«القرآن يدعو إلى الكراهية والعنف والإذعان والقتل والإرهاب.أنا لا أكره المسلمين. أنا أكره الإسلام نفسه»..
هذه الكلمات البذيئة قالها جيرت فيلدرز، زعيم اليمين المتطرف فى هولندا، هذا الرجل يثير موجات من الكراهية ضد المسلمين أينما ذهب، وهو يعتبر الإسلام خطرا على أوروبا يجب محاربته بشراسة، وقد صنع فيلماً بعنوان «فتنة» حافلا بالهجوم الجاهل الظالم على الإسلام مما أدى إلى محاكمته بتهمة إثارة الكراهية (وهى تهمة أتمنى أن يتم تطبيقها فى مصر ضد كل من يسىء إلى الآخرين بسبب معتقداتهم الدينية). جيرت فيلدرز ليس نموذجا نادرا وإنما هو جزء من ظاهرة تجتاح أوروبا الآن، حيث يصعد اليمين المتطرف ويكتسب مقاعد فى البرلمانات تتراوح بين 5 و20 فى المائة. فى كل بلد أوروبى يوجد حزب يمينى متطرف يتبنى خطابا معاديا للمهاجرين. أسباب صعود اليمين المتطرف عديدة: سقوط الاتحاد السوفيتى وتأثيره السلبى على أحزاب اليسار، والأزمة الاقتصادية التى تجعل بعض الأوروبيين يشعرون بالكراهية نحو الأجانب لأنهم فى ظنهم يأخذون فرصهم فى العمل، هناك أيضا اعتداءات 11 سبتمبر فى الولايات المتحدة والعديد من العمليات الإرهابية التى تورط فيها متطرفون إسلاميون..
أضف إلى هذا أن معظم المساجد فى الغرب ينفق عليها شخصيات أو جمعيات وهابية من الخليج، وبالتالى تقدم القراءة الوهابية المتشددة التى تعطى صورة سيئة وغير حقيقية عن الإسلام.. فى كل الأحوال، فإن صعود اليمين المتطرف فى الغرب ظاهرة سيئة تقلق الغربيين جميعا، لأن هذه الأحزاب المتطرفة ليست فقط معادية للإسلام بل هى أيضا غالبا معادية لليهود والملونين والسود، وهى تؤمن غالباً بمبدأ عنصرىّ اسمه «التفوق الأبيض»، يفترض أن جينات الرجل الأبيض تجعله كائنا إنسانيا أرقى من الإنسان غير الأبيض (هذا الافتراض من الناحية العلمية هراء لا يستحق المناقشة).. الأحزاب اليمينية المتطرفة تتحفظ عادة على حقوق المرأة، وهى كثيرا ما تجاهر بالإعجاب بالأفكار النازية والفاشية، وكلاهما ضد الديمقراطية.. وقد أدت هذه الأحزاب المتطرفة إلى ظهور مجموعات مسلحة من اليمينيين المتطرفين، يحلقون شعر رؤوسهم ويجوبون المدن الأوروبية ليعتدوا على المهاجرين ويحرقوا بيوتهم وقد قامت هذه المجموعات بعمليات إرهابية مروعة، كان آخرها اعتداء النرويج الذى نفذه يمينى متطرف، وراح ضحيته 77 شخصا..
الديمقراطية الغربية تواجه إذن موقفا فريدا من نوعه: باسم الديمقراطية تكونت أحزاب تحمل أفكارا عنصرية، تحض على الكراهية، وتعتنق نظريات قد لا تعترف بالديمقراطية أساسا.. والسؤال: لماذا لا تتخذ الحكومات الغربية قرارا بإغلاق هذه الأحزاب واعتقال أعضائها فتستريح وتريح الناس؟.. الإجابة: إن المبادئ الديمقراطية تمنع أى إجراءات استثنائية، ومن حق أى مواطن أن يعبّر عن أفكاره مادامت لا تخالف القانون. أعضاء الأحزاب المتطرفة بمجرد أن يقولوا أو يفعلوا ما يخالف القانون يتم القبض عليهم وإحالتهم للمحاكمة، ولو أن أى حكومة غربية اتخذت إجراء استبدادياً وأغلقت الأحزاب المتطرفة سيكون أول من يدافع عن هذه الأحزاب خصومهم السياسيين، لأنهم فى هذه الحالة يدافعون عن قواعد الديمقراطية حتى لو استفاد منها من يخالفهم فى الرأى.
لقد تعلمت الديمقراطيات العريقة أن منع المتطرفين من التعبير السياسى لا يقضى على أفكارهم وإنما يضاعف من تأثيرها، ولو أنها اتخذت قرارا بإغلاق الأحزاب المتطرفة، فلسوف تتحول خلال شهور إلى تنظيمات سرية مسلحة ترتكب عشرات الاعتداءات على المواطنين والممتلكات. علاج التطرف الوحيد إذن هو تدعيم النظام الديمقراطى... إن الأفكار المتطرفة مثل الجراثيم التى تهاجم الجسم، لابد من تقوية الجهاز المناعى للجسم من أجل القضاء عليها. الجهاز المناعى للمجتمع هو النظام الديمقراطى، كلما دافعنا عنه وقمنا بترسيخ قواعده سيكون قادرا على محاربة التطرف. هذه الدروس من الديمقراطيات العريقة أتمنى أن نتعلمها فى مصر.. لنتخيل مثلا أن الجيش فى أى بلد أوروبى قد قام بانقلاب واستولى على السلطة، وألغى النظام الديمقراطى، وقال لمواطنيه: «سوف يتولى العسكريون الحكم لأننا لو أجرينا الانتخابات فسوف تفوز بها الأحزاب اليمينية المتطرفة» عندئذ سيكون الشعب بين اختيارين إما أن يستسلم للحكم العسكرى بكل ما يعنيه من استبداد وما ينتج عنه من كوارث، وإما أن يطالب بالديمقراطية التى سيستفيد منها المتطرفون.
لاشك عندى أن ذلك لو حدث فى أى بلد غربى، فإن المواطنين جميعا سيتوحدون من أجل إنهاء الحكم العسكرى وإعادة الديمقراطية، أما المتطرفون فإن الديمقراطية قادرة دائما على منع شرورهم.. هذا الاختيار البائس بين الإخوان والعسكر قد تم فرضه علينا فى مصر على مدى ثلاثين عاما، وشكّل ذريعة «مبارك» الدائمة فى الاستبداد بالحكم.
أكثر من مرة استمعت إلى مسؤولين فى نظام مبارك وهم يقولون: «نحن مضطرون لتزوير الانتخابات وإلا فإن الإخوان سوف يفوزون».
وهكذا ارتضى قطاع كبير من المصريين بالاستبداد كبديل للتطرف، فتدهورت أحوال بلادنا حتى وصلت إلى الحضيض فى كل المجالات، ثم قامت الثورة المصرية ونجحت فى خلع «حسنى مبارك»، لكنها فشلت حتى الآن فى التخلص من نظام مبارك الذى لايزال يحكم مصر برعاية المجلس العسكرى.. ومنذ اليوم التالى لخلع مبارك بدأ نظام مبارك فى وضعنا أمام الاختيار ذاته: تحالف الإخوان والعسكر على حساب الثورة، الإخوان أرادوا أن يحققوا غرضهم فى السلطة، والعسكر نجحوا فى استعمال الإخوان كفزاعة من أجل إعادة النظام القديم. مخطط متكامل تم تنفيذه فى الشعب المصرى: انفلات أمنى متعمد وفوضى وبلطجية تابعون لأجهزة الأمن يهاجمون كل شىء حتى المستشفيات ومدارس الأطفال.. وقد خص نظام مبارك الأقباط بترويع مضاعف، فتم إحراق كنائس عديدة أمام أعين أفراد الشرطة المدنية والشرطة العسكرية، وتم الاعتداء على بيوت الأقباط وممتلكاتهم بواسطة ملتحين دون أن يحاكم المعتدون، بالرغم من ظهورهم بالصوت والصورة فى فيديوهات مسجلة، وبلغ ترويع الأقباط ذروته فى مذبحة ماسبيرو، حيث تم قتلهم بالرصاص ودهسهم بالمدرعات.
كانت الرسالة: «أنتم أيها الأقباط فقدتم مبارك الذى كان يحميكم من المتطرفين الإسلاميين وعليكم الآن أن تدفعوا ثمن مناصرتكم للثورة..»، هذا ما يجعلنا نتفهم لماذا صوّت معظم الأقباط لصالح شفيق ممثل نظام مبارك حتى لا يتمكن مرشح الإسلاميين من الفوز بالرئاسة. إننا اليوم أمام الاختيار البائس نفسه الذى ظلت مصر تتخبط فيه على مدى عقود.. أما أن نعترف برئيس منتخب شرعى لكنه ينتمى إلى «الإخوان المسلمين» التى يعتبرها كثيرون جماعة متطرفة خطرة لأن لها جزءا غاطسا سريا لا نعرف عنه شيئا، فنحن لا نعرف من يمول الإخوان ولا نعرف ميزانية الجماعة ولا نعرف حقيقة وجود تنظيم مسلح للإخوان، كل هذه الهواجس نحو الإخوان مشروعة ومفهومة وهى تدفع الكثيرين إلى الحذر فى التعامل مع الرئيس مرسى، لكن الاختيار الثانى أمامنا أن نؤيد بقاء المجلس العسكرى فى السلطة حتى يحمينا من الإخوان، وفى هذه الحالة سوف نجهض الثورة بأيدينا..
لقد قامت الثورة المصرية أساسا فى رأيى من أجل إنهاء الحكم العسكرى الذى استمر ستين عاما (مع تقديرى العميق للزعيم العظيم عبدالناصر) إذا تمسكنا بالحكم العسكرى خوفا من الإخوان فلماذا قمنا بالثورة أساسا..؟!
علينا عندئذ أن نعتذر لـ«حسنى مبارك» ونعيده للسلطة، لأنه أفضل من يستطيع السيطرة على الإخوان بالقمع والاعتقالات.. الاختيار الصحيح فى رأيى أن نرفض الحكم العسكرى ونعترف بشرعية الرئيس المنتخب ثم نضغط عليه من أجل تصحيح مسار الإخوان: يجب أن نطالب الرئيس بإعلان ميزانية الإخوان وإخضاعها لرقابة الدولة.. واجبنا أن نمنع الإخوان من الاستحواذ على السلطة ونرفض تحويل مصر إلى دولة دينية، على أن يتم ذلك عن طريق النظام الديمقراطى وليس خارجه.
وقد رأينا كيف خسر الإخوان المسلمون، بسبب أدائهم السيئ، خلال شهور قليلة نحو نصف الناخبين من انتخابات البرلمان إلى الانتخابات الرئاسية، بل إن الرئيس مرسى نفسه لم ينجح بأصوات الإسلاميين وإنما بأصوات مصريين عاديين قرروا أن يدعموه ليمنعوا عودة النظام القديم ممثلا فى «شفيق». إن حماية الديمقراطية من التطرف لن تتحقق أبدا بتسليم الحكم إلى العسكر وإنما تستطيع الديمقراطية دائما حماية نفسها بنفسها عن طريق الرقابة الشعبية واحترام نتيجة الانتخابات مهما تكن غير مرضية بالنسبة إلينا. فى مصر الآن رئيس منتخب بإرادة الشعب، يواجه نظام مبارك الذى لايزال يحكم برعاية العسكر.. نظام مبارك يشن حملة عاتية ضد الرئيس، يستعمل فيها مخاوف المصريين من الإخوان المسلمين، لكن الهدف من هذه الحملة ليس حماية مصر من التطرف وإنما استمرار الحكم العسكرى. كل مطالب الثورة الآن يتم تقديمها فى الإعلام باعتبارها مطالب الإخوان.. إذا طلب الرئيس إقالة لواءات الداخلية من رجال العادلى المسؤولين عن قتل المتظاهرين والانفلات الأمنى، فإن الإعلام يقدم ذلك باعتباره محاولة الإخوان السيطرة على وزارة الداخلية.. إذا طالب أحد بالتحقيق مع أحمد شفيق الهارب فى 35 قضية فساد مقدمة ضده منذ أكثر من عام، فإن الإعلام يقدم ذلك باعتباره بلاغات الإخوان الكيدية ضد شفيق.. إن نظام مبارك يختبئ خلف فزاعة الإخوان من أجل منع التغيير واستمرار الحكم العسكرى لمصر. الذين لا يتفقون سياسيا مع الإخوان ـ وأنا منهم ـ أمامهم طريقان لإقصاء الإخوان عن الحكم: إما أن يدعموا المجلس العسكرى من أجل السيطرة على الإخوان، لكنهم عندئذ سيكونون سببا فى إجهاض الثورة والديمقراطية معا.. وإما أن يبعدوا العسكر عن السلطة ويدعموا النظام الديمقراطى القادر وحده على هزيمة الإخوان عن طريق صناديق الانتخابات.
أكاد أسمع بعض المعترضين يقولون: أنت تقارن الناخبين المصريين بنظرائهم الأوروبيين الذين يفوقونهم فى مستوى التعليم والوعى.. الواقع أن ممارسة الديمقراطية لا تحتاج إلى شهادة الدكتوراة، والدليل على ذلك الهند، البلد الذى يعانى الفقر والجهل والأمية، لكنه استطاع أن يكون من أكبر الديمقراطيات فى العالم، ولدينا دليل آخر من تاريخنا، ففى عام 1950، أجريت آخر انتخابات نزيهة قبل ثورة 1952 وكان الإخوان المسلمون آنذاك فى ذروة قوتهم، لكنهم فشلوا فى الحصول على مقعد واحد فى البرلمان، لأن حزب الوفد اكتسح الانتخابات وفاز بأغلبية المقاعد... نحن محصورون منذ عقود بين الإخوان والعسكر، والمخرج الوحيد فى رأيى أن نعمل على ترسيخ ديمقراطية حقيقية تكون قادرة على حماية مصر من التطرف ومن الاستبداد معا.
المصدر: المصري اليوم