إجراء انتخابات تشريعية ثم
رئاسية وانتقال السلطات من جهة ايديولوجية وسياسية مخالفة للطاقم الذي حكم تونس بعد
الثورة دون أن تسيل أنهار من الدم ودون أن يتدخل الجيش بحجة مكافحة الإرهاب أو
تنفيذ الإرادة الشعبية هو محاكمة علنية مفتوحة للأنظمة العربية.
الرسالة الأساسية التي يوجهها هذا التداول السلمي للسلطة هي للتونسيين أنفسهم الذين
قرروا ممارسة حقهم الذي اكتسبوه بثورتهم على الاستبداد العربي (وليس التونسي فحسب)
في انتخاب ممثليهم وليس بالمصادقة الإجبارية على تزوير إراداتهم أو بالمبايعة
القسرية على الطاعة. وقد استطاعوا فعل ذلك بحضارية يحسدون عليها.
منح التونسيون مناصب الرئاسات الثلاث بعد الثورة لتحالف تشكل حركة «النهضة»
الإسلامية ثقله الأساسي ثم منحوا أغلبية نيابية لتحالف مناهض للإسلاميين وانتخبوا
زعيمه، السبسي، رئيسا، وهي رسالة ذات حدين، ﻷنها تقول إن التوانسة ينتظرون من الطرف
الفائز إنجاز مهام كبيرة يتوقعونها وإلا انفضوا عنه مجددا وعندها سيحين دور الطرف
الفائز، هذه المرة، للتنحي لأطراف سياسية أخرى تقنع جمهور المصوتين بقدرتها على
إنجاز ما تعد به.
الرسالة المهمة الأخرى التي يوجهها نجاح انتقال السلطات هو كسر الإسلاميين مقولة
عممتها النخب المزعومة «علمانية» والتي تحالفت، بشكل مباشر أو غير مباشر، مع أنظمة
الاستبداد، والتي نظرت، وما تزال، لضرورة قمع خصومها الايديولوجيين، بدعوى أن
الإسلاميين لا يؤمنون بالديمقراطية وأنهم يستخدمونها ذريعة للانقضاض على السلطة ثم
لفرض نظام دكتاتوري يحد من حريات الأفراد والأحزاب والجماعات المناهضة لها ويقمع
النساء ويضطهد الأقليات.
ويضرب المثال التونسي بذلك الفرضية التي اشتغلت عليها أنظمة عربية بادعاء حماية
الأقلية وترهيبها من حكم «الأغلبية» فتونس بأكملها بلد مسلم (مع أقلية بسيطة جدا من
اليهود) ومع ذلك فإن اﻷغلبية فيه صوتت لصالح برامج سياسية لا لدين المرشحين أو
مذاهبهم.
أهم الملفات التي ينتظر التونسيون تقدما فيها هو الملف الاقتصادي وحلولا حقيقية
لمسائل التنمية تنعكس إيجابا على الشعب عموما وعلى القطاعات الفقيرة والمناطق
المهمشة خصوصا، وهي التي بدأت الثورة عمليا، وكذلك على قطاع الشباب الذي هو أس
الحراك الشعبي وهو إنجازه اﻷكبر الذي قدم للشعب التونسي خيارا ثالثا بديلا عن
التطرف والهجرة السرية.
هو ما يحيلنا إلى الملف اﻷمني، الذي تم استغلاله، تونسيا وعربيا، للتشنيع على
الثورات وتعميم صفة الإرهاب للتضييق على اﻻتجاهات الأسياسية الإسلامية كافة وعلى
اختلاف توجهاتها في منحى استئصالي وإبادي يجرف المنطقة العربية بأكملها نحو حرب
أهلية مميتة.
والواقع إن الأمن مترابط ومتلازم مع الملفين السياسي والاقتصادي فتراجع التنمية
والسياحة وازدياد الفساد وارتفاع معدلات البطالة (بين عوامل عديدة أخرى) إذا ترافقت
مع اشتداد وطأة الاستبداد وانعدام إمكانيات تداول السلطة وممارسة الاضطهاد السياسي
ضد الأحزاب والنقابات والجماعات، تدفع الشباب، والمجتمع ككل، نحو اليأس والتطرف
فيتجه نحو الانتقام من الدولة بطرق انتحارية عنيفة، لا يهم بأي زي سياسي تظهر أو
تدعي.
عربيا، يقدم المثال التونسي محاكمة علنية كاشفة للأنظمة العربية، ولكنه، خصوصا،
يمثل نقضا جذريا للخيارين اللذين مضى، أو إنجر إليهما، النظام في سوريا، والمؤسسة
العسكرية والنخبة «العلمانية» في مصر.
الدرس اﻷول المستفاد سورياً هو أن مواجهة الاحتجاجات الشعبية بالعنف المطلق ليس إلا
وصفة للقضاء على البلد بأكمله وللزج بمكونات المجتمع في حرب تلتهم الجميع.
والدرس المستفاد مصرياً هو تأكيد الخطأ الجسيم الذي وقعت فيه النخبة المصرية التي
أيدت كسر المسار الديمقراطي وارتدت إلى مرحلة القائد اﻷوحد وبذلك منعت المجتمع
المصري من التطور الديمقراطي ومن تكريس مبدأ تداول السلطة سلميا، مما وفر الفرصة
لقوى الثورة المضادة للعودة بشراسة أكبر وأدخل البلد في استعصاء سياسي رهيب.
المسار الذي اتخذته الثورة التونسية كان تدريبا جبارا ومليئا بالمصاعب والمخاطر
للشعب التونسي ونخبه السياسية، والمسألة اﻷصعب التي ستواجه التوانسة هي التمسك
بأساليب التغيير الديمقراطي والحكم المدني ومقاومة نزعات «الدولة العميقة» لإعادة
نظام الاستبداد وهذا النضال المستمر هو اﻷمل الوحيد لتونس في البقاء وتكريس مثالها
العظيم عربيا وعالميا.
القدس العربي
Navigate through the articles | |
توسع الدور الإثيوبي في الصومال.. تأمين أم اختراق؟ | خبراء أفارقة يناقشون التهديدات الأمنية |
التعليقات تخص صاحبها ولا تخص ادارة الموقع
|