من قال أن سوق عكاظ لن يعود بعد أربعة عشر قرنا؟
إنها حقيقة وليست دعابة.
ومن قال أن حب الذات، وطغيان النفس الامارة بالسوء، قد رحلا عن العرب رحيل جاهليتهم الجهلاء؟
فالعرب عرفوا قديما، بطغيان أنفس لا تخضع للحق وتتآمر عليه، وعرفوا حديثا بارتجال وتذبذب في المواقف، فلم يعرفوا ثباتا في حق، ولو كان فيه عزهم.
ومن الذي بقيت له ثقة بسماسرة السياسة في حكومات بلادنا العربية، على امتداد رقعتها الجغرافية، في صدق المقال، وحسن النية، والابتعاد عن المتاجرة بمستقبل البلاد وأرواح الناس؟
ما من شك اليوم، في أن سوق عكاظ قد انتصبت اليوم بشكل مختلف، وصورة مغايرة عما كانت عليه سابقا، فحل محل التجار والشعراء والخطباء، وروائع أشعارهم، وخطبهم في السجع، وبديع القول، لا تزال تتلألأ عباراتها، وتتوقد معانيها بمشاعر الحب والحماسة، تنهل منها الأجيال وتقتبس الكلم الطيب، شخصيات سياسية نافذة في حكومات بلادها، تراوغ في مجال السلطة، وتتخذ القرار المصيري، دون مشورة شعوبها، فتنخرط في مزاد عكاظي خاسر، وإن جاء بربح مادي، فلن يفي بعواقب ما سينجر عنه اشتراك في حرب بسوس جديدة، لا ناقة لتونس والدول المنخرطة فيها ولا جمل.
وباستثناء دول العمالة الخليجية، التي اعتادت سياسيا، أن لا تلوي العصا في يد كبيرتها السعودية، فان جميع المنخرطين في المزاد العسكري العكاظي، تعيش بلادهم أزمات اقتصادية حادة، وتفاقم بطالة قياسي تنذر بسقوط حكومات، وتتالي أزمات أمام نفاد صبر مطالب أفرادها الملحة، فكان اللجوء الى أقصر السبل المعروضة وأخطرها مضيا، بالاستجابة للانضمام الى تحالف عسكري عربي بقيادة سعودية، ورعاية أمريكية بقياس سياسي يراه من حيث خفائه عن الشعوب – والشعوب العربية هي آخر من يعلم بحسب تاريخها السياسي- أخف الأضرار بالنسبة الى أنظمة، لم يعد لها ما تخسره، بعد الفشل الذريع في سياساتها، وهي في هذه الحال، كالمستجير من الرمضاء بالنار.
تبين إذا أن المزاد المعلن، لم يكن من أجل حشد جيش لمحاربة داعش، وإنما من أجل تحقيق ما عجزت عنه الجماعات الارهابية التكفيرية في سوريا، من إسقاط نظام الممانعة والمقاومة للعدو الصهيوني، حيث لم يبق في العرب والمسلمين من يمانع ويقاوم، سوى هذا الحلف المستهدف من الاستكبار الغربي والصهيونية، وأدواتهما المعروفة في المنطقة العربية والاسلامية.
ولا أعتقد، بحكم ما عرف به عملاء أمريكا والغرب والصهيونية - واستنتاجي هذا طبيعي- أن قرار التدخل العسكري البري، قد تتخذ في الرياض أو الدوحة أو أبو ظبي، فجميع هؤلاء لا قدرة لهم على عمل كبير وخطير مثله، وإنما عادة ما يستفز صاحب الدابة دابته، ثم يدفعها الى حلبة الصراع، وهي لا تدري ماذا تفعل والى أين ستنتهي.
وقد عبرت تونس في شخص الناطق العسكري، بأن مشاركتنا العسكرية، ستكون في شكل استشارات وخبرات، وهذا بحد ذاته انخراط لا يقل تبعة وخطرا، عن المشاركة العسكرية الفعلية، في حرب مرتقبة، يريدها الغرب والصهاينة بالوكالة، لم تدق طبولها بعد، وهي في هيئة قرع، بهذا النقل الجوي السعودي الكثيف الى مطار أنجرليك التركي، وهذه المناورات العسكرية الغير مسبوقة في حفر الباطن، مضافا اليه هذا التحرش العسكري التركي، وقصفه نقاطا عسكرية كردية وسورية في الشمال السوري.
وفي كل الحالات فان أي مشاركة في أي تحالف يجب أن يعرفه الشعب بكل تفاصيله لأنه هو الذي سيدفع ثمن ما سينجر عنه من نتائج فيكون على بينة من أمره، في تقرير مصيره وهذا يتطلب استشارة شعبية واضحة في مقترحها بلا مراوغة قد تنفضح في المستقبل.
وفي نفس الوقت نريد لبلادنا كما أعلنت حيادها عن الشأن الليبي، أن تعلن حيادها عن الخوض في المستنقع السوري، الذي أكل أطرافه الإرهاب التكفيري، الوهابي، السعودي، القطري، التركي، الأمريكي، الصهيوني، ففي حيادنا حفظ لماء وجوهنا، مما لحقنا من انخراط مئات من التكفيريين من بلادنا، في تدمير سوريا شعبا ومقدرات، ولا نقدم على خطيئة أخرى، تزيد سمعتنا سوء على السوء الأول، فهل من عقلاء في ساستنا، يعقلون أبعاد ما قد ينجر عنه من عدوان على سوريا، ويتداركوا الأمر قبل فوات الأوان؟
أعتقد أنه مازال الوقت سانحا لتنأى حكومتنا بنفسها، خصوصا وأن مصلحة بلادنا، لا تصب في توجه تقوده دول معادية للثورة والثوار، عرفت بعمالة تاريخية للدول الغربية الاستعمارية وعلى رأسها أمريكا وبريطانيا وفرنسا، لا يختلف عليها اثنان، تحارب الديمقراطية والحرية، ليس فيها دساتير، تحكمها أهواء ملوك وأمراء، ينظرون الى بقية البشر على أساس أنهم خلقوا ليكونوا في خدمة أنظمتهم بالبترودولار.
انتصب إذا سوق عكاظ العسكري، واحتشد الوافدون على مزاده، ولن ينفض بخير طالما أن الدعوى التي تألفته كاذبة، وصادرة ممن رعى الارهاب فكرا، وموله عتادا، وأرسله نحو وجهة يراد لها الخروج عن دورها، في مواجهة أخطر الأعداء على الأمة الاسلامية، وعلى الأمة أن تتحمل مسؤولياتها كاملة، من أجل وقف مهزلة محاربة الارهاب من طرف داعميه ومموليه، لأن الارهاب لا يعالجه الا من ابتلي به، ولن يعالجه غيره.
بيان نيوز