المقالات و التقارير > مفارقات الفتن..من العبث بالطير إلى العبث بالبشر

مفارقات الفتن..من العبث بالطير إلى العبث بالبشر

المجتمعات التي تعاني من التخلف زمنا حتى تألفه، تبتدع تصرفات فيه تُرسِّخه، و لا يكاد السويّ يستغرب شأنا حتى يعاجله المتخلفون بما هو أغرب، و حين تشيع في لغة التخاطب ألفاظ تدعوك إلى اعتياد ما تستهجنه، بحجة أن جميع مَن عداك عليه، و أنك تشذّ عنهم باستقامتك: فاعلم بأنّ الأمر قد تدنّى إلى أبعد حد يمكن تصوّره.

يدرك العاقل أن حياة الهزل يعتريها عبث كثير، لكن العبث يأخذ أبعادا أخرى حين يخالطه أذي للأغيار، أو حين يطبعه عنف يتسلّى به أصحابه، قد يبدأ بالإساءة للجماد أو الحيوان، لينتهي إلى العبث بأرواح البشر.
أخرج الإمام أحمد(39/465شاملة) و النسائي(13/455) و ابن حبان(24/328)عن الشريد قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" من قتل عصفورا عبثا عج إلى الله عز وجل يوم القيامة منه، يقول: يا رب إن فلانا قتلني عبثا ولم يقتلني لمنفعة."
و أخرج الحاكم (6/ 357)عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" إن أعظم الذنوب عند الله رجل تزوج امرأة، فلما قضى حاجته منها طلقها وذهب بمهرها، ورجل استعمل رجلا فذهب بأجرته، وآخر يقتل دابة عبثا." قال الحاكم عقب إخراجه:"هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه."
و قال الشافعي:"...فهذا دليل على أن الصيد الذي نهى الله المحرم عن قتله، ما كان يحل أكله من الصيد، وأنهم إنما يقتلون الصيد ليأكلوه لا عبثا بقتله."( معرفة السنن والآثار للبيهقي (15/ 227)
و أخرج أبوداود(7/ 280) عن عبد الله بن مسعود قال:"كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فانطلق لحاجته، فرأينا حُمَّرة(طائر صغير) معها فرخان، فأخذنا فرخيها فجاءت الحمرة فجعلت تفرُش(ترفرف بجناحيها) فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها..."
قد يكون شعارا يعبر عن حقيقة هذا الدين ذلك الحديث الذي نحفظه من غير أن نتقلده و نعمل به:" إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا يُنزع من شيء إلا شانه." فإذا أُضيف إليه النهي عن العبث وجب علينا أن ندرك أننا نحن الذي نستجلب عداء الآخرين لهذا الدين، و بخاصة حين يكون هذا الآخر جادا ومسالما.
هناك في مجتمعاتنا من يعبث بكل شيء، و في بعض فترات الفتن وصل التفنن في العبث إلى قتل البشر من غير سبب، و إلى التمثيل بجثثهم تنفيسا عن أحقاد ما كان الأسوياء يبلغ دركها عاقل، فضلا عن مسلم يصلي لله خمي مرات في اليوم، نم نرمي الآخرين بتشويه سمعتنا و الإساءة إلى ديننا، في الوقت الذي وصلت فيه مواطآتهم إلى حد إنشاء جمعيات للرفق بالحيوان، و أُخبرت أن بعض الكلاب دُرِّبت على احترام إشارات المرور ! و نحن هنا نتكلم عن المجتمعات المدنية، التي ليست لها مصالح الحكام و لا مخططاتهم، و قد عُرفت بمواقفها الإنسانية، و لسنا نتكلم عن السلطات الحاكمة في الغرب، حتى لا يسارع البعض إلى معزوفة التآمر، التي بتنا نشهرها في وجه كل من يذكر الغرب بمحاسن، أو إلى مقولة أنّ الذي يرفق بالحيوان هو الذي يرسل على المستضعفين طائراته تدكهم دكا.
الحديث لا ينهى فيه النبي صلى الله عليه و سلم عن العبث بقتل العصفور فحسب، بل يذهب في استبشاع الفعل و التنفير منه إلى حد أن يجأر العصفور لربه يوم القيامة بالشكوى، من عابث لم يقدر النعمة قدرها.
إن الدين الذي يحذر أتباعه من الشجر أن يُقطع و لو في الحرب، و من الحيوان أن يقتل من دون سبب-إلا لإشباع رغبة دنيئة أو شغل فراغ-: يصعب تصديق أن يصل منتسب إليه إلى قتل نفس بغير حق، إلا بمبرر قوي أو تأويل سائغ، فما بال طوائف هذه الأمة تتغنى بالجهاد ضد الكفار شرعة في كل حال، تبيح لنفسها-حين لا تقوى عليه ضد الكافر الذي لا خلاف حول كفره-أن ترتدّ "بعبثها الجهادي" إلى المسلمين، و ألا تكتفي بذلك حتى "تزينه" بالتمثيل بالجثث، في مفارقة عجيبة من مفارقات الفتن: أن يدركنا زمن نرى فيه مثل هذه البشاعات، و الدين الذي نتبجح بالانتماء إليه يحرم كل إساءة عابثة، و لو كانت باتجاه دابة لا تعي و لا تعقل؟!

البصائر


Navigate through the articles
Previous article سيناء... بأى ذنب أهملت؟! أربع خبراء فرنسيين يستعرضون تعقيدات نشر قوات في مالي Next article
التعليقات تخص صاحبها ولا تخص ادارة الموقع