المقالات و التقارير > المقاومة، الاستكبار والاقتصاد

المقاومة، الاستكبار والاقتصاد

الجزء الأول: التبعية، مظاهرها و نتائجها
عند الحديث عن الاستعمار والمقاومة، غالبا ما يتبادر في أذهاننا البعد العسكري، وصور الدمار، والدماء. وهذه الصور قد تشكل الفهم الشامل لهذين المفهومين في أذهان غالبية الناس.
والحقيقة أن هذه الصور هي مظهر من مظاهر المقاومة والاستعمار، والمقاومة بشكل عام هي رد فعل رافض لفعل الاستعمار بشكل خاص، والاستكبار بشكل عام. وكلما كانت ردة الفعل بما يتناسب مع قوة الفعل، كلما فشلت حركة الاستعمار واندحرت، وتفشل المقاومة عندما لا ترد بالقوة المناسبة للهجمة الاستعمارية. والأمثلة التاريخية كثيرة للدلالة على هذه النقطة التي منها ما مر من تجارب فاشلة لكبح الزحف الفرنسي لاحتواء كل القطر الجزائري بسبب أساليب هذا الأخير والتي شملت المكر والخداع، ونقض العهود، ونشر الفتن، والنعرات بين القبائل الجزائرية، والتجويع، والتفقير، وفرض ضرائب باهضة، ومصادرة الأملاك، وحرق الغابات، والمزارع، والبساتين، والذي أدى إلى انتشار الأوبئة، والمجاعات في حوادث وثقها "الشيخ عبد الرحمان الجيلالي" في كتابه "تاريخ الجزائر العام"، ما أدى إلى إضعاف المقاومة الجزائرية للاحتلال الفرنسي، الذي تمكن مع مرور الوقت من إحكام سيطرته، بتواجده في أغلب الأرض الجزائرية، حتى حين اندحاره.

والسبب يعود إلى نوعية وأساليب المقاومة في الرد على الحملات الاستكبارية[1]، إذ أن الاستكبار لا يعتمد الأسلوب العسكري المباشر فحسب، بل يتعدى ذلك إلى استخدام أساليب متعددة ومتنوعة، منها الأسلوب المخابراتي، وسياسة الاغتيالات، والأسلوب الإعلامي، وبث الشائعات في إطار ما يسمى بالحرب النفسية، والأسلوب الاقتصادي كفرض الحصار، واستهداف المنشئات الاقتصادية، والاحتكار.

هذه الأساليب وغيرها مجتمعة تشكل القوة الاستكبارية التي يجب على أي حركة مقاومة -إن أرادت النجاح- الوعي بها، والرد عليها بنفس المستوى من القوة والتنوع. وكذا كان حال المقاومة الجزائرية وغيرها من المقاومات عبر التاريخ، أين ساعد وعي المقاومة بأساليب الاحتلال الفرنسي، وتعلمها من دروس الماضي، أن تجد وسائل ملائمة لمواجهة الأساليب الاستعمارية غير التقليدية.

وهدف هذا المقال ليس الإسهاب في ذكر هذه الأساليب وتعدادها، وإنما التركيز على الأسلوب الاقتصادي كأداة لترسيخ الفكرة الاستكبارية في أذهان الشعوب المستضعفة، وإحكام السيطرة عليها، وجعله السلاح الأكثر فعالية لإفقادها عزتها وحريتها، برغم ما تنعم به من امتيازات الاستقلال السياسي.

