منذ عامين بدأت سلسلة من النقاشات في الحكومة الأميركية حول وضع ومستقبل استمرار “القوة متعددة الجنسيات والمراقبون في سيناء”، والتي تعرف اختصاراً بـ(إم إف أو)، والتي على عكس الشائع تخضع قيادتها للولايات المتحدة لا لهيئة دولية مثل الأمم المتحدة، ويتشكل قوامها العام من جنود أميركيين وجنسيات أخرى، وقد شُكلت عام 1981 لمراقبة تنفيذ بنود اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية، وتنفق عليها وزارة الدفاع الأميركية. النقاشات تناولت الشق الأمني وحماية عناصر القوة في ظل الظروف الأمنية المتدهورة في سيناء، وتعرض معسكرات وأماكن تمركز القوة لهجمات تتصاعد وتيرتها منذ 2013 كماً وكيفاً، ما جعل هذه النقاشات والإجراءات تتجاوز حد التأمين إلى طرح فكرة سحب القوة من سيناء بعدما أصبحت شبه الجزيرة ثالث منطقة يتمدد إليها تنظيم داعش بعد العراق وسوريا تحت مسمى فرعه المحلي “الدولة الإسلامية ولاية سيناء”، وخاصة بعد حوادث الإعدام لأشخاص من جنسيات أجنبية نفذتها داعش العام الماضي والأثر الدعائي المصاحب لها، وبما أن القوة عمادها الرئيسي قوات من الجيش الأميركي الذي تقود بلاده حملة عسكرية وتحالف دولي ضد التنظيم، فأن ذلك يعطي احتمالية اختطاف مرتفعة ويجعل عناصر (إم إف أو) ومن ضمنهم الأميركيين أهداف ثمينة للتنظيم الإرهابي، ناهيك عن وجود المقر الرئيسي للقوة في منطقة الجورة، والتي تقع في قلب مسرح عمليات التنظيم الإرهابي بمثلث رفح، العريش والشيخ زويد.
نظرة عامة
وبين أخذ ورد على مدار العامين الماضيين، جاء موقف كل من تل أبيب والقاهرة متوافقاً على ضرورة بقاء (إم إف أو) لا سحبها، أولاً كضمانة لاستمرار معاهدة السلام بين الدولتين، وكونها حلقة وصل في التنسيق الأمني بينهم في هذه الفترة، وأخيراً كون قوة المراقبـين في سيناء تحظى بسجل جيد عن مثيلاتها من حيث الاستمرارية (35 عام) وكذلك علاقات جيدة بين الدولتين على المستوى الأمني والاستخباراتي. ويؤكد انسحابها في هذا التوقيت لحلفاء الولايات المتحدة نية واشنطن الانسحاب العسكري، خاصة بعد تسوية الملف النووي الإيراني، والذي طرح في أعقابه مسألة إغلاق القواعد الأميركية في البحرين.
لكن الأهم من السابق هو أن سحب واشنطن لقوة (إم إف أو) من سيناء يعطي نصراً معنوياً مجاني لتنظيم “ولاية سيناء”، ويعزز من ذرائع تل أبيب الرامية إلى مد يدها العسكرية داخل شبه الجزيرة بخلاف التنسيق بينها وبين القاهرة، وفي هذه الحالة فأن معاهدة السلام بين البلدين تصبح مهددة، وهو ما يعني بالنسبة لواشنطن إخفاق نجاح دام أكثر من ثلاث عقود كراعية لما سمي بعملية السلام. وهنا طُرح في واشنطن بدائل منها سحب تدريجي لقوات (إم إف أو) أو استبدال مهمة المراقبة البشرية والدوريات بمراقبة بالأقمار الاصطناعية وأجهزة الاستشعار والكاميرات المتطورة، نظراً لأن الموقف الحالي بين تل أبيب والقاهرة إيجابي وتنتابه حاله من التعاون الاستراتيجي فيما يخص سيناء، وبالتالي فأن مهمة (إم إف أو) المتعلقة بالتفتيش والتأكد من التزام الطرفين بنصوص المعاهدة أصبح شيء روتيني غير مُجدي.
وعلى سياق أخر، استغلت إسرائيل تدهور العلاقات بين مصر وحركة حماس طيلة العاميين الماضيين في توسيع التعاون الأمني مع الأولى بهدف حماية المستوطنات الإسرائيلية فحسب لا أمن سيناء، لذا نجد أن معظم القوات والتجهيزات التي أدخلتها مصر منذ 2011 وتضاعفها كماً وكيفاً منذ 2013 لتشمل مروحيات ومقاتلات، تركز معظمها في جنوب سيناء، وهي المنطقة التي لم تشهد أعمال إرهابية مثل التي حدثت في شمال سيناء.وبالتالي يمكن استنتاج أن (إم إف أو) لم تكن في هذه الفترة ذات أي دور فاعل سوى تكميل صورة التعاون بين القاهرة وتل أبيب.
الأخطار في سيناء
قائمة المخاطر في شبه جزيرة سيناء حسب تقرير لمعهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، وبالنسبة لمصر وإسرائيل كالتالي:
1- التنظيمات الإرهابية وعلى رأسها تنظيم داعش
2- عمليات تهريب الأسلحة من وإلى غزة.
3- عمليات وشبكات تهريب البشر والمهاجرين غير الشرعيين
4- احتمالية الفراغ الأمني.
ومع ملاحظة أن الأربعة عناصر السابقة ترتبط بأمن إسرائيل على عكس ما يقول المعهد أنها خاصة بأمن الدولتين معاً، حيث أنه عدا العنصر الأول، فأن القاهرة لا تنظر إلى حركة حماس على أرض الواقع كتهديد لأمنها القومي، اللهم إلا في مسألة تهريب الأسلحة والأشخاص من غزة إلى سيناء لتنفيذ عمليات إرهابية، والغير متعلق بحركة حماس أو فصائل المقاومة، بل بالتنظيمات الإرهابية التي تدور في فلك تنظيم وفكر القاعدة وداعش وتهدد الحركة بوصفها المسيطرة على قطاع غزة وفي نفس الوقت مسئولة عن ضبط مسألة الأنفاق لنفس السبب. العناصر الثلاث المتبقية فتعني بالنسبة لتل أبيب تهريب الأسلحة من السودان مروراً بسيناء إلى غزة والتي تستخدمها المقاومة ضد الكيان الصهيوني، كذا عمليات تهريب البشر والمهاجرين غير الشرعيين عدها المسئولين الإسرائيليين بما فيهم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ضمن التهديدات الإستراتيجية لأمن الكيان بعد المقاومة في لبنان وغزة وحتى قبل داعش والقاعدة –الأخيرة يحظى فرعها المحلي “جبهة النصرة” بدعم مفتوح من إسرائيل في الجولان- وأخيراً فالفراغ الأمني في سيناء بشكله الحالي أو الذي تتوقعه واشنطن وتل أبيب مستقبلا لتصبح سيناء منطقة “جذب للفوضى” مثل بعض المناطق على الحدود بين أفغانستان وباكستان أو بعض المناطق في ليبيا حالياً، يكمن سببه الرئيسي دون مواربة في القيود التي فرضتها اتفاقية السلام المصرية-الإسرائيلية على السيادة المصرية وانتشار قوات الجيش والأمن كماً وكيفاً في سيناء. وهو ما قد يفسر الموقف الإسرائيلي تجاه القوات المصرية التي دخلت سيناء المستثناه عن الاتفاقية، والتي أرادتها تل أبيب في إطار تعاون أمني مراقب ويصب في النهاية لمصلحتها لا لمصلحة أمن سيناء.
التداعيات
يمكن تقسيم تداعيات سحب قوة (إم إف أو) إلى قسمين؛ على المدى المنظور وعلى المدى البعيد. فعلى المدى المنظور يؤدي سحب (إم إف أو) كما سبق وأن ذكرنا إلى نصر مجاني لداعش في سيناء، وسيعد الأكبر من نوعه بحسب منظور التنظيم الإرهابي الذي سيبرهن على صحة شعار “باقية وتمدد” بهذا الأمر حال حدوثه، ومن ثم سيعطي هذا دفعة معنوية لعناصر التنظيم لتوسيع وازدياد نشاطهم الإرهابي، وهذا سيكون له عواقب فرعية منها احتياج مصر إلى ضخ مزيد من القوات والآليات لمواجهة التنظيم المتزايد قوته بشكل كمي وكيفي منذ بداية العام الحالي، وأمام ذلك ستكون أمام القاهرة عقبة تل أبيب التي ستطلب كالعادة ضمانات بأن القوات المصرية ستنفذ مهمات محددة وبعدد محدد وبسقف زمني، هذه الضمانة كانت توفرها (إم إف أو) على الرغم من التعاون الأمني بين الدولتين، وهذا سينقل التعاون إلى مرحلة جديدة قائمة على فكرة الأمر الواقع المتعلق بالاحتياجات العسكرية لمواجهة خطر مشترك، مما يطرح توسيع التعاون الأمني للدرجة التي تطلق فيها إسرائيل يدها في سيناء، أو تضع القاهر تل أبيب أمام الأمر الواقع وتطلب تعديل الملاحق العسكرية لاتفاقية السلام. أو تلجأ إسرائيل إزاء تنامي تنظيم داعش في سيناء إلى لعبتها المعهودة المعروفة بـ”حق الدفاع عن النفس”، وهو الأمر الذي تناقشه تل أبيب بالفعل منذ شهور، فيتحدث بصراحة المسئولين العسكريين والأمنيين في الكيان عن ضرورة تطبيق سيناريوهات التصدي للإرهاب في سيناء، وهنا الإرهاب يشمل من وجهة نظرهم بالدرجة الأولى تهريب السلاح ثم داعش التي تُسَوَق كحجة ومبرر لمزيد من التدخل في سيناء.
أما على المدى البعيد، فباعتبار قوة (إم إف أو) من أساسيات ضمان تنفيذ معاهدة السلام المصرية-الإسرائيلية، والتي تكونت أصلا كبديل لرفض الأمم المتحدة إرسال قوات حفظ سلام عشية المعاهدة، وبالتالي فأن سحبها في ظل كافة الظروف السابقة في سيناء خاصة والمنطقة عامة، يعني التشكيك في استمرار المعاهدة، بالحد الأدنى بشكلها الحالي. كذلك على المدى البعيد تتحول سيناء إلى منطقة “جذب للفوضى” لا جذب سياحي واستثمارات، سواء بمفاعيل سحب (إم إف أو) كمؤشر على عدم الاستقرار الأمني، أو مستقبلاً بترشح شبه الجزيرة إلى منطقة حروب وقلاقل أمنية، وغني عن الذكر أن هذا لا يصب في مصلحة كل من القاهرة وتل أبيب، حتى وإن أرادت الأخيرة إطلاق يدها للتدخل في سيناء، فأن هذا التدخل يعني بالحد الأدنى عبء أمني وعسكري على الكيان يضاف إلى أعباء الجبهة الشمالية في لبنان وشرقاً في الجولان وجنوباً في غزة، ناهيك أن الوضع في سيناء طيلة الثلاث عقود الماضية كان يغني تل أبيب عن كل ذلك. وهو ما قد يجعل الأخيرة تلجأ إلى تكرار حل مماثل نفذته في سوريا، في دعم جماعة إرهابية منافسه تكون حائط صد ودرع يحمي أمن الكيان، مثل تجربة “جبهة النُصرة” في الجولان السوري.
الخلاصة: أمام التداعيات السابقة بشقيها، فأن مسألة سحب (إم إف أو) تؤدي إلى مخاطر وخسائر أكبر من بقائها كقوة مراقبة ولو بشكل روتيني على مستوى الوضع في سيناء، وإن كانت الأحاديث الجارية في واشنطن طرحت احتمالية سحبها فأنها تبقى رهن مرحلة النقاش لا مرحلة التطبيق الفعلي الذي يتطلب ترتيبات بديلة تناقشها الولايات المتحدة مع مصر وإسرائيل، بصفتها الراعية والمسئولة عن اتفاقية السلام، لا انسحاب منفرد دون مشاورة. وعلى مستوى المنطقة فأن هذه الخطوة ستؤدي لتداعيات سلبية على موقف الولايات المتحدة وعلاقتها بحلفائها في المنطقة، إذ تؤدي هذه الخطوة في ظل الحالة الضبابية والغير مستقرة إلى التشكك في نوايا واشنطن من جانب حلفائها في أنها تعمل لمصلحة مشتركة وليست مصلحتها فحسب. وقبل كل هذا وذاك؛ لن يكون استغلال تنظيم داعش لسحب (إم إف أو) وتصوير الأمر كانتصار له مرضياً لكافة الأطراف، بل وسيؤدي إلى مزيد من التصدع والتشكك في الإستراتيجية التي وضعتها واشنطن للتصدي للتنظيم وحشدت لها دول المنطقة وجعلت أي جهود فردية في إطارها العام، وهذا يعني حال حدوث السابق اعتماد كل دولة، وبالأخص مصر المهددة بخطر داعش في ليبيا وسيناء إلى إيجاد طريق أخر غير الطريق الأميركي لمواجهة هذا التهديد.
البديل
Navigate through the articles | |
القيادات تجهض ثورات التغيير | “الإصلاح الآن” تهاجم الحكومة السودانية |
التعليقات تخص صاحبها ولا تخص ادارة الموقع
|