كان السودان هو أول من
اخترع «الربيع العربي» ففي عام 1985 خرجت الجماهير الغاضبة وأسقطت نظام المشير جعفر
النميري (1930-2009) الذي جاء إلى السلطة بانقلاب عسكري في أيار/مايو 1969. في تلك
الإنتفاضة انحاز الجيش بقيادة المشير محمد سوار الذهب إلى الشعب، وبعد سقوط النظام
العسكري للمشير النميري الذي لجأ إلى مصر سلم سوار الذهب السلطة لحكومة مدنية وعاشت
البلاد ديمقراطية جديدة من فترات الديمقراطية التي شهدها السودان منذ استقلاله عن
الإنكليز في عام 1956 وهي فترات قليلة فقد ظل الجيش يتدخل في شؤون البلاد. ولهذا لم
يكن غريبا أن يتدخل الجيش مرة أخرى في السياسة ويسقط الحكومة المدنية برئاسة زعيم
الأمة الصادق المهدي ويعلن ما عرف بثورة الإنقاذ الوطني في 30 حزيران/يونيو 1989.
قاد الثورة التي دعمها الإسلاميون مجموعة من ضباط الوسط في الجيش السوداني سيرحل
معظمهم أو يختفي عن الساحة بمن فيهم الإسلاميون والعقول المدبرة للإنقلاب إلا
الرئيس/ الفريق عمر حسن أحمد البشير الذي كان في الرابعة والخمسين من عمره وقت
الإنقلاب ويقود اللواء الثامن مشاة قبل إنقلابه على حكومة المهدي. ومنذ تلك الفترة
تسيد البشير الحياة السياسية السودانية وتعتبر فترة حكمه أطول الفترات في تاريخ
السودان. وليس غريبا أن تكون انتخابات 13- 15 نيسان/إبريل 2015 انتخابات للبشير وعن
البشير رغم وجود 14 مرشحا إلى جانبه إلا أنها تظل شخصيات مغمورة ولا تحظى بقاعدة
جماهيرية بعد سنوات من القمع التي افرغت المعارضة السياسية من محتواها وقمعت كل
الآراء المخالفة وتراجعت مصداقية الأحزاب التقليدية لدى الناخبين لأسباب تتعلق
بسياسات التفتيت للمعارضة وأحزابها، فيما خرج الإسلاميون من السلطة بعد «الحرب
الأهلية» داخل النظام والجبهة القومية الإسلامية التي كانت بمثابة القابلة للبشير
وحركته للإنقاذ الوطني.
لا توقعات
وعليه غاب عن انتخابات العام الحالي شعور الترقب والصدمة لأن النتائح معروفة وقاطعتها كل الأحزاب السياسية، مع أنها أول انتخابات يعقدها السودان بعد خسارته الجنوب في استفتاء عام 2011. وبالنظر لما تركه انفصال الجنوب من أثر على الحياة الإقتصادية والسياسية كان يجب أن تحمل الانتخابات هذه أهمية للسودان ونخبته الحاكمة التي تجاهلت أثر زلزال الجنوب على البلاد أو قللت من أهميته. لكن ما حدث هو العكس فما جرى هي انتخابات مفصلة على مقاس الحزب الوطني الحاكم الذي اخذ مقدما نسبة 70٪ من مقاعد البرلمان السوداني ومنح البقية للأحزاب الصغيرة التي لم تقاطع وسيكافئها الحزب الحاكم مقابل ولائها للنظام. وفي بعض المراكز الانتخابية جرى الإعلان عن الفائز ونشرت التهنئة بفوزه قبل بدء التصويت نظرا لأنه المرشح الوحيد في منطقته. كل هذا يجعل من عملية الانتخابات الأخيرة مسرحية قام بها نظام البشير ويهدف من خلالها تحقيق عدد من الأهداف، منها الحصول على الشرعية المفقودة أو التفويض الذي يؤهله لعمل ما يريد من قمع أو مواصلة الحوار المفقود أو لتجنب حصول فراغ دستوري وهو المبرر الظاهري الذي تمسك به البشير للمضي قدما في تنظيم الانتخابات حيث تمسك على ما يبدو بحذافير المبدأ الدستوري فيما شددت المعارضة التي اتحدت قواها تحت ما يسمي «نداء السودان» (يضم الجبهة الثورية السودانية وحزب الأمة وقوى الإجماع السوداني ومبادرة المجتمع المدني) على ضرورة الإصلاح وحل المشاكل قبل الانتخابات. لكل هذا جاءت أيام الانتخابات الثلاثة معروفة النتائج ولم تشهد فيها صناديق الإقتراع إقبالا واسعا وكما نقلت مجلة «إيكونوميست» البريطانية عن المدرس السوداني أحمد خليل الذي تساءل «لماذا ثلاثة أيام؟ كل واحد يعرف النتيجة». وقال «معظم الدول تصوت في يوم واحد وكان بإمكاننا عقدها في خمس دقائق». فحملة القمع التي سبقت الانتخابات واعتقال قادة في المعارضة مثل فاروق أبو عيسى وأمين مكي مدني وفرح عقار. وقمعت القوات الأمنية عمل 14 صحيفة سودانية وصادرت أعدادها في يوم واحد من أيام شباط/فبراير. لكل هذا لا تحظى الانتخابات بالمصداقية ولا المشروعية الوطنية رغم وجود بعض المراقبين من الخارج وتأكيد اللجنة القومية للإنتخابات على اتخاذ كل الإجراءات من أجل تأمينها ونزاهتها. ولم يرسل الإتحاد الأوروبي فريقا للمراقبة وكذا مركز كارتر اللذان راقبا انتخابات عام 2010. فيما عبرت الترويكا (الولايات المتحدة وبريطانيا والنرويج) عن «خيبة أملها من غياب المناخ المحفز على المشاركة وعقد انتخابات ذات مصداقية». وقال الإتحاد الأوروبي «عندما يتم تجاوز الحوار واستبعاد بعض الجماعات السياسية والفعل المدني فالانتخابات المقبلة لن تنتج عن نتائج ذات مصداقية ومشروعية في البلاد». والعزاء الوحيد لنظام البشير هو وجود بعثة مراقبة تابعة للجامعة العربية والإتحاد الأفريقي ومنظمات دولية أخرى.
توزيع الحصص
وترى ديم روزاليند مارسدن الزميلة في المعهد الملكي للدراسات الدولية (تشاتام هاوس) بلندن أن ما يهدف إليه نظام البشير هو دعوة الأحزاب المتحالفة مع المؤتمر الوطني إلى تشكيل حكومة موسعة من خلال تقديم المغريات لها بالمناصب والوظائف والمنافع الإقتصادية. وكان المحلل السوداني مجدي الجزولي قد تحدث في المعهد عن الانتخابات السودانية قائلا إن نتائجها ليست مهمة بسبب النظام الذي يقوم بإدارة التنافس السياسي عبر توزيع الوظائف على الأحزاب الموالية له. وتقول مارسدن إن التمسك بالمبدأ الدستوري الذي بررت الحكومة السودانية عقد الانتخابات عليه مردود لأنه كان بإمكانها تعديل الدستور الذي يقضي بعقد الانتخابات الرئاسية في اليوم نفسه الذي تعقد فيه الانتخابات البرلمانية. وترى أن الانتخابات تهدف لتقديم مظهر من الشرعية على رئيس ملاحق من المحكمة الجنائية الدولية في اتهامات تتعلق بأحداث دارفور. فعقد الانتخابات على ما ترى دون الإستجابة لمطالب «نداء السودان» يضع علامات استفهام على العملية برمتها وعلى شرعية النتائج. فالشرعية للرئيس لن تتحقق في ظل أزمات يعاني منها السودان، تمرد في جنوب كردفان ودارفور والنيل الأزرق، وهي أزمات تجلب المعاناة والنقمة من ملايين الناخبين على النظام . يضاف إلى هذا استمرار تضييق المجال السياسي لحرية التعبير والذي تجذر في الحياة السياسية منذ انتخابات عام 2010 من ملاحقة للصحافة ومنظمات الفعل المدني والإحزاب السياسية. وتعتقد مارسدن إن رفض المؤتمر الوطني الحاكم الإستجابة لطلب رئيس جنوب أفريقيا السابق ثابو أمبيكي حضور اجتماع تحضيري في أديس أبابا في الشهر الماضي لمناقشة الشروط الضرورية لعقد انتخابات حقيقية كانت فرصة ضيعها النظام. وجاء غياب المؤتمر الوطني بسبب خوفه من تأجيل الانتخابات. كما أن رفض النظام اجتماع أديس أبابا ربما جاء لفقدانه الإهتمام بالمفاوضات التي يقودها الإتحاد الأفريقي خاصة أن البشير بات يلعب دورا في النزاعات الإقليمية. وكان قرار البشير دعم الحملة السعودية ضد الحوثيين صورة عن هذا، رغم العلاقة الوثيقة التي تربط السودان بالنظام الإيراني.
