المقالات و التقارير > ليبيا بين الهوى والهوية

ليبيا بين الهوى والهوية

لماذا كره الكثير من الليبيين القذافي وحكمه؟ ولماذا وصل الاحتقان إلى مداه في الشارع الليبي مع استمرار هذا الحكم؟ رغم الفرحة التي ملأت الشارع الليبي عندما حدث التغيير عام 69؟.

الكثير مما فعله سيجيب على جزء من هذا السؤال، لكن سيظل السبب الرئيس، أو سبب الأسباب، أو الجذر الأساسي لكل أفعاله اللاحقة، سيظل كون القذافي لم يكن يومًا ليبي الهوى، وهو يقود شعبًا مازال في غمرة ابتهاجه بكيانه الليبي الجديد في التاريخ وعلى الجغرافيا، ومتّسمًا بنرجسية تاريخية مصدرها الهوية التي قبض عليها بصعوبة وسط صراعات دولية كانت عصية عن تحكمه فيها.

القذافي لم يكن يومًا ليبيا في انتمائه أو توجهاته أو سياساته الإجرائية، ولم تكن ليبيا تعني له شيئًا سوى كونها موقع قدم، زاخرًا بالأموال، يصلح لنزقه ولشطحاته ولمناطحته لقوى دولية كبرى، ولتقليده لشخصيات تاريخية كان ممسوسًا بها. كان يراوغ هذه الهوية التي يرى أنّها صغيرة عن جنون العظمة في داخله، ولم يكن ليبيًا في أية فترة من حكمه؛ فهو أمين القومية العربية، وهو إمام المسلمين قاطبة، وهو ملك ملوك أفريقيا، وهو القائد الأممي، كما كان يُسمي نفسه في تعاقب فترات نظامه. وفي خضم هذه المراوغة والتنكر للهوية عمل بمثابرة على إلغاء اسم (ليبيا) من القاموس الوطني، ومن وجدان الأجيال التي ترعرعت إبان سيطرته، للدرجة التي أصبحت فيها رقابة المطبوعات تشطب الاسم (ليبيا) من أي منشور، وللدرجة التي اتّهم فيها كل من يستخدم صفة الليبي بالرجعية أو الشعوبية، ووصل الأمر لأن يجعل الليبيين أو معظمهم يكرهون اسم دولتهم الطويل، ويكرهون نشيدهم الوطني المستعار، وعلمهم الخالي من أي تعبير عن الهوية، ويكرهون حتى منتخبهم الوطني لكرة القدم.

وكانت القلة النادرة التي يُعاودها الحنين للهوية يقاومون هذا التجريف للوجدان بنحت اسم ليبيا على الصخور وجذوع الأشجار في الرحلات، أو يسمون بناتهم باسم ليبيا في كل غفلة من قوانين السجلات المدنية التي تمنع هذا الاسم.

ورغم أن اسم ليبيا عاد بخجل في العقد الأخير من حكمه، وفي ظل ما كانوا يسمونه بالإصلاحات، وتناغمًا مع سياسة التوريث التي نهضت في المنطقة، إلا أنّ هذه العودة لم تمس وجدان جيلين تربيا بمعزل عن الحضور اللغوي والوطني وحتى الاجتماعي لهذا الكيان. أجيال لم تعرف ليبيا سوى كونها إقطاعية نفطية تعتليها أسرة يطغى اسمها على كل شيء.

لذلك مع بداية انتفاضة فبراير واهتزاز عرش النظام اكتسح الحنين للهوية المفقودة شوارع المدن التي تحررت، فارتفع علم الاستقلال منذ أول يوم في الميادين، وصدح فيها النشيد الذي ربط بالاستقلال، وامتلأت الجدران والهتافات باسم ليبيا.

عبّر الليبيون عن شوقهم الجارف لليبياهم بعد فبراير بشكل لا يضاهى، لكن الأشواق الجارفة لا تكفي لتحقيق الأمنيات، واستعادة الماضي بحذافيره تجعل المستقبل محل ريبة.

من جديد خُطفت ليبيا، ومن أجيال حكمت عليها الظروف التاريخية والسياسية بأن تكون خارج حالة الحنين ومشوبة الانتماء لهذا الكيان الذي فرّغته أربعة عقود، من التعبئة الإعلامية، من كل محتوى.

ومن جديد لم تصبح ليبيا لمن احتكروا تسمية (الثوار) سوى موقع قدم لهوس أممي جديد ولأجندات تتلاعب بها، ولثروة ضخمة سائبة، وكما يقال المال السايب يعلم السرقة، بل وأصبح يعلم قتل الأخ لأخيه.

اقترح القذافي من أجل إقصاء الهوية والكفاءات الوطنية تنظيم اللجان الثورية التي وصلت درجة قداستها لعدم التعرض لها حتى بالنقد الموضوعي، وكل من يخالفهم الرأي متهم بالرجعية والخيانة، وبالمثل اقترح من سرقوا انتفاضة الشعب الليبي تنظيم (الثوار) أو غرفة الثوار من أجل تصفية الهوية والكفاءات الوطنية، ومنح أنفسهم نوعًا من القداسة يجعل كل من ينتقدهم أو يخالفهم الرأي متهمًا بكونه من الأزلام.

السبب الآخر المنبثق عن السبب الأول، والذي جعل الليبيين يمقتون القذافي وحكمه، هو كونه ضد المفهوم الحديث للدولة، وكان طيلة الوقت يسعى لأن تتحوّل المواطنة إلى رعية، وهو راعي الرعية وولي الأمر الواجبة طاعته، خادمه في كل ذلك ثروة نفطية هائلة حوّلت الاقتصاد الليبي إلى اقتصاد ريعي، والكل ينتظر هبات الحاكم الراعي وأعطياته.

الليبيون الذين قطعوا شوطًا مهمًا في التأسيس للدولة بمفهومها الحديث، وفي فترة قياسية؛ امتدت من الاستقلال إلى الانقلاب، كانوا يتفرجون على انهيار مؤسساتهم وتدهور أوضاع القوانين والتشريعات والإدارة والتعليم والخدمات الصحية والبنى التحتية، ويكتفون باجترار سنوات التأسيس (زمنهم الجميل) والذي جعله جميلاً ما يشاهدونه من قبح يتفشى في المجتمع، وهذا القبح كان ناتجًا عن محاربة مفهوم الدولة الحديث، فضلاً عن إلغاء الوطن وكل تداعياته الوجدانية.

لم يفكر النظام أبدًا في تأسيس دولة المؤسسات والقانون لأنه يعرف أنها قد تشكّل خطرًا عليه، واكتفى بمقترحه لحل أزمات المجتمع بعرضه توزيع الثروة، وهو المقترح الذي رفضه الليبيون آنذاك في مؤتمراتهم الشعبية، مطالبين بالدولة وليس بتوزيع الثروة، يريدون خدمات وتنمية وفرص متاحة وليس هبات مالية.

ومن أجل هدم أسس الدولة الحديثة توجّه القذافي إلى عموديها الرئيسيين، الجيش والشرطة، اللذين شكلا دائمًا تهديدًا لمحاولة سيطرته على المجتمع بميليشياته الخاصة وأجهزته الأمنية الخاصة، ونجح في ذلك. ففرغ الجيش في وهم كبير أسماه (الشعب المسلّح)، وفرغ الشرطة وما يتبعها في وهم أكبر سماه (الأمن الشعبي). وفوق هذا الركام لأسس الدولة شيّد حكمه الشمولي المستبد، الذي اعتمد على الميليشيات واللجان الثورية وبعض التحالفات القبلية. جاعلاً من هذا الوطن وما يحدث فيه نكتة يرويها مواطنو العالم الحديث في سهراتهم.

لذلك ومع انتفاضة الشعب الليبي امتلأت الشوارع والجرائد بعبارات وعناوين تتحدّث عن الدولة المدنية الحديثة، وكان لحنين الليبيين للدولة دور بارز في نجاح انتخاباتهم الأولى بتاريخ 7/7/2012. وكانت الفرحة بهذه الانتخابات عارمة للدرجة التي جعلتهم لم يفكروا فيمن ينتخبون، فخرجوا في النهاية بمؤتمر وطني فاسد، كل ما فعله أن أدخل ليبيا في حرب أهلية طاحنة، مؤتمر انتخبه الليبيون فجند كل إمكانياته لخدمة القطريين، مؤتمر وطني كان مقره في الواقع في الدوحة وليس في طرابلس.

عمل قادة ليبيا بعد فبراير على إكمال مشروع النظام في محو أي مظهر للدولة، فأسسوا الميليشيات الخاصة بدل الجيش الوطني، غير أنهم وبجدارة أنجزوا في أقل من ثلاث سنوات ما لم يستطع القذافي تنفيذه في أربعة عقود.
ولم يفقد الليبيون هذه المرة مفهوم الدولة الحديثة فقط، لكنهم مع فقدانهم للسلم الاجتماعي باتوا مهددين بفقدان وجودهم.

بوابة الوسط


Navigate through the articles
Previous article ما زلنا القوة الأولى في تونس السيسي يكشف عن إستراتيجية مصر الاقتصادية خلال 5 سنوات Next article
التعليقات تخص صاحبها ولا تخص ادارة الموقع