«ما فائدة الكتابة فى هذا الوطن المسمى مصر، وما جدوى الكلام؟».. بهذه العبارة، أو السؤال الاستنكارى، اختتمت مقالتى الأخيرة المنشورة هنا قبيل ابتداء شهر رمضان، ثم قضيت الشهر أفكر فيها. فكانت المقالة بعنوان «النداء الأخير لإنقاذ الإسكندرية» وفيها استكملت ما طرحته قبلها فى مقالتى التى نشرت هنا تحت عنوان «مَنْ يسكب الزيت ليلاً؟» وفى كلتا المقالتين كنت أصيح فى بئر قديمة، منادياً بالمسارعة إلى إنقاذ مدينة الإسكندرية التى يعيش فيها قرابة خمسة ملايين من المصريين، المهددين بالأمراض وبالموت بسبب الزيت الفاسد الذى تسكبه السفن الكبار أمام الشواطئ عند دخولها إلى الميناء، وبسبب مئات العمائر (المقابر) التى تشاهقت بالبنيان فى الأزقة والحوارى، وعلى الكورنيش، بلا تصريح بناء أو مراعاة للقواعد الهندسية عند تعلية المبانى إلى هذه الارتفاعات غير المتناسبة مع الأساسات والمواضع (الحرجة) التى تمت فيها هذه المخالفات وتبجحت فى وضح النهار.
ومع خطورة هذه الحالات وآثارها المدمرة، لم يكن ما اقترحته لكف شرها إلا إجراءات بسيطة وبديهية، ولا تحتاج تدخلاً من رئيس جمهورية أو وزير أو دون ذلك ممن ينتحل لهم أنصارهم الأعذار على أساس أنهم مشغولون، ويحتاجون فترة مائة يوم قد تمتد قليلاً فتصير ألفاً أو يزيد.. لأن حل فضيحة (مشكلة) سكب الزيت فى البحر، لا يحتاج أكثر من محاسبة المسؤول عن مراقبة السفن الآتية إلى الميناء، أو حجز سفينة واحدة من تلك التى تفعل الخبائث فى الظلام، وتفلت نهاراً برشوة بسيطة، دولارات معدودات، تدفع مصر بعدها مئات الآلاف كغرامات دولية، ناهيك عن تلوث الماء وهروب الأسماك وإفساد الشواطئ ونشر الأمراض.. وحل الكارثة (القنبلة الموقوتة) المتمثلة فى العمائر المقابر، لا يحتاج أكثر من القبض على عدد محدود من مرتكبى هذه الجرائم، والتحفظ عليهم لحين قيام شركائهم العاملين فى الخفاء، بإزالة الأدوار المخالفة التى قد تنقض فى أى لحظة ناشرة الموت المجانى خلال الديار.
فماذا حدث؟.. لم يتحرك أى أحد، لا من الكبار الذين هم مشغولون، ولا الأصغر منهم الذين لا يجدون ما يشغلهم. وبينما الناس فى الإسكندرية يستعدون لاستقبال شهر رمضان، انهارت واحدة من تلك العمائر المقابر، فقتلت تسعة عشر.. تسعة عشر إنساناً بريئاً لقوا حتفهم تحت أنقاض لم تجد فرق الإنقاذ سبيلاً للوصول إليها، لأن المقبرة الشاهقة مبنية داخل أزقة وحوارى لا تستطيع السيارات دخولها.
فماذا حدث؟.. لم يتحرك أحد، حتى مرت أيام ثقال ثم وقعت فاجعة رفح التى كان كثيرون يحذرون منها من قبل وقوعها، ولطالما تحدث الناس (حتى فى المقاهى) عن خطورة الأوضاع فى سيناء التى امتلأت بجماعات مسلحة تسمى نفسها «إسلامية» وكيف كانوا يمرحون فى الأرض بأسلحتهم بلا ضابط لهم ولا رقيب عليهم، وفى يوم مشؤوم، ترك ستة عشرة من جنودنا المرابطين عند الحدود الخطرة، أسلحتهم، وأهملوا مراقبة المكان فما كان من تلك الجماعات التى تزعم أنها إسلامية، إلا الانقضاض على الجنود ساعة المغرب وقتلهم جميعاً، ثم غنموا منهم سيارتين عسكريتين عبروا بهما، لا من الصحراء، وإنما من المعبر الرسمى بين مصر وقطاع غزة. لم تطلق عليهم رصاصة مصرية، وإنما قصفتهم الطائرات الإسرائيلية فأردتهم جميعاً ودمرت السيارتين.
وعندئذ، شعر المصريون بالعار، وهاجت ألسنة أولئك الذين احترفوا الخطابة فى الفضائيات وعلى صفحات الجرائد، مطالبين بالرد الحاسم. وخرج رئيس الجمهورية يتوعد الفاعلين بالويل والثبور وعظائم الأمور (مع أن إسرائيل قتلتهم) ولم يتوقف أحد عند الملابسات الغريبة للحادثة، أو يلمّح إلى تقصير جنودنا المغدور بهم مع أن الذى أعرفه، منذ كنت مجنداً أن المراقبة المسماة فى مصطلح الجيش «الخدمة» أو نوبة الحراسة، هى أمر واجب على الوحدات العسكرية، حتى لو كانت داخل أرض الوطن، وليس فقط على الحدود الحرجة.. أتذكر أننا كنا نقوم بهذه «الخدمة» دورياً فى شتاء «سيدى برانى» القارس، وكانت أصابعنا تجمد على ماسورة البندقية الآلية، حتى لا يمكن تحريكها. قلت يوماً للضابط: كيف نتصرف فى هذا الصقيع، لو هاجمنا أحد، ونحن لا نستطيع تحريك أصابعنا من شدة البرد؟ فأجاب من فوره: الخدمة لازمة، ولابد من الحراسة، وعند الهجوم ستجد أصابعك وكل جسمك قد تدفقت فيه السخونة المفاجئة، المطلوبة لعمل اللازم.
طيب، ألم يكن بين جنود رفح المقتولين غيلة «الشهداء بحسب الطنطنة الخطابية» من يقول لهم مثل هذا الكلام البديهى، لا سيما أنهم كانوا محاصرين أصلاً بالخطر؟
فلما وقعت الفاجعة، وطنطنت لها وسائل الإعلام، تحركت الجيوش واندفعت المعدات الثقال لتثأر للمقتولين.. مِمّن؟ لا أحد يعرف.. قالوا: سوف نطهر سيناء من الإرهابيين.. كيف؟ لا أحد يعرف.. وقالوا إن الرئيس يشرف على العمليات العسكرية بنفسه.. هل لديه خبرات مخابراتية وعسكرية؟ لا أحد يعرف.. وبعد أسابيع من «الحملة» هل تحقق شىء يتناسب مع تلك الحشود العسكرية الجرارة؟ لا أحد يعرف.
طيب، فما بال التسعة عشر مصرياً الذين لقوا حتفهم تحت أنقاض العمارة السكندرية المنهارة؟ أليسوا من أهل مصر.. أليسوا أبرياء؟.. فلماذا لم يتحرك أحد حتى بقرار إدارى لتعيين محافظ للمدينة التى بلا محافظ، أو بالقبض على القاتل أو غيره من القتلة «المقاولين» الذين سيقصفون أرواح مئات الناس، أو آلاف منهم، عند أول ارتجافة للأرض بأى زلزال.
«ما فائدة الكتابة فى هذا الوطن المسمى مصر، وما جدوى الكلام».. قلت فى نفسى ما مفاده: نحن نفعل ما علينا، ونكتب، وليس لنا إلى غير ذلك سبيل، ثم راودت نفسى الثكلى بعبارات من مثل: أنت تكتب فى المعرفة وفى التراث وفى الأدب، وهذا فى النهاية دورك، فلما تأملت فيما سبق، وجدته مجرد هراء، فالمعرفة صناعة ثقيلة لن تنهض بها مقالات أسبوعية فى جريدة أو تكفيها «الكتابة» فى أسواق قوم صارت «الطنطنة الخطابية» هى اللعبة التى يحترفها لاعبون هم فى واقع الأمر بحسب التعبير العامى (لعيبة) يتصدرون الشاشات ويشوّشون، ويعتلون المنابر ويزعقون، وهم فى كل واد يهيمون ويقولون ما لا يفعلون، والمعرفة لها قلاع تتحصن بها وتزدهر فيها، وكان من بينها فى بلادنا مكتبة الإسكندرية التى كتبت عنها فى نهاية العام الماضى وبداية هذا العام أنها تنهار، فلم يتحرك أحد، فلما وجدت الأمر قد جرى ابتذاله، علانية، تركت العمل وكتبت مقالتى «وداعاً مكتبة الإسكندرية»، وقصرت جهدى على الكتابة، فما الذى حدث من بعد ذلك؟ لا شىء.
«لا فائدة من الكتابة فى هذا الوطن المسمى مصر، وليس هناك جدوى للكلام» مادام الحال يسير على ذلك المنوال، ومادامت الكلمات لا تجد إنصاتاً فى وسط هذه الطنطنة العالية للخطباء الزاعقين دوماً، مع أو ضد، ثم ضد بعد مع، ثم ضد الضد، ثم مع ضد الضد.. فى صخب لا ينتهى، فلابد أن ينتهى هذا المطاف إلى قرارى الأخير بالكفَّ عن كتابة المقالات الأسبوعية، لا فى الشأن العام ولا فى المعرفة «التى هى أيضاً شأن عام» وليس ذلك لأن ما ناديت به من أمور بديهية، يتم دوماً إهماله، وإنما الأدهى من ذلك فيما أرى، أن الكتابة العبثية هذه، هى ابتذال للكلمات وتهوين من شأن الكتابة ذاتها، وهذا أمر لا أرضاه لنفسى ولا للكلمات ولا للكتابة، وقد قالوا قديماً «آفة الشىء وضعه فى غير موضعه»، ولذلك سوف أتوقف عن هذا النزيف المجانى المتمثل فى مقالاتى الأسبوعية، إلى أن يقضى الله أمراً كان مفعولاً.
وغنىُّ عن البيان، أن قرارى الاضطرارى هذا، لا دخل لجريدة «المصرى اليوم» به، بل على العكس، يعزُّ علىّ مفارقة جريدة ظلت دائماً تعطى لمقالاتى أعلى تقدير على المستويات كافة، ويحزُّ فى نفسى مفارقة قراء كانوا دوماً يحترمون ما أكتبه.. لكن الكتابة أيضاً لابد لها أن تكون محترمة، ولا تبتذل نفسها بالمداومة من غير طائل، وإلا صارت مثل طنطنة الخطابة والكلام المجانى المبتذل، فوداعاً جريدة «المصرى اليوم» بعد «وداعاً مكتبة الإسكندرية»، ولا أدرى أىّ وداعٍ آخر سوف يتعيَّن علىَّ أن أكتبه بعد ذلك.
المصدر: المصري اليوم