جدل شعبي وإعلامي كبير كان قد رافق تولي
عبد العزيز بوتفليقة رئاسة الجزائر في ولاية ثانية، رغم تردي حالته الصحية، وتجاوزه
العقد السابع من عمره.
تواصلت هذه الحملة المنددة بهذا الحدث داخل وخارج الجزائر طويلا ليخمد فتيلها
تدريجيا أمام ولادة مسائل هامة أخرى تواجهها الدولة وتهدد الأمن السلام الداخليين.
هذا العذر كان سلاح بوتفليقة الأبرز ليظل على الكرسي وهو على هذه الحالة التي أصبحت
في كثير من الأحيان مبعث تندر وسخرية.
لكن يبدو أنها محض هدوء مؤقت، حيث عادت صحة الرئيس مرة أخرى لتطفو بقوة على السطح
بعد إعلان بعض الجهات الفرنسية عن سفره للعلاج هناك بعد تدهور حالته الصحية مجددا.
وقد أثار هذا الموضوع حفيظة وسائل الاعلام المحلية، التي استنكرت تكتم الجهات
الرسمية على الخبر.
ولعل برنامج «هنا الجزائر»، الذي يقدمه الصحافي قادة بن عمار على قناة «الشروق»
الجزائرية أحد أبرز المنابر، التي تطرقت لهذا الموضوع بالنقاش مع بعض ممثلي الأحزاب
السياسية تحت عنوان «مرض الرئيس وصحة الدولة».
وقد حافظ البرنامج على المشهد الكلاسيكي لأغلب الحوارات السياسية العربية من حيث
التشنج والصراخ ومقاطعة هذا لذاك وتبادل التهم وغيرها من الأنماط التي لا تخفى على
أي متابع عربي على الأقل.
كان السؤال الجوهري: لماذا تخفي الحكومة نبأ مرض الرئيس؟ وما هي التأثيرات السلبية
لهذا الطارئ على الدولة؟
وقد تراوحت إجابة الضيفين بين المدافع عن بوتفليقة واعتباره حامي البلاد وحافظ
أمنها واستقرارها والمطمئن على أحوالها ومؤسساتها السياسية والاقتصادية، وبين آخر
متحامل يقر بضرورة تنحي الرئيس وبصعوبة الظروف الاقتصادية بسبب فساد الحكم ونهب
ثروات البلاد الكبيرة.
وبمجرد التمعن قليلا فسنجد أنه سيناريو كلاسيكي أصبح يميز الفضائيات الجزائرية، حيث
أمسى الأمر بمثابة العادة أن يقوم المقدم باستضافة طرفين مختلفين من حيث وجهات
النظر حول النظام لتراشق التهم والدخول في نقاش «بيزنطي». في حين لا يجرؤ أحدهم على
استضافة أحد المسؤولين الكبار في الحكومة وطرح الأسئلة السالف ذكرها، حتى يتسنى
للمشاهد ولا سيما المواطن الجزائري الوصول إلى معلومة كاملة ترفع اللبس والغموض
الذي يلف الوضع عموما.
ولنعد إلى بوتقليقة الذي يتحمل المسؤولية الكبرى في ما قد تؤول إليه الأوضاع في بلد
المليون شهيد مستقبلا. فهذا الرجل الذي دخل التاريخ كأصغر وزير في حكومة بلاده عبر
توليه حقيبة الخارجية في السادس والعشرين من عمره، والمناضل الذي قدم الكثير لوطنه.
والعلامة الفارقة الذي نجح في التأسيس لبيئة آمنة ومستقرة بعد توليه الحكم في مرحلة
طاحنة ودموية حكمتها الحرب الأهلية، التي أتت على حياة مائتي الف جزائري.
هذا الرجل بلغ المرحلة التي لا بد أن يعلن فيها تنحيه عن الكرسي ويحظى بالمكانة
الفضلى التي تليق بتجربته. فمن غير المجدي أن يواصل بوتفليقة الذي قارب عقده الثامن
إدارة شؤون بلد اكثر من ثلثي سكانه تحت عمر الثلاثين.
وقد يذهب الكثيرون إلى القول إن صناديق الاقتراع هي التي حملته إلى هذه الولاية،
ولكن يدرك هؤلاء كما غيرهم أن الرجل مغيب تماما عن تولي شؤون الرئاسة، وأن أيادي
أخرى تسير البلاد باسمه والحال أن الجزائر تعيش أدق مراحلها على الاطلاق.
بوتفليقة وبورقيبة
كما لا بد أن يتعظ المناضل الجزائري من التجارب المشابهة ويحاول أن ينأى بنفسه عن
نهايات قد تكون أدنى بكثير من سنوات عطائه ونضاله. ولا يحتاج الأمر بحثا طويلا
فمجرد أن يتطلع بوتفليقة إلى الجارة تونس بإمكانه استيعاب الدرس من سيناريو الزعيم
الراحل الحبيب بورقيبة الذي أصر على البقاء على سدة الحكم، رغم تقدمه في السن
وتدهور حالته الصحية في آواخر فترة حكمه. مما انتهى به إلى الانقلاب الخفي الذي
نفذه الرئيس السابق زين العابدين بن علي الذي أدى إلى اقصائه وغلق كل منافذ التواصل
عنه، دون أن ننسى الإساءة المادية والمعنوية التي مورست في حقه رغم أنه الرجل الأول
الذي أسس الأعمدة الأساسية للبلاد، وصاحب الفضل الكبير على كل التونسيين في جوانب
كبيرة، ربما أدرك التونسيون حجمها بعد الثورة.
وأمام عودة ملف صحة الرئيس من جديد يصبح التساؤل عن مصير كرسي الرئاسة ملحا اليوم؟
وإلى متى ستصمد الحكومة الحالية أمام النداءات الشعبية التي تريد فهم حقيقة ما
يجري، وإلحاح المعارضة على النظر جديا في وضعية رئيس الجمهورية والقضاء على الفساد؟
السبسي ولعنة بورقيبة
الحقيقة ليست الجزائر البلد الوحيد الذي ابتلي بما يسمى لعنة الكراسي، فحسب
استطلاعات الرأي الأخيرة، يبدو أن الجارة تونس على الطريق هي الأخرى ليحكمها رئيس
جاوز الثمانين من عمره.
وقد يبدو الوضع مختلفا في تونس التي يقر المراقبون أنها تتجه نحو انتخابات رئاسية
نزيهة على غرار التشريعية على خلاف الجزائر في هذه المسألة. ولكن ثقل الأمر يجعل
العملية الانتخابية بمثابة العبث، رغم نزاهتها التي أستطيع أن اجزم بها منذ الآن.
وطبعا يدرك متابعو الملف التونسي أنني أعني بذلك رئيس «حزب نداء تونس» الحائز على
الأغلبية البرلمانية، والذي يقوم بحملة انتخابية ضخمة جعلته يتفوق حتى الآن عن
منافسيه.
وقد حل مؤخرا ضيفا على برنامج «شكرا على الحضور» الذي يقدمه بو بكر بن عكاشة على
القناة «الوطنية 1» وفيه تحدث عن الرهانات الكبرى لهذه المرحلة.
تحدث الباجي قائد السبسي، كما تعود دائما بشيء من الثقة والدبلوماسية عن رهانات
المرحلة التي اختصرها اساسا في عنصري الأمن ومعالجة الظروف الاجتماعية الصعبة
لحاملي الشهادات العليا والمناطق المحرومة.
كما تحدث عن التحالفات، التي أبى أن يعلن عنها إلا بعد نتيجة الانتخابات الرئاسية،
وطبعت عنصر التحالفات مسألة مهمة بالنسبة للحزب الحائز على الأغلبية البرلمانية.
والحقيقة أن التركيز على هذه المطالب ميز الحملات الانتخابية الأخرى، وتأتي جميعها
في إطار التأثير على المواطن للتصويت.
وبالعودة إلى السبسي فما من أحد ينكر خبرته السياسية التي حملته لتقلد مهام عديدة
في العهدين البورقيبي وبن علي. كما يشهد له التونسيون بدوره الكبير في حمل البلاد
إلى انتخابات 23 أكتوبر/تشرين الأول 2011 في أفضل الظروف، ولكن هذا السجل الحافل ان
شئنا ذلك لا يعد مبررا حتى يتولى مقاليد رئاسة البلاد وهو في هذا العمر المتقدم
جدا.
وليس معطى السن بالعامل الوحيد الذي يجعلنا نذهب إلى هذا التصور، فبالنظر إلى ما
آلت إليه نتائج الانتخابات التشريعية فإن صعود الباجي قائد السبسي للرئاسة قد يعيد
البلاد إلى سيطرة الحزب الواحد. وطبعا هذه الحالة قد تهدد مكتسبات التونسي بعد
الثورة ولا سيما مسألة حرية التعبير.
من جهة أخرى يسوق السبسي في حملته الانتخابية إلى تحديات الجانب الأمني اليوم،
والخوف هنا من أن كون هذا العنصر ذريعة لعملية اغلاق قد تضيق الخناق على الاعلام
والمجتمع المدني.
ولعل السبب الأهم هو أن رئيس «حزب نداء تونس»، الذي يقدم على الترشح في عمر يبدو
للكثيرين مضحكا ويثير التهكم، لا يقوم بذلك ايمانا بأنه الخيار الأمثل لهذه
المرحلة، ولكن الأمر يعود لرغبة ذاتية في الكرسي.
وقد يذهب الكثيرون للقول إن الجميع، ولا سيما العرب تثيرهم لعبة الكراسي، وقد
يدفعون بمئات الأرواح في سبيل الحفاظ عليه وهذا أمر لا جدال فيه، ولكن السبسي يريد
الكرسي حتى يدخل من الباب ذات، الذي دخله الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة إلى
التاريخ.
فهذا الرجل يؤمن ايمانا قاطعا بكون ما وصلت إليه تونس كان فقط بفضل الحبيب بورقيبة،
وبالتالي فإن الجلوس على الكرسي نفسه قد يماهيه -ـ طبعا الأمر من منظاره الخاص ــ
مع هذه الشخصية الحلم بالنسبة إليه.
وبالتالي فإن تفكيره منصب فقط في هذا الاتجاه ولا شيء غيره، لأنه من غير المنطقي أن
يطمح رجل في عقده الثامن والثمانين إلى ولاية رئاسية. وهذا الأمر يجعلنا نتساءل هل
ستكتمل السنوات الخمس في أفضل حالاتها أم سنكون على موعد مع مفاجآت عرضية؟
القدس العربي
Navigate through the articles | |
السيسي يزور إيطاليا وفرنسا نهاية الشهر الجاري | كيف أصبحت سيناء ساحة امتداد لـ« داعش »؟ |
التعليقات تخص صاحبها ولا تخص ادارة الموقع
|