أكد الدكتور أحمد صقر -خبير الأمم المتحدة فى مجال الحوكمة ومكافحة الفساد، وأستاذ الإدارة والتنمية المؤسسية بجامعة الإسكندرية- أن حجم الفساد فى مصر بعد الثورة لا يزال متفشيًا فى أغلب قطاعات الدولة، وأن هناك أنماطًا جديدة من الفساد ظهرت بعد الثورة، والأموال التى هربت خارج مصر فى الفترة من 2008 إلى 2012 تخطت الـ 57.2 مليار دولار.
وفى هذا الحوار المطول تحاول"المحيط" أن تتعرف أكثر إلى الحجم الحقيقى للفساد فى العهد البائد وحجم الأموال التى هربت للخارج بطرق غير مشروعة، وسبل تحصين المال والمؤسسات العامة من النهب مرة أخرى.
وإلى نص الحوار
* بصفتك خبيرًا دوليًّا فى مجال الشفافية والحوكمة كيف تقيم الفساد فى مصر قبل الثورة؟
** أشكال الفساد الموجود وأنماطه ومستوياته وفيرة، بداية من فساد تزاوج المال بالسلطة وهو ما يسمى اصطلاحيًّا بـ"اقتناص الدولة" أو "اختطاف الدولة" ويقصد به أن مجموعة من النخبة تملك النفوذ وتستولى على الأجهزة الرئيسة للدولة وتشكل تنظيمًا عصابيًّا يسخِّر أجهزة الدولة وسياستها لخدمة مصالحه الشخصية، وهذا النوع من الفساد هو الذى ساد فى مصر وتونس واليمن وسوريا وليبيا.
اقترن هذا النوع من الفساد بنوع آخر، وهو الفساد السياسى وتزوير إرادة الناخبين والمواطنين والتلاعب بالعملية الديموقراطية، وتأسيس نظام صورى يحمل شكل آليات المشاركة ولكنه فى حقيقة الأمر يزيف المشاركة بل ويصنعها وفق معطياته وترتيباته، وهذا النوع من الفساد كان موجودًا فى دول الربيع العربى وأولها مصر.
النوع الثالث من الفساد هو الفساد فى المؤسسات المالية وقد شهدت مصر فى فترة التسعينيات فسادًا ماليًّا فضحته الأحداث والأزمة المالية التى مرت بها مصر عام 2000 و2001، وما كشف عنه من حصول رجال الأعمال على قروض كبيرة لصالح شركات يملكونها دون أن توفر ضمانات لهذه القروض، وإن كانت توجد ضمانات فهى صورية، وهذا النوع من الفساد أدى إلى أزمة اقتصادية طاحنة، وزيادة معدلات البطالة وحالات الإفلاس والتعسر مما أضر بالاقتصاد كله، ولم تفتح هذه الملفات ولم يتم التحقيق فيها بشكل جذرى وحقيقى لأوضاع هذه الأموال.
النوع الرابع من الفساد هو الفساد فى الجهاز الإدارى للدولة بدءًا من تلقى الرشاوى إلى تربُّح المسئولين، وشمل ذلك كافة المسئولين كبيرهم وصغيرهم، وذلك من خلال المحسوبية واستغلال الموارد التى تتيحها الدولة لمجاملة آخرين ولتحقيق منافع شخصية.
* وماذا عن الوضع الاَن؟
** أخذ شكل فساد الجهاز الإدارى للدولة نمطًا جديدًا فى مصر، وهو الاستيلاء على أملاك الدولة وأراضيها لخدمة النخبة، وقد كانت هذه سياسة يتبعها "إبراهيم سليمان" وزير الإسكان حتى يضمن ولاء الوزراء، لدرجة أنه كان يعرض على كبار العاملين بالأجهزة الرقابية ويشترى رضاهم وسكوتهم بقطع من الأراضى.
ناهيك عن الاستيلاء على أراضى الدولة بأسعار زهيدة، وفى فترة التسعينيات وما بعدها حدثت هجمة كبيرة للاستيلاء على أملاك الدولة، فى صور التهاون والتراخى فى تطبيق القانون على المخالفات فى مجالات الإسكان، والحصول على منافع ونهب إمكانيات الدولة.
جزء كبير من الدين العام وعجز الموازنة المزمن فى مصر يرجع تضخمه إلى عدم سد منافذ الفساد. وأنا مندهش حتى هذه اللحظة من سياسة الحكومة الجديدة برئاسة الدكتور هشام قنديل وإسراعها فى الحصول على قرض من صندوق النقد الدولى، فى الوقت الذى يجب فيه سد منابع الإهدار فى المال العام التى بددت فى شكل أموال خاصة مع ترشيد نفقات الجهاز الإدارى "سياسة الترشيد"؛ فمثلًا مجلس الشعب الذى يتخطى عدد أعضائه الـ 500 عضو لسنا فى حاجة إلى هذا الكم الكبير من الأعضاء والذين يحصلون على مزايا خاصة بالدولة؛ حتى لا نصبح فى حاجة إلى مثل هذه القروض.
أيضًا استحدث نمط جديد من الفساد بعد الثورة ولم يوجد له نظير على مستوى العالم وهو استيلاء واقتناص العاملين والمسئولين على مقدرات هذه المؤسسات وهو ما يسمى بـ" الاقتناص المؤسسى"؛ فكل مجموعة تعمل فى مؤسسة تسيطر عى مواردها ومنافعها وتسخرها لمصالحهم الشخصية، ونرى ذلك متفش فى المؤسسات الصحفية القومية الكبرى، وأنا على علم أكيد بمثل هذه المعاملات داخل المؤسسات.
وهذا النوع من الفساد يأخذ بعض الحالات المستترة والآخر يأخذ الشكل الفج، والمثال الصارخ داخل الجامعات والموارد التى تأتى من الصناديق الخاصة والتى توزع على أعضاء هيئة التدريس وسلطات بطرق غير مقننة.
* ماذا عن قانون "تضارب المصالح" فى مصر؟
** لا يوجد فى مصر إلى الآن قانون يمنع تضارب المصالح، بمعنى أن أى شخص فى موقع عليه أن يباشر أعماله بموضوعية بعيدًا عن مصالحه ومصالح أقاربه وذويه، وفى الدول الكبرى التى يطبق بها قانون تضارب المصالح يمنع الموظف الذى كان يشغل منصبًا حكوميًّا -بعد خروجه من الخدمة- أن يعمل لدى مصلحة حكومية لها علاقة بالجهاز الحكومى للدولة وذلك مدة 5 سنوات؛ حتى يمنعه من الاستفادة من الموقع الذى كان يشغله فى الحكومة.
* كيف ترى طريقة التعامل مع قضايا الفساد بعد ثورة يناير؟
** لم تفعل مصر بعد الثورة سوى التحقيق مع عدد من كبار الفاسدين وفى قضايا حجم الفساد فيها أقل من الحجم الحقيقى، ولم تتخذ أى إجراءت للتعامل مع عناصر المشهد الكلى، فكيف يكون أحد الأهداف الرئيسة لقيام الثورة هو الفساد ولم يتم القضاء عليه إلى الآن.
* ماذا عن فكرة إنشاء هيئة خاصة لمكافحة الفساد؟
** خلال فترة حكومة الدكتور عصام شرف طلب منى أن أتقدم بمشروع قانون لإنشاء هيئة لمكافحة الفساد، وبالفعل تقدمت فى يوليو 2011 بمقترح متكامل فيه تجارب دول عدة لمكافحة الفساد، وكنت أطلق عليه "الهيئة الوطنية للنزاهة ومكافحة الفساد"، والدكتور شرف أشار إلى هذا الاسم بعد توليه منصبه مباشرة، ولكن للأسف لم يكن هناك أدنى اهتمام أو حتى وضع برنامج عملى لتطبيق التجربة، فضلًا عن المقاومة من داخل الأجهزة الرقابية فى الدولة، وخاصة هيئة النيابة الإدارية على وجه التحديد التى قاومت بشكل كبير فكرة إنشاء الهيئة حتى لا تحد من اختصاصاتها، وكذلك وزارة العدل وعدد من الأجهزة الرقابية الأخرى.
ففى الجهاز الإدارى للدولة يوجد حوالى 7 ملايين موظف نصفهم يحصل على الرشوة، وبالتالى لا يوجد أمامنا لمكافحة هذا الفساد إلا اتخاذ إجراءات وقائية من خلال تحسين الأجور وتمكين المواطنين أنفسهم من الرقابة، مع ضرورة توفير آليات الحماية والوقاية لهؤلاء المواطنين عن التقدم ببلاغاتهم.
* ما أهداف تلك الهيئة؟
** الهيئة تهدف إلى تحقيق أربعة أشياء أولها: الوقاية، وثانها: المكافحة، وثالثها: عمل الدراسات والمساعدة فى وضع استراتيجية وخطة لمكافحة الفساد بالتعاون مع الأجهزة الرقابية الأخرى تتضمن آليات وقائية وتشريعية وإدارية.
وآخرها: التوعية وتغيير الثقافة المجتمعية وتتبع وتقييم أنواع الفساد فى كافة المناطق والقطاعات، ونشر كافة النتائج بطريقة علنية، خاصة أن الأجهزة الرقابية تعمل بشكل سرى وتكتم، سواء جهاز الرقابة الإدارية أو النيابة الإدارية أو الكسب غير المشروع.
* كيف ترى ملف المعونات والمنح الخارجية التى تحصل عليها مصر؟
** ملف المنح والمعونات التى حصلت عليها مصر من أخطر الملفات، ولم يفتح بعد وأعتقد أنه لن يفتح، فمن حقنا أن نعرف أين ذهبت وكيف وظفت هذه الأموال. وأنا أعلم بعض الحالات والمسئولين الكبار داخل الوزارات تربحوا من مشروعات فى المعونات مثل وزارة الحكم المحلى ووزارة التنمية المحلية، ولم نر تقديم أى من هؤلاء إلى المحاكمات حتى يمثل ذلك آلية ردع.
* هل أنت مع فكرة سن قوانين خاصة بمكافحة الفساد وإنشاء محاكمات خاصة بذلك؟
** لدينا فى مصر نقص فى الإطار التشريعى فيما يتعلق بقضايا الفساد؛ فلا يوجد هيئة مركزية تقوم بالتكامل ووضع الخطط لمواجهة الفساد، أيضًا لا يوجد قانون يحمى المبلغين والشهود على قضايا الفساد.
ثانيًا: نحن فى حاجة لقانون "تضارب المصالح" لكل من يعمل فى المراكز القيادية بالدولة، وهناك خبرات دولية فى ذلك يمكن الاسترشاد بها.
ثالثًا: نحن فى حاجة لقانون الحق فى تداول المعلومات والاطلاع والشفافية، فتكون قواعد البيانات فى أجهزة الدولة متاحة لجميع المواطنين، ونحن فى حاجة إلى إعلان الأوضاع المالية، ففى الولايات المتحدة الأمريكية يمكن أن تحصل على أى معلومات وأى معاملات مالية لأى جهة ومدى إنفاقها وأوجه إنفاقها وأوضاعها المالية.
كما يجب ضرورة تغليظ العقوبات الخاصة بالفساد، بحيث يمكن رفع سقف العقوبة إلى الإعدام والأشغال الشاقة المؤبدة، فمثلًا هناك نوعية من جرائم الفساد فى الصين تصل العقوبة الخاصة بها إلى الإعدام فلماذا لا نفعل مثلها، وفى بعض الدول أنشئت نيابة مستقلة لقضايا الفساد وفى بعضها أنشئ قضاء مستقل؟ والحجة فى ذلك أن قضايا الفساد فى حاجة إلى خبرة وهى ليست متوفرة فى القضاة العاديين، فأحيانًا يكون بها شئون مالية معقدة، فضلًا عن أن القضاء المصرى بطىء والعدالة البطيئة فيه ظلم بيِّن وبالتالى نحن فى حاجة إلى محاكمات خاصة بالفساد.
* وهل هناك سبل أخرى لمكافحة الفساد؟
** تقدمت باقتراح لحكومة الدكتور عصام شرف بناء على طلبهم، وهو تشكيل لجان جماهيرية منتخبة أو منتقاة بعناية، تباشر دور المتابعة والرقابة على دور الأجهزة الإدارية ذات المهام الحساسة والتى تحمل أهمية وخطورة، بحيث تقوم بدور الرقيب ومنع ومحاربة الفساد، ويتم اختيار أعضائها من المهنيين والمثقفين والشباب بحيث تحمل توازن وتقوم على أساس تطوعى، وهناك عدد من هذه اللجان بدأ يتشكل فى محافظة الجيزة التى يوجد بها بعض اللجان الشعبية تقوم بدور المراقبة ومتابعة سير المخابز وسيارات الغاز وأماكن تواجدها وهل تباع فى السوق السوداء.
* ماذا عن وضع مصر على المؤشرات التى تقيس الفساد؟
** تأرجح موقع مصر على مؤشر الشفافية فى تقرير منظمة الشفافية الدولية عن "مقدرات الفساد" ما بين (2.8 إلى 3.1) من 10، وجاء ترتيبها بين الدول إلى عام 2010 رقم 98 من 178 دولة على مستوى العالم، وحصلت فيه على 3.1، وفى عام 2011 هبط التقييم إلى 2.9 والترتيب تراجع وأصبح 112، وبالتالى تزايد معدل الفساد، وجاءت نيوزيلاندا الدولة رقم 1 فى معدل الفساد بنسبة 9.6.
كما احتلت مصر على مؤشر النزاهة العالمية – وهو مؤشر يصدر من واشنطن ويقيس مدى قابلية الأجهزة فى الدولة واستعدادها للفساد - خلال الفترة من 2006 حتى 2010 على مؤشرات ضعيفة على مستوى النزاهة؛ ففى عام 2010 حصلت على 54 % وهذا -وفق التصنيف- ضعيف جدًا، وفى 2008 حصلت مصر على 54% "ضعيف جدًا"، وفى 2007 حصلت على 53% "ضعيف جدًا".
وقدرت المنظمة حجم الأموال المهربة للخارج بطريقة غير مشروعة أنه وصل فى الفترة من 2008 إلى 2012 وفقًا للدراسة لـ 57.2 مليار دولار فى المرتبة 21 على مستوى العالم، بينما تأتى الصين فى المركز الأول فى حجم الأموال المهربة.
كما أن هناك أربعة دول عربية ضمن العشرة الأوائل فى معدل تهريب الأموال، مثل السعودية التى تحتل المرتبة الرابعة والإمارات والكويت وقطر.
وفى تقديرى أن حجم الأموال التى هربت بطريقة غير مشروعة خلال تلك الفترة قد يتجاوز الرقم الذى أعلنته المنظمة؛ لأنه خلال الفترة الأولى من الثورة وما قبلها مباشرة سمعت تقارير من بعض المسئولين فى البنوك الأجنبية تقدر تلك الأموال بأكثر من ذلك.
وهناك مؤشرات أخرى تابعة للبنك الدولى تسمى بـ"مؤشرات الحوكمة" ومصر احتلت وضعًا سلبيًّا فيها، خاصة فيما يتعلق بالحريات والمشاركة والمسائلة السياسية " Participation and political accountability"، حصلت مصر على 2.1، وهذا المؤشر يتراوح ما بين " - 2.5 إلى + 2.5 ".
* هل نحن فى حاجة للإشارة إلى مكافحة الفساد فى الدستور الجديد؟ وما هى مقترحاتك فى ذلك؟
** نعم بالطبع فلا بد أن تكون هناك إشارة واضحة إلى هيئة للنزاهة والفساد فى الدستور الجديد؛ حتى لا تخضع للأهواء والمقاومة والتقلبات، ففى دستور جنوب إفريقيا يشير إلى مبادئ أساسية للنزاهة والتى تقوم عليها أجهزة الدولة، كذلك دستور المغرب الذى حدث مؤخرًا فى أعقاب الحراك السياسى، واشتمل على توسيع دائرة الحريات واستحدث أجهزة للحوكمة على المستوى الوطنى، ومن هذه الأجهزة كان هناك هيئة تسمى "الهيئة المركزية للوقاية من الرشوة" منذ عام 2008 ولكن كانت من دون صلاحيات، ولكن فى الدستور تم تعديلها والإشارة على الهيئة فى الدستور، وبالتالى أصبح للهيئة وضعية دستورية فى نص دستورى حاكم لها يعطيها الصلاحية ويحدد أدوارها ووظائفها، وتوسعت اختصاصاتها وأصبحت تسمى الآن "الهيئة المركزية للوقاية من الرشوة ومكافحاتها".
كما لا بد أن يشار فى الدستور الجديد من خلال مواد محددة إلى ضمانات لاستقلالية الهيئات التى تختص بمكافحة الفساد وهذه ليست بدعة، فالعراق مثلًا لديه "هيئة النزاهة" منذ 2004 وهى لها وضعية دستورية وأنشأتها سلطة التحالف! رغم كم الفساد الكبير فى العراق؛ إذ تحتل المرتبة 175 من 182 عام 2011 أى من أسوأ الدول فى الفساد.
المصدر: المحيط
Navigate through the articles | |
د.يحيى القزاز يكشف أسرار النهب المنظم لذهب منجم السكري | أغلبية البرلمان القادمة للإسلاميين |
التعليقات تخص صاحبها ولا تخص ادارة الموقع
|