لا شك أن كثيرًا من أعضاء «الجمعية التأسيسية للدستور» سيشعرون بالغيرة عندما يعلمون أن من صاغوا الدستور الأمريكي قاموا بمهمتهم في سرية تامة بعيدًا عن الإعلام والحوار المجتمعي.
في مايو 1787 اجتمع 55 ممثلًا لـ12 ولاية في مداولات سرية استمرت شهورًا إلى أن خرجوا بمسودة دستور فيدرالي لـ«الولايات المتحدة الأمريكية». أقسم أعضاء الجمعية التأسيسية للدستور الأمريكي على إبقاء مداولاتهم سرية مدى الحياة، وعند نهاية عملهم، سلم كاتبو المحاضر أوراقهم إلى جورج واشنطن، رئيس الجمعية وأول رئيس للولايات المتحدة، الذي أوكلت إليه مهمة التخلص من الأوراق حتى تظل المناقشات التي دارت طوال تلك الشهور الخطيرة سرية أبد الدهر.
أما عن السبب الذي دعا «الآباء المؤسسون» إلى الإصرار على السرية التامة للمداولات، فلا شك أنه كان الرغبة في إضفاء هالة من القداسة على وثيقة أُريد لها أن تبدو، على خلاف الحقيقة، كنص خارق كتبه «أنصاف آلهة» كما وصفهم توماس جيفرسون، كاتب إعلان الاستقلال الأمريكي وثالث رئيس للولايات المتحدة.
لكن سوء طالع كُتّاب الدستور المصري في 2012 جعل مداولاتهم، التي تدور في وضح النهار وسط صراع سياسي هائل، تبدو كعمل سقيم يفتقر إلى أي قدسية، رغم محاولة البعض تحصين الدستور دينيًا بتنصيب ميراث قانوني فكري مختلف على كثير من أحكامه اسمه «الشريعة الإسلامية» كحكم عليه من خارجه، ومحاولة البعض الآخر فعل شيء شبيه باسم الليبرالية السياسية التي «أرست مبادئ عالمية لا يجوز الاختلاف عليها للحكم وحقوق الإنسان».
فضيلة السخرية
قد يظن البعض أن الخلافات المستحكمة حول الدستور المصري والسخرية من لجنته التأسيسية علامات سوء تدل على فشل المجتمع في تحقيق التوافق حول نص قانوني/سياسي حاكم بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير، لكني أرى في هذا علامة صحة، على الأقل من بعض النواحي.
فإنزال الدستور إلى مصاف الوثيقة العادية غير المتحصنة بأي قداسة سيساعد على إحباط أي محاولة سلطوية لاعتباره حكمًا يُرجع إليه عند كل خلاف، في حين أنه، هو نفسه، محل خلاف بانحيازه المتوقع إلى مصالح قوى دون قوى، وطبقات دون طبقات.
الدستور المصري محل الصياغة لن يكون أبدًا وثيقة ثورية، بل يؤسفني القول بأنه لن يكون حتى وثيقة إصلاحية محترمة. وأنا هنا لست مشغولًا بتفنيد النصوص التفصيلية للمسودة المطروحة، بل إن ما يهمني هو الحالة الراهنة للثورة وانعكاساتها على موازين القوى بين التيارات السياسية المختلفة.
ولإيضاح ما أقول لابد من البدء بتبديد الوهم السائد القائل بإن الدستور «وثيقة توافقية».
فالحقيقة أن الدستور، أي دستور، «وثيقة صراعية» بامتياز، وهو كذلك ليس لأن كُتّابه أشخاص غير توافقيين أو محبون للنفخ في الخلافات، بل لأن المجتمع بأسره قائم على الصراع بين قوى اجتماعية وسياسية متعارضة المصالح، وكتابة دستور جديد، خاصة بعد ثورة، هي مناسبة لمواصلة هذا الصراع على المستوى الأيديولوجي/ القانوني.
كانت الثورة المصرية في الخامس والعشرين من يناير 2011 قد وجهت ضربة كبرى لنظام الهيمنة الطبقية السائد وللشكل السياسي الذي كان يدير هذا النظام، لكن الثورة، لأسباب يطول شرحها، فشلت في بلورة بديل سياسي يترجم الزخم الجماهيري الطامح إلى العدل والحرية إلى قوة قادرة على تأسيس نظام جديد معبر عن الإمكانيات الكامنة للحركة الثورية.
الآن، وبعد شيوع اليأس من الثورة في أوساط قطاعات واسعة من الجماهير، خلت الساحة أكثر فأكثر للقوى الإصلاحية، المحافظة، الرجعية، واليمينية لتساوم على الثورة وتشتري لنفسها مقعدًا في السلطة في إطار نظام اجتماعي-اقتصادي لا يختلف في شيء عن النظام القديم.
عملية كتابة الدستور الجديد هي واحدة من تجليات هذا الوضع المتراجع للثورة. فمن يكتبون الدستور، ومن يناورون في الخفاء للتأثير على عملية كتابته هم خليط من الإصلاحيين والرجعيين واليمينيين، يتخللهم عدد محدود جدًا من الديمقراطيين الثوريين ذوي النوايا الطيبة والأوهام الكبيرة.
جُرسة التأسيسية
لكن من حسن الطالع أن ضعف الحركة الثورية والقوى الثورية الممثلة لها يقابله، على الجانب الآخر، ضعف في أوساط القوى المعادية للثورة، ولذلك سببان: الأول هو استمرار الغضب والحركة الجماهيريتين في مجالات وعلى أصعدة متعددة، مما منع الثورة المضادة، حتى الآن، من اتخاذ إجراءات حاسمة لتصفية الثورة، وإن لم يمنع الإصلاحيين من تمييعها ومحاولة شراء الوقت وعقد الصفقات.
السبب الثاني هو الضعف الواضح في القوى الإصلاحية والرجعية في علاقتها ببعضها البعض، بحيث لم يتمكن أحدها حتى الآن من الانتصار بالضربة القاضية على الآخرين، وبحيث يظل الصراع، الكامن أو الظاهر، على السلطة هو السمة المميزة للمرحلة.
هذا بالضبط هو السبب في «جُرسة» الجمعية التأسيسية للدستور. إذ لا توجد قوة واحدة في هذا البلد قادرة على التأسيس لهيمنة سلطوية جديدة تحظى بما يُطلق عليه «الرضا الشعبي العام»، ولذا فالسخرية من «التأسيسية» ومن نصوصها المقترحة تُعد انعكاسًا أيديولوجيًا لفشل الطبقات الحاكمة في بلورة نموذج جديد للهيمنة متوافق عليه بين رجالها ونسائها وقادر في الوقت نفسه على إخضاع الجماهير بالرضا وليس فقط بالحديد والنار.
السلطة القديمة ترنحت تحت وطأة الحركة الجماهيرية، لكن السلطة الجديدة لم تتشكل بعد. هذا هو عنوان المرحلة وسر الصراع الذي لا ينتهي الذي تتسم به.
الرؤية الثالثة
وهكذا تتصادم في حوارات التأسيسية رؤى مستهلكة بائدة تنجح أحيانًا في الوصول إلى حلول وسط تلفيقية تظهر في نصوص عرجاء تمنح الحق وتمنعه في الوقت نفسه. فدستورنا المقترح سيحمي الحريات العامة والشخصية، لكنه أيضًا سيحمي القيم والتقاليد المصرية! دستورنا سيحمي حرية الاعتقاد، لكنه سيجعل الشريعة المصدر الرئيسي للتشريع وسيضع الأزهر حكمًا على كل ما يتعلق بالشريعة! دستورنا سيحمي حرية المرأة، لكنْ شرط أن يكون هذا في إطار الشريعة ووفق قواعدها!
وبالنظر مليًا إلى غابة النصوص والمقترحات والتلفيقات، وبمحاولة رد الأمور إلى أصولها، يمكننا أن نكتشف نموذجين متهالكين يتصارعان على صياغة مستقبلنا السياسي. النموذج الأول هو الفردية الليبرالية التي تمتد جذورها إلى التنوير الأوروبي، وبخاصة كتابات توماس هوبز وجون لوك، التي تبدأ من وهم العقد الاجتماعي بين أفراد مستقلين أحرار يصوغون بشكل إرادي قواعد السياسة والحكم. والمشكلة في هذا النموذج، الذي تكاثر عليه النقاد فكشفوا فساده ومحدوديته، أنه يبدأ من فرض وهمي هو حرية واستقلال الأفراد، وذلك بترويج خدعة فكرية تقوم على نزع البشر من سياقاتهم الطبقية والاجتماعية والثقافية، والنتيجة أن الادعاء بصيانة حرية البشر الذي يعدنا به الليبراليون لا تسنده أي تغييرات جذرية في شروط تحقق تلك الحرية ذاتها. الرطان الكثير حول الحرية والمساواة السياسيتين يتعايش بشكل مدهش مع لامساواة اقتصادية واجتماعية أصيلة تعيد إنتاج العبودية كل صