموم المصريين، فطلبوا عون القوات المسلحة لدرء الخطر الداهم على دولتهم، الذي بدت بوادره تحت حكم «الإخوان»؛ اتخذت القوات المسلحة الموقف المتوقع، وانحازت للشعب في 30 حزيران/يونيو، وكان ذلك الخطر دافعا حقيقيا وراء موقف الغالبية العظمى من المصريين في منح المشير عبد الفتاح السيسي ثقتهم، وانتخبوه رئيسا مكافأة له على موقفه، والراصد الجيد لتاريخ مصر سوف يلحظ أن لدى المصريين نزوعا فطريا يعبر عن نفسه في الكوارث والأزمات؛ حدث بعد هزيمة 1967 وفي حزيران/يونيو 2013، ومصر بلا دولة عارية، وبدون غطاء يحميها وينظم حياة أهلها، ومع التأكيد على صحة مقولة «هيرودوث» أن «مصر هبة النيل» فنحن نؤكد أنها «هبة الدولة» أيضا!
يرجع الفضل إلى النيل في الوجود الاجتماعي والسياسي لسكان هذه البقعة من الأرض، التي وصفها الراحل جمال حمدان بـ»عبقرية المكان»، ووجود بهذا المعنى يدين ببقائه واستقراره لدور الدولة، التي كانت وراء نمو وتواتر الحضارات عليها؛ بعد أن جذبت ضفاف النهر الخالد جماعات بشرية نشطة؛ اخترعت الزراعة، وحولتها إلى مهنة؛ تمارس في دورات منظمة وفصلية، وبنت القرى للإقامة الدائمة، واعتمدت منظومة إنتاجية وإنشائية معمارية جماعية، واستطاعت هذه الجماعات التحكم في مسار النهر وضبط مياهه، وأقامت المشاريع حوله، وحفرت بحيرات تخزين المياه، وشيدت جسورا وسدودا تصون المجرى ولا تترك مياهه للتبديد في الصحارى المترامية الأطراف، وكان ذلك من أربعين قرنا قبل الميلاد.
نشأت الدولة مرتبطة بالأرض والنيل، فتحولت الأرض إلى وطن، وحازت قيمة اقتصادية واجتماعية عليا؛ أضحت مصدرا للانتماء والأمان.
وقد لا يستوعب بعض الأشقاء العرب القيمة التي يعطيها المصريون للنيل والدولة، وهذه القيمة هي التي ساعدتهم على اجتياز حقبة الانتماء للسلالة والعرق بمعدلات أسرع من غيرهم، ودخلوا مبكرا إلى الحقبة المدنية، والانتقال من جماعات صغيرة متباعدة إلى كيانات أكبر متقاربة؛ تتعاون وتتكافل وتوفر لنفسها الأمن وسبل الحياة؛ حتى دخلت طور «الشعب»، وفيه قويت نزعتان أساسيتان؛ أحداهما عملية؛ اتجهت صوب الوحدة السياسية والجغرافية (بداية عصر نارمر أو مينا)، والأخرى ثقافية روحية؛ مالت نحو التوحيد الديني (منذ ما قبل عصر إخناتون).
وسيطر على ذلك المجتمع نمط من الانتاج كان الفلاح عماده الأساسي، وقد كان في حاجة إلى «عُزوة» لخدمة ذلك النمط الجماعي وشبه الجماعي، وأدى ذلك لتكاتف الأسرة وتماسكها، وترتيب حياتها المشتركة وتوزيع العمل بين أجيالها المتعددة؛ جدود وأباء وأحفاد، واتسعت «العُزوة» بالمصاهرة والنسب، وتفرعت إلى أسر وعائلات منتجة استوطنت مساحات أكبر من الأرض. وارتبطت الثروة بالفلاحة وانتاج وتخزين الحبوب واستئناس الماشية والحيوانات لإنتاج الألبان واللحوم واستخدامات النقل والحراسة، وكما صار ذلك مصدرا لدخل الفرد والأسرة؛ اقتطعت الدولة لنفسها حصة للصرف على الإدارة والأجهزة الفنية والأمنية والعسكرية.
واختلف ذلك عن النشاط الاقتصادي في البوادي القديمة، وقام على الرعي والترحال؛ بحثا عن مراع ومصادر مياه ومناطق صيد، واستمد سكان البادية قوتهم من الانتساب إلى العشيرة والقبيلة؛ وكانت توفر الرعاية والأمن في الحل والترحال والصيد، ولم يكن للأرض نفس القيمة التي لها في المجتمع النهري، وارتبطت الثروة بكم الإبل والخيول والأغنام، وما زالت هناك رواسب ثقافية لا تستوعب الولاء الصارم للأرض والدولة في بلد كمصر، مع أنها هي نفس الصرامة التي يوليها الأشقاء في البوادي للقبائل والعشائر والبطون والأفخاذ.
والعمل على تفكيك الدولة في مصر ليس وليد سنوات ما بعد ثورة يناير 2011. وقد تناولنا بعض ذلك على هذه الصفحة من سنوات، وهو مخطط سابق حتى على تاريخ يعتمده مفكرون وكتاب عرب؛ يربطونه بانهيار الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة في تسعينات القرن الماضي، والتفكيك بدأ مبكرا مع قدوم الاحتلال، واتفاقية سايكس/ بيكو، واغتصاب فلسطين، وتحولات ما بعد 1973، إلى أن عاد الاحتلال القديم، مع وجود الاستعمار الجديد، ونجاح سياسة «فرق تسد» البريطانية، وتعزيزها بسياسة «الخطوة خطوة» الأمريكية لهنري كيسنجر، وقد وجد المساعدة بقرار «صديقه» السادات بأن 99٪‬ من الأوراق السياسية في يد واشنطن؛ معلنا ذلك بعد حرب مجيدة أبلى فيها الجندي العربي بلاء شديدا، وحين أقول الجندي العربي، فأنا أعني ما أقول؛ ليس بدافع العاطفة إنما للتذكير بحقائق مغيبة عن الأجيال الجديدة، التي لا تعرف أن الحرب شارك فيها العرب؛ تقدمتهم مصر وسوريا وفلسطين والجزائر، ومعهم العراق والسودان والمغرب، وحتى السعودية قطعت النفط وقدمت دول الخليج المال والعون العيني.
وحين توجس مؤتمر قمة بغداد 1978 في نوايا السادات، وتبرير تصرفاته بالوضع الاقتصادي المأزوم؛ أرسل له المؤتمر وفدا يبلغه برصد خمسة مليارات ونصف المليار دولار لدعم اقتصاده؛ وردا على ذلك أطلق أكذوبته الشهيرة «مصر ليست للبيع»، ثم باعها للمرابي الأمريكي بثمن بخس؛ يقدر حاليا بمليار ونصف المليار دولار، وهو «ثمن» مكلف تسدده مصر من استقلالها وكرامة شعبها حتى الآن!.
وكما سلم السادات ومن بعده مبارك مقادير مصر السياسية والعسكرية للإدارة الأمريكية؛ أخذا بنصيحتها، وسلما اقتصادها إلى مقاولين وسماسرة ومضاربين ووكلاء احتكارات أجنبية. وعن طريقهم تكونت طبقة ماصة أستولت على الدولة لحسابها، وبعد أن كان الخطاب السياسي يتعامل مع «مواطنين» من كل فئات الشعب وطبقاته، أصبح يتوجه إلى «مستثمرين»؛ يدفعهم إلى تصفية المشروعات الاستراتيجية والمؤسسات الصناعية والإنتاجية والمصرفية بـ»الخصخصة» والنهب المنظم وغير المنظم، وحل كل ما هو أجنبي محل الإنتاج الوطني، واختفت الصناعات المصرية الثقيلة والبتروكيماوية والصلب والألومينيوم والسكك الحديدية والطيران والصواريخ، ومعها صفيت ونزحت فئات وطبقات كاملة من المهنيين والخبراء والفنيين والإداريين والمنتجين (فلاحين وعمال)، وضعف دور الدولة وفسدت.
أضحت الدولة «شركة قابضة» ترعى مصالح «ملاك مصر»؛ لهم كل شئ، وسقط المواطن من الحساب، وظهر إلى جانب أباطرة المال والأعمال والإعلام؛ أباطرة من نوع آخر؛ هم ملوك الطوائف وشيوخ المذاهب؛ يتكسبون من شرعنة زواج السلطة بالمال دينيا، ويضفون على ذلك الزواج المحرم قدسية ليست فيه، والدين منها براء.
فهل يتغير الوضع؟ وينفصل المال عن السلطة؟ أم يبقى على ما هو عليه؟ هذه أسئلة معلقة حتى إشعار آخر.

القدس العربي


Navigate through the articles
Previous article لماذا يخسر ماسبيرو؟ الحكومة القطرية تمنح المغرب هبة بقيمة 136 مليون دولار Next article
التعليقات تخص صاحبها ولا تخص ادارة الموقع