والاقتصاد كوسيلة استكبارية لا تحتاج إلى أسلحة فتاكة، ولا إلى جيوش وقرع طبول الحرب، وإنما تحتاج فقط إلى جهل الشعوب المستضعفة بأهمية القطاع الاقتصادي ونشاطاته في تحقيق كامل حريته واستقلاله بقراره و مصيره، وهذا ما شخصه أيضا الأستاذ "مالك بن نبي" في مؤلفه القيم "المسلم في عالم الاقتصاد"، إذ اعتبر أن غياب الوعي الاقتصادي في حياة المسلم جعله مسخرا لكل ما يريده الاستعمار، ومقلدا له، وبالتالي فقد أصالته ومن ثم وعيه الحضاري. و هذا يعبر عن التبعية الاقتصادية لكل ما هو أجنبي وغربي بالخصوص. إذن فهدف هذا الجزء من البحث هو استعراض أبعاد ومظاهر التبعية الاقتصادية و من ثم نتائجها.

بداية أم نهاية استعمار؟
بعد الحقبة الاستعمارية التي انتهت منذ ستينات القرن الماضي، لا نكاد نجد بلدا مستعمرا سابقا إلا وقد وقع في فخ التبعية الاقتصادية للدول الرأسمالية الغربية، والتبعية الاقتصادية كانت مشكلة منذ اليوم الأول من تحرير هاته البلدان من الاستعمار، حيث أنها خرجت باقتصاد منهار، ومفتقرة لكل مقومات النشاط الاقتصادي المنتج، والمحقق لآمال الشعوب، كانعدام كلي للبنى التحتية، والعلوم والمعارف التي بها تنشط الحركة الاقتصادية. وإن بحثنا في أسباب هذه التبعية لوجدناها كثيرة ومتشعبة، ولكن يمكن حصرها في سببين رئيسين: الأول: له علاقة بنهج المقاومة، والأسلوب الثوري، الذي أعتمد لمواجهة الاستعمار، وتحرير الأرض. والثاني: له علاقة بالمستعمر، وما تسبب به من فقر وتخلف لهذه الشعوب.

بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية حدا لصراع دموي راح ضحيته الملايين من الضحايا، كان للأفكار التحررية، ودعوات الاستقلال أنصارا في أوساط شعوب الدول المستعمرة في آسيا وجنوب إفريقيا، وكانت حركات المقاومة المسلحة تندلع الواحدة بعد الأخرى، إلى أن نجحت في تحقيق الاستقلال السياسي. والمميز لهذه الحركات هو نهجها في المقاومة، إذ اعتمدت الحضور الدبلوماسي إلى جانب الأسلوب العسكري، ومواجهة القوة بالقوة، اعتقادا بأن المهم والأولى هو تحقيق الاستقلال السياسي، الذي يعتبر البوابة لتحقيق آمال شعوب هذه الدول، وبالخصوص النهوض باقتصادها واسترجاع حقوقها في استغلال خيراتها الطبيعية، التي طالما حرمت منها. وفي الوقت الذي نجحت معظم المقاومات بجلب الاستقلال السياسي، إلا أن شعوب هذه الدول لا زالت تعاني من مشاكل اقتصادية كبيرة وتصنف –كما هو شائع عند المفكرين الرأسماليين- ضمن خانة الدول المتخلفة، أو دول العالم الثالث، وكانت أي محاولة لنهضة اقتصادية تفشل في الكثير من الأحيان، إذ ما إن دخلت هذه الدول لعالم الاقتصاد والبناء حتى تبين أن الخبرة تنقصها في الشؤون الاقتصادية. خاصة وأن الدول الرأسمالية كانت محتكرة لحركة رؤوس الأموال الدولية عن طريق المؤسسات الدولية والإدارات المالية العالمية. أضف إلى ذلك، أن العديد من الاتفاقيات التي أبرمت في إطار التعاون بين الدول المستقلة ومستعمريها لم تكن إلا تكريسا لبقاء الدول الرأسمالية في مستعمراتها، مزاولة نشاطاتها الاقتصادية، ومستمرة في استغلال خيرات هذه الدول بأسعار تفضيلية.

أما السبب الثاني، يعود إلى طريقة تعامل الدول الاستعمارية والرأسمالية مع مستعمراتها، إذ عملت على إرساء قواعد التبعية لها، فمثلا، نظرة المستعمر لوجوده في تلك الدول -كما أشار إليها الباحثون آسيموغلو، جونسن، وروبينسون في مقالهم- كانت نظرة استغلال للثروات وليست نظرة بناء و تنمية، وهذا ما كان واقعا للجزائر، كما عبر عن ذلك الأستاذ "مولود قاسم نايت بلقاسم" بإطلاق صفة الاستدمار على المحتل الفرنسي آنذاك، وهذه النظرة تفسر حاجة الاستكبار للاستعمار، وهي ببساطة حاجة اقتصادية تعكس الطمع في خيرات الغير واستغلالها بصورة غير أخلاقية. هذا ما يفسر أيضا غياب الهياكل الاقتصادية الحيوية، أو تدميرها عند خروج المستعمر مندحرا، إلى جانب غياب البنى التحتية الضرورية لمزاولة أي نشاط اقتصادي، مما فاقم المشاكل الاقتصادية على الدول حديثة الاستقلال.

لم يكن تدمير المقومات الاقتصادية الأسلوب الوحيد المعتمد لتكريس التبعية، وإنما كان للشق الفكري والثقافي نصيب، هذا الأخير ساعد على استمرارية هذه التبعية و حد من أي محاولة فكرية وعلمية للقضاء على هذه التبعية، وشمل احتكار الاستكبار للمعارف والعلوم اللازمة لبناء اقتصاد متين، والتكنولوجيا التي تساهم في خفض تكاليف الإنتاج وزيادة الإنتاجية، بل وحتى تحسين النوعية، والأكثر من ذلك، لم تتوانى دول الاستكبار في الترويج لفكرة أفضلية المنتوج الغربي وتوافره على المعايير الدولية في أوساط مجتمعات الدول المستضعفة، ولهذا كله انعكاسات خطيرة على الاقتصاد المحلي إذ ستؤدي هذه العوامل إلى الضعف التنافسي لمنتوج الدول المستقلة حديثا في الأسواق الدولية والأسواق المحلية لها، وبالتالي تضرر المنتج المحلي الذي سينعكس على قدرته على البقاء في العملية الاقتصادية، ومنها على العمال الذين قد يواجهون مشكلة البطالة، في حال إفلاس وحداتهم الإنتاجية. وللأسف، فبدل إيجاد وسائل وسياسات تحمي المنتوج المحلي وتقوي من قدرته التنافسية، عمدت الكثير من الدول النامية على تبني المنهج الرأسمالي، وفتح الأسواق، ونأت بنفسها عن التدخل في النشاط الاقتصادي في تكريس واضح للتبعية.

المؤسسات الدولية والتبعية
التبعية الاقتصادية لم تكن نتيجة تقصير الشعوب والحركات المقاومة فحسب، بل كانت أيضا بتدخل مباشر من دول الاستكبار العالمي، حماية لمصالحها، وطمعا في خيرات هذه الشعوب. وتمادي الاستكبار إلى درجة أنه استغل المؤسسات الدولية لكسر كل مقومات الاستقلال الاقتصادي، ومحاولة جر كل الدول -النامية منها بالخصوص- إلى تبني نظام اقتصاد السوق، وفتح الحدود لتشجيع التجارة الحرة، والتكامل الاقتصادي العالمي، كما تروج له منظمة التجارة العالمية. ولكن هل هذه المبادئ تساعد على القضاء على التبعية الاقتصادية؟ أم تعمل على تكريسها؟

بعد انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية، قامت مؤسسات دولية تتولى زعامتها الدول المنتصرة، بهدف معلن هو حماية السلام العالمي، وقيادة العالم تحت نظام عالمي مبني على أنقاض النظام السابق. فمنها كانت سياسية، كالأمم المتحدة، ومنها من كانت ذات طابع اقتصادي ومالي، كصندوق النقد الدولي، ذو الطابع المالي والنقدي ورئاسته أروربية، والبنك العالمي، ذو الطابع الاقتصادي الإنمائي ورئاسته أمريكية. يهدف الأول إلى إرساء التعاون النقدي بين الدول الأعضاء، والعمل على حفظ التوازن الاقتصادي والمالي وتشجيع النمو الاقتصادي لدول العالم، إلى جانب وضع القوانين الكفيلة بتسيير الشؤون المالية العالمية والنظام النقدي الدولي، الذي في إطاره يحصل التبادل الاقتصادي بين دول العالم، و هذا أيضا يشمل مساعدة الدول الأعضاء على تخطي الأزمات الاقتصادية والمالية، بإعطائها قروض تساعدها على بناء اقتصادها. أما البنك العالمي فمهمته تنموية بدرجة أولى، ومن مهامه أيضا، مساعدة الدول السائرة في طريق النمو على التنمية ومحاربة الفقر.

كلا المؤسستين ترعيا برامج قروض للدول النامية أو التي خرجت من حرب مدمرة، لإعادة بعث عجلة التنمية و بناء اقتصادياتها، و من أهم شروط الحصول على هذه القروض هو التزام الدولة القابضة بإدراج برامج تغييرات أو إصلاحات هيكلية تهدف لضمان صرف القرض في إطار الهدف المتفق عليه، وتقليص الاختلالات في ميزانياتها، والالتزام بهذه التغييرات الهيكلية هو أهم شرط للحصول على هذه القروض، فضلا عن دفع فوائدها الباهضة.

هذه التغييرات الهيكلية عبارة عن مجموعة إصلاحات تمس الإطار والنظام الاقتصادي للدول الطالبة للقرض، وهي عادة ما تكون متصلة بعلاقة الحكومة بالنشاط الاقتصادي، ومدى تدخلها فيه، وكيفية تسييرها للتجارة الخارجية. وأهم الإصلاحات التي يشترطها البنك العالمي وصندوق النقد الدولي هي:

ما هو داخلي مثل: خوصصة القطاعات الإنتاجية، وفتح المجال للخواص للاستثمار فيها، وإلغاء القوانين التي تسير النشاط الاقتصادي، خاصة على مستوى البنوك والأسواق المالية، إلى جانب إلغاء سياسات الدعم الحكومي للأسعار.

ومنها ما هو خارجي مثل: التقليص من القيود على حركة السلع والخدمات، وفتح الأسواق للمنتوج الخارجي.

وظاهر هذه السياسات هو مساعدة الدول النامية على النهوض باقتصادياتها، ولكن الأمر لا يعدو كونه تغييرا إيديولوجيا لشعوب هذه الدول، وجرها إلى الليبرالية، بدءا بتبنيها نهجا اقتصاديا رأسماليا.

و لو أمعنا النظر في مثل هذه الإصلاحات، لوجدناها غير منصفة للدول النامية، فالدول النامية في اغلبها تتمتع بثروات طبيعية مهمة وحيوية للنشاط الاقتصادي. وبدل مساعدة هاته الدول على استخدام مواردها بالشكل الذي يساعدها على بناء اقتصاد قوي وتحقيق الاكتفاء الذاتي، نجد أن سياسة فتح الحدود التجارية، وتعديل القوانين، وعدم تدخل الحكومات في النشاط الاقتصادي، ما هو إلا تمهيد للاستغلال البشع والمقنن لقوى الاستكبار لموارد هذه الدول بتكلفة أقل بكثير مما لو كان هناك تبادل تجاري بين الجهتين. والطريف المحزن في الأمر أن الكثير من شركات النفط العالمية تستخرج النفط بتكلفة تصل إلى أقل من عشر دولارات للبرميل الواحد، تصدره إلى دولها ثم تنتج به منتجا نهائيا ليباع في أسواق هذه الدول الغنية بالنفط تحت عنوان الانفتاح على التجارة العالمية، وبالتالي سياسة الانفتاح هذه قضت على فرص اقتصادية كان للدول النامية أن تستغلها لصالحها، كما أنها قضت على قدرات قطاعها الإنتاجي التنافسي حتى في أسواقها المحلية، ما تسبب في غلق الكثير من المنشئات الاقتصادية ذات النشاط الحيوي لها، والتسبب في ارتفاع نسب البطالة. وبدل التقليل من آثار الفقر، ارتفعت معدلاته.
ولم تقتصر آثار هذه البرامج على الجانب الاقتصادي فقط، بل تعدته إلى آثار سياسية، من تدخل في السيادة والقرار المستقل لهذه الدول، إذ بعد حصولها على هذه القروض تملي هذه المؤسسات على الدول النامية مستوى تدخل حكوماتها في النشاط الاقتصادي، وسن القوانين المؤطرة له، فمنه ما يشتمل على إغلاق المؤسسات المفلسة وعدم دعمها، مما يؤدي إلى تسريح العمال وإحالتهم على البطالة، و تحديد النفقات الحكومية الذي يحرم الكثير من العائلات والمجتمعات من خدمات اجتماعية كانت ذات فائدة في تحسين مستواهم المعيشي وتحقيق حياة كريمة، وإلغاء سياسة دعم الأسعار الذي يؤثر سلبا على القدرة الشرائية. وإن سلمت الحكومة لشروط تمس سيادتها واستقلالها في اتخاذ قرارات تتناسب وحاجة شعبها ولا تقدر على تسيير اقتصادها وشؤونه، أو وضع اسس سياستها الاقتصادية بنفسها، والالتزام بتوفير الحياة الكريمة لشعبها، فهي دولة ناقصة السيادة، إن لم تكن معدومة لها.

السياسات الاقتصادية العالمية المجحفة في حق الدول المستضعفة التي نمت في أحضان البنك العالمي وصندوق النقد الدولي، وأزهرت بميلاد منظمة التجارة العالمية، التي تدعوا إلى الانفتاح الاقتصادي و إلى إنشاء مناطق للتبادل الحر، جرت الكثير من الحكومات إلى الغرق في التبعية والتقليد، بل حتى ساهمت في إحداث تغيير فكري لشعوب هذه الحكومات. فمن بين هذه الشعوب من استسلم وانهزم، ومنها من ثار وتظاهر و ندد. وتبين أن هذه المؤسسات خيبت آمال الكثير من الشعوب ودفعتها للخروج في تظاهرات منددة بهذه المؤسسات كلما كان اجتماعا مهما لها، مثلما حصل في آخر اجتماع للدول الثماني الكبرى، والذي تلاه اجتماع الدول العشرين الكبرى، أين خرج الآلاف منددين بقادة هذه الدول، والثورة على "وول ستريت" بأمريكا، وما يحصل في اليونان وإسبانيا من رفض لشروط صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي، تعبيرا عن سخطهم وتذمرهم والذي كان عنيفا إلى حد ما وبشكل غير مسبوق. والملفت للأمر أن من تظاهر هم شعوب هذه الدول المستكبرة، والذي يظهر أن آثار هذه المؤسسات لم يكن وبالا على شعوب الدول المستضعفة فحسب، بل بدأت آثاره السلبية تنعكس على شعوب دول كانت هي السبب في استعباد واستغلال شعوب مستضعفة مظلومة. وفي هذا الإطار عبر الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد "جوزيف ستيغليتز"[2] عن عدم رضاه وسخطه عن أداء البنك العالمي والإدارة الأمريكية في تسيير الاقتصاد العالمي، وعن السياسات التي تم تبنيها، ويرى في هذه الصدد أن القرارات الاقتصادية التي كان من المفروض أن تجعل من العولمة سببا للقضاء على الفقر في العالم الثالث وتحقيق التنمية والرفاهية لهذه الشعوب، فشلت فشلا ذريعا في ذلك، لأنها لم تكن قرارات علمية مدروسة، بل كانت قرارات ذات خلفية سياسية وإيديولوجية، ولم تكن إلا لخدمة أهداف ومصالح أصحاب القرار والسلطة في الإدارة الأمريكية والبنك العالمي.

ماذا بعد؟
رأينا فيما سبق أن للتبعية جذورا تاريخية استعمارية تجلت في السلوك الاستعماري، وأيضا في الخيارات الاستراتيجية للمقاومة آنذاك، كما رأينا أن التبعية الاقتصادية لها جذور مؤسساتية رسخت لها. حيث استعرضنا بعضا من آثارها ومظاهرها، وأشرنا إلى البعض من نتائجها التي منها، سخط شعوب الدول المستضعفة وشعوب الدول المستكبرة على حد سواء، ما يهدد بالثورات والتوترات السياسية. وبغض النظر عن الأحداث الراهنة، تبقى التبعية الشبح المخيم على الشعوب المستضعفة، التي ما إن نجحت في تحرير أراضيها حتى عاشت خيبة الأمل في العيش بكرامة ورفاه في وطنها، متنعمة بخيرات بلادها، نتيجة للتبعية الاقتصادية، وما لها من آثار اجتماعية وسياسية. ولهذا صارت المجتمعات الثائرة على هذا الوضع تتطلع لمقاومة الهجمات الاقتصادية للاستكبار، والثورة على ظلم النظام العالمي لها بالدعوة الى اقتصاد المقاومة. ولكن تغلغل الأنظمة الاستكبارية في الدول المستضعفة واختراقها لكثير من مؤسساتها جعلت المقاومة الاقتصادية أكثر صعوبة و تعقيدا. وهذا موضوعنا في الجزء الثاني الذي سنتطرق فيه إلى النظرة الاستراتيجية للاستكبار في تقديم المساعدات للدول النامية والمستضعفة، أي سياسة الإغراء والترغيب، وسياسة العقاب لكل من عارض وقاوم لنتمكن من بناء رؤية واضحة عن اقتصاد المقاومة.

المصدر / موقع الرواسي

________________________________________
الهوامش :

[1] نستخدم لفظة الاستكبار في هذا المقال للتعبير بشكل عام عن أي حركة عدوانية تتعرض لها دول أو مجتمعات في صورة تدخل عسكري مباشر أو غير مباشر وصور أخرى غير عسكرية من قبيل الحصار الدبلوماسي وفرض العقوبات الاقتصادية وغيرها. ولأن الاستعمار هو شكل من أشكال الظلم والعدوان فإننا في هذا المقال نطلقه على شكل خاص من الاستكبار و هو احتلال دولة لدولة أو بلد آخر. وفي مقابل الاستكبار نستخدم مصطلح الاستضعاف أي الشعوب المستضعفة للإشارة للشعوب التي تواجه عدوانا وظلما يلحقها من الدول المستكبرة. وفي مواقف أخرى سنعبر عن الدول المستضعفة بالدول النامية تماشيا مع مضمون الموضوع.

[2] جوزيف ستيغليتز عالم اقتصاد أمريكي، حصل على جائزة نوبل في الاقتصاد. و خدم في البيت الأبيض كمستشار اقتصادي للرئيس كلينتون. كان عضوا في مجلس الخبراء الاقتصاديين الرئاسي الذي عينه كلينتون والذي ضم ثلاث اقتصاديين. إضافة إلى هذا عمل كمدير اقتصادي في البنك العالمي ونائبا لمديره.
 


Navigate through the articles
Previous article حول «الجمعية التأسيسية» و«الليبرالية» و«الشريعة» الجزائر في قلب معركة دبلوماسية لإرسال جيشها إلى مالي Next article
التعليقات تخص صاحبها ولا تخص ادارة الموقع