مشكلة للغرب
وعليه فإعلان السودان المشاركة في الحملة التي أطلق عليها «عاصفة الحزم» لهزيمة الحوثيين وعودة الشرعية اليمنية الممثلة بالرئيس عبد ربه منصور هادي تضع تحديات حول كيفية تعامل الدول الغربية مع البشير وهي التي ظلت «تنبذه». ولكن أصدقاءه في المنطقة يتحدثون عن إمكانية بدء الحديث معه من جديد كما يرى تحليل مجلة «إيكونوميست» والسبب الداعي لهذا التوجه هو أن السودان الذي كان دائما مصدرا للمشاكل أصبح اليوم مفيدا. وتشير المجلة لتحسن العلاقات السودانية ـ السعودية التي ظلت متقلقلة طوال السنوات الماضية. وزار البشير في كانون الثاني/يناير الرياض واجتمع مع الملك سلمان بن عبد العزيز. كما وتحسنت العلاقات مع مصر وعدد من دول الخليج ودعم الحملة ضد الإسلاميين في ليبيا التي بات البشير يتعاون فيها مع الحكومة المعترف بها دوليا ويرأسها عبدالله الثني. ودفن البشير الأحقاد الماضية مع تشاد وهي حليف آخر في الحرب ضد الجهاديين في منطقة الساحل والصحراء. ولم يتدخل البشير في الفوضى الحالية في دولة جنوب السودان إلا بدرجة معينة، والأهم من كل هذا فقد أبعد نفسه عن إيران. وتقول المجلة إن البشير خرج من العزلة على الأقل في المنطقة. وفي المقابل يتساءل الدبلوماسيون الغربيون إن غير البشير فعلا فروته. فنظامه معروف بتاريخه الطويل في دعم القضايا الراديكالية. ولم تتحسن علاقاته مع السعودية ويتعاون معها في اليمن إلا بعد أن ساعد الإيرانيين على ما يبدو لتزويد الحوثيين بالسلاح. ولا يمكن فصل العلاقة بين موقف البشير الجديد من السعودية برغبته تحقيق منافع اقتصادية أو كما تقول المجلة «المال» فالمساعدات السعودية قد تنقذ اقتصاد البلاد المترنح كما ساعدت مصر بعد الإنقلاب. فقد خسر السودان عوائد النفط بعد انفصال الجنوب عن الشمال واستنزفت خزينة البلاد وفاقم مشاكل البلاد الاقتصادية. وأسهمت العقوبات التي فرضها الغرب على السودان في زيادة علل الاقتصاد السوداني، مع أن الولايات المتحدة خففت في شباط/فبراير من القيود على بيع الهواتف الذكية وأجهزة الكمبيوتر الشخصية وتصديرها للسودان، ورغم كل هذا فقد اضطر وزير الخارجية الأمريكي جون كيري لمغادرة القاعة عندما صعد البشير لإلقاء كلمة في القمة الإقتصادية التي عقدت في شرم الشيخ في شهر آذار/مارس. ويظل السودان بلدا غير مهم للإستراتيجية الأمريكية مثل كوبا التي تحاول واشنطن التقارب معها أو إيران التي تهدد المصالح الأمريكية من خلال برنامجها النووي وتدخلها في شؤون الدول المحيطة بها. ولا تجد الولايات المتحدة نفسها مضطرة للتقارب مع السودان خاصة أن النظام لم يتخذ إجراءات لتخفيف حدة المشاكل في الداخل. ويظل ملف دارفور وتشريد أهله من المعوقات التي تقف أمام علاقات طبيعية بين واشنطن والخرطوم. فبحسب منظمة أوكسفام البريطانية هرب أكثر من 50.000 شخص من قراهم هذا العام. لكل هذا يبدو التقارب الغربي والأمريكي مع البشير بعيدا حتى الآن. وفي النهاية تعتبر الانتخابات الأخيرة جزءا من لعبة «النجاة» التي أتقنها البشير خلال سنوات حكمه الطويلة. فقد نجح في السنوات التي كان يضخ فيها النفط عبر بورتسودان بتجيير الثروة لصالحه وساعدته علاقات قوية مع الصين وإيران على المضي في خططه. وبنى في أثناء هذا قوات أمنية ودعم ميليشيات في لعبة «فرق تسد» دفعت قادة السودان الحقيقيين للمنفى وعاش آخرون في الهامش.
لماذا لم يحل الربيع
وقد تساءل الكثيرون عن سبب تأخر حلول الربيع في بلد بدأ الثورات الشعبية في أفريقيا والعالم العربي. فرغم خروج تظاهرات عدة في شوارع الخرطوم مع انتفاضات الشارع العربي عام 2011 إلا أن النظام الذي شعر بالذعر رد بقسوة عليها وأجهض قيام حركة شعبية تقود للتغيير. وفي العام الماضي نقلت صحيفة «الغارديان» عن مستشار البشير السابق غازي صلاح الدين العتباني تحليله لموقف النظام السوداني من انتفاضة الشارع والرد القاسي عليها الذي قال إنه كان تعبيرا عن خوف المؤسسة الحاكمة. وتوقع العتباني عدم ظهور انتفاضة في السودان قبل عامين أو أكثر. وربما كان في السودان اليوم نسخة أفريقية عن فلاديمير بوتين في روسيا، فعندما تتم مراكمة السلطات في يد الرئيس ويغيب البرلمان القوي يخرج «ديكتاتور» ولأنه يحب أن يجدد نفسه عبر انتخابات صورية، فانتخابات السودان هي مثال عن هذا. عندما نكتب عن السودان نتذكر ما كتبه الأديب الكبير عن وطنه في الرواية والنثر. ونقرأ حسرته على الوطن الذي تخلى عن اسمه «سنار» التي كانت معروفة في مشارق العالم العربي والإسلامي ولها «رواق» في الأزهر واسمها الحالي الذي هو تركة استعمارية. ولعل السودان هو البلد الوحيد في أفريقيا الذي لا يزال يحمل هذه التركة. فبلاد السودان هي التي كانت تمتد من السنغال غربا إلى حدود الحبشة شرقا. فأي معنى للسودان اليوم. يتذكر الطيب صالح بلده في أكثر من سياق، أحيانا في أبيات لأبي تمام «سود الوجوه كانما نسجت لهم/ أيدي السموم مدارعا من قار» لكن وراء السواد كما يقول ضوء كثير. ولم تترك نوادب الدهر والحدثان من الوطن الذي كانت تسير فيه الدابة من أبو حمد إلى أبو دليق لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه إلا القليل. ويخاطب صالح أبو تمام وهو في قاعة المغادرة من مطار الخرطوم ويقول « لكن انظر اليهم اليوم يا أبا تمام، في هذا المطار القميء، في هذه المدينة المهملة ، في هذا الوطن اللعين» الذي يموء تحت القمع والديكتاتورية والفساد ينتظره ربيعه الحقيقي.
القدس العربي
Navigate through the articles | |
ملف ازواد وتلاعب الوسيط | السيد نصر الله: آن الأوان للقول للسعودية "كفى كفى" |
التعليقات تخص صاحبها ولا تخص ادارة الموقع
|