راودتني، أكثر من مرّة، فكرة في قالب مزحة،
في الفترة الأولى التي تلت سقوط نظام ابن علي، تهمس لي أنّه من الأفضل للتونسيين،
عِوضًا عن أن يهتمّوا في مستقبل أيّامهم بانتخاب رئيس لدولتهم، أن ينشغلوا على
العكس من ذلك، أو بادئ ذي بدء بانتخاب، زوجته. الهزل هو عين الجدّ، كما يقول أبو
عثمان الجاحظ في بخلائه.
فلنتصوّر أنّ الدستور التونسي في الأيّام أو السنوات الأولى من السابع من نوفمبر،
تاريخ انقضاض ابن علي على سدّة الحكم وطرده لبورقيبة من قصر قرطاج، كانت فيه مادة
تنصّ على انتخاب زوجة الرئيس أو على الأقلّ تشير صراحة إلى أنّ الشعب هو صاحب كلمة
الفصل في اختيار زوجة لرئيسه خاصة إذا ما طلّق زوجته الأولى لما كنّا وصلنا إلى ما
وصلنا إليه من خراب وإراقة دماء ولما انتهى ابن علي نفسه هذه النهاية المأساويّة
شريدًا ومنبوذًا في أواخر عمره، نهاية يُحمّلها التونسيون بدرجة أولى لزوجته ليلى
الطرابلسي، بل لو ذهبنا إلى أبعد من ذلك إلى بدايات استقلال تونس وتأسيس المجلس
التأسيسي ودستور البلاد لما وصلنا مع الماجدة وسيلة بورقيبة حرم الرئيس إلى ما
وصلنا إليه ولما اضطرّ بورقيبة إلى الطلاق منها وهما في أرذل العمر.
ليس في هذا عيب، يقول القائل، فآباؤنا وأجدادنا والبعض من رجالنا إلى اليوم كثيرًا ما يلتجئون إلى أمّهاتهم وأخواتهم وقريباتهم (والنساء يعرفن بعضهنّ البعض أكثر من معرفة الرجال بهنّ) ضمانًا لاستقرارهم وهنائهم، فإذا كان هذا حال رجال عاديين هناؤهم يخصّهم وحدهم فما بالك إذن إذا كان الأمر يتعلّق برئيس دولة هناء الجميع من هنائه والعكس بالعكس. فلا يخفى إذن أنّ الحاجة إلى ذلك أوكد وأمسّ بكلّ تأكيد. قصّة زوجات الرؤساء في العالم ونفوذهنّ وراء الكواليس أكثر من أزواجهنّ، خاصة في الغرب، وهي العدوى التي لعلّها انتقلت إلى تونس بفعل التحديث على الطريقة الأوروبيّة التي عرفتها البلاد منذ استقلالها، مسألة يمكن أن تُحبَّر حولها مؤلّفات كاملة، يكفي استحضار المثال الفرنسي في الخمس سنوات الأخيرة: زوجة ساركوزي سيسيليا التي نستحضر دورها الأساس في إطلاق الممرّضات البلغاريات في ليبيا وانتقالها في هذا الغرض إلى طرابلس قبل أن تطلّق زوجها الرئيس وتخرج بمحض إرادتها من القصر غير آسفة عليه تاركة مكانها لكارلا بروني التي تركته بعد سنوات مكرهة لصديقة خليفة زوجها فرانسوا هولاند فاليري تويلر التي اضطرّت بدورها مكرهة لا بطلة أن تغادره بعد أن اكتشفت أنّ قلب الرئيس ينبض لغيرها وقد يكون انسحابها مهّد الطريق لزوجته الأولى وأمّ أبنائه سيغولين روايال مرشّحة الرئاسة السابقة إلى أن تعود إلى محيط زوجها إن لم تكن سيّدة فرنسا الأولى، فعلى الأقلّ وزيرة في الحكومة الأخيرة. فقصّة زوجات الرؤساء لا تنفصل عن قصّة علاقة الدولة بالعائلة كما عرفها تاريخ الإنسانيّة منذ نشأة الدول، بما في ذلك الدولة العربيّة الإسلاميّة أيّام أمجادها القديمة، فالكثير من زوجات الخلفاء في عصر بني العباس وفي الأندلس دخلن القصر جاريات وقينات قبل أن يتحوّلن إلى زوجات مصونات ويلدن خلفاء المستقبل.
أن تكون العائلة دعامة الأنظمة الملكيّة
التي تستمدّ شرعيتها من التوريث وقاعدتَها، خاصة في الملكيات غير الدستوريّة، فهذا
أمر بديهي: العائلة في هذه الحالة هي التي تحكم، أولياء عهد وأمراء وأشقّاء الملك
وأبناء أشقائه وأبناء عمومته، وهلمّ جرّا. ولكن أن تنتقل العدوى إلى الأنظمة
الجمهوريّة التي بنت كلّ شرعيتها السياسيّة على أنقاض النظام الملكي باعتباره
نظامًا يحكم بالعائلة، فهذه مفارقة يصعب على العقل تبريرها، حتّى وإن ورث الابن،
كما في الولايات المتّحدة، الحكم عن أبيه بالانتخابات كبوش الصغير عن بوش الكبير
ولربّما ترثه الزوجة عن زوجها إذا كُتب لهيلاري كلينتون ذلك في يوم من الأيّام. كان
للعرب في العصر الحديث الفضل في إبداع الجمهوريّة الوراثيّة حين عزم مبارك على
توريث ابنه جمال وبدأ القذافي يخطّط لتوريث سيف الإسلام وأصبح ابن عليّ يأتمر
بأوامر زوجته ليلى ويعدّها، كما شاع في تونس آنذاك، مكرها أخاك لا بطل، أن تصير
وصيّة على العرش في حالة أن توافيه المنيّة فجأة ريثما يكبر ابنهما محمد زين
العابدين قبل أن تعصف بهم جميعًا رياح الانتفاضات العاتية وتخلعهم عن الحكم. السبب
الأساس الذي جعل شعوبهم تسخط عليهم وتنتفض ضدّهم هو عبث أبنائهم وعائلاتهم وأصهارهم
وأقاربهم بالمال العام واحتكارهم للتجارة حلالها وحرامها واتّجار السلطان-كما يقول
ابن خلدون- «مؤذن بخراب العمران».
غير أنّه بخلع هؤلاء اعتقدت هذه الشعوب أنّ عصر العائلات قد ولّى إلى الأبد وأنّه
لا مكان للأبناء والأصهار في الديموقراطيات اليافعة، لكن الرياح تجري بما لا تشتهي
السفن بحيث وجدت العائلة منفذًا جديدًا للتسلّل إلى قلب الدولة ومغازلتها واكتست
هذه المرّة بحلّة الديموقراطيّة والكفاءة. وهكذا تمّ في تونس بعد أوّل انتخابات
شفّافة ونزيهة في تاريخ تونس في أكتوبر 2011 وفي أوّل حكومة منبثقة عن هذه
الانتخابات تعيين صهر الغنوشي وزوج ابنته رفيق عبد السلام وزيرا للخارجيّة ولم يجد
الغنوشي تبريرا لهذا التعيين الذي أثار سخط العديد من التونسيين وانتقادات كثيرة في
وسائل الإعلام غير حجّة كفاءة الصهر وجدارته بالمنصب، وهي حجّة لم تقنع هؤلاء
المعارضين الذين رأوا أنّه لا يمتلك أيّ خبرة ديبلوماسيّة وأن العشرات من موظّفي
وزارة الخارجيّة السامين أجدر منه بهذا المنصب. لقد رأى بعض المتتبّعين للشأن
السياسي في تونس أنّ ذلك التعيين كان خطأ سياسيّا فادحا ارتكبته حركة النهضة في
أوّل تجربتها بالحكم لأنّها لم تأخذ بعين الاعتبار حساسيّة التونسيين الشديدة تجاه
العائلة ومحاباتها بالمناصب والامتيازات.
وفي الحقيقة فإنّ الأمر لا يتعلّق بالنهضة
وحدها في تونس دون غيرها من الأحزاب، فقد كان الحزب الاشتراكي التقدّمي لتاريخ
قائده نجيب الشابي النضالي زمن ابن علي مرشّحا بارزا لمنافسة إسلاميي النهضة في
السلطة لثلاث سنوات مضت ولكن الحزب سرعان ما مُني بهزيمة قاسية وخسر الكثير من نخبه
التي انفضّت من حوله وعزا بعضها فشل الحزب إلى طبيعته العائليّة وتنفّذ شقيق زعيم
الحزب عصام الشابي الذي بيده الحلّ والربط في سياسات الحزب واختياراته. مرّة أخرى
تلقي العائلة بظلالها على الديموقراطيّة الناشئة في تونس وتطلّ برأسها هذه الأيّام
على الانتخابات القادمة وتهدّد بنسف كلّ ما بناه حزب نداء تونس في السنتين
الأخيرتين بزعامة الباجي قائد السبسي صاحب الـ86 ربيعا وكلّ الآمال التي نسجها شقّ
هائل من التونسيين المناهضين لحزب النهضة الإسلامي ولرجوعه إلى الحكم والمراهنين
على حزب النداء لتحقيق هذه الغاية. لشهور قليلة فقط رشح الكثير في تونس هذا الحزب
الليبرالي للفوز بالانتخابات القادمة التي ستجرى بعد أقلّ من شهرين، ولكن الحزب
يمرّ الآن بمحنة. تعصف به الخلافات وأحد أسباب ذلك الأساسية، ولعلّه أهمّها، هو ما
يعتبره بعضهم «تغوّل» ابن زعيم الحزب حافظ السبسي الذي كان تعيينه رئيس قائمة
مرشّحي حزبه للانتخابات في واحدة من أهمّ المقاطعات الانتخابيّة في تونس العاصمة
وفي البلاد بمثابة القطرة التي أفاضت الكأس. الفرق الوحيد لربّما بين اليوم
والبارحة هو رفض أمّ حافظ وزوجة سي الباجي، كما ورد ذلك على لسانه منذ ثلاث سنوات،
رفضًا قاطعًا عودته إلى ممارسة السياسة بعد استقالته منها لعشرين سنة كاملة ولا
نعتقد أنّ ما لم ترضه لزوجها الذي يمكن أن يكون رئيس تونس القادم، ومن يدري، لا
يمكن ترضاه لنفسها أو لفلذة كبدها إعفاء له من متاعب الحكم وأهواله.
التونسيون، والعرب عمومًا، الذين ضاقوا ذرعا من تدخّل العائلة في دولتهم الحديثة
وانتفضوا ضدّ حكّامهم، يخشون الآن من أن تعصف العائلة مرّة أخرى، ولو بطريقة
مخالفة، بأحلامهم وأن تهدّد آمالهم الديموقراطيّة اليانعة.
بوابة الوسط
Navigate through the articles | |
هل يكون مهدي جمعة رئيس تونس القادم؟ | انهيار مرجّح لحركة الشباب على أثر مقتل زعيمها |
التعليقات تخص صاحبها ولا تخص ادارة الموقع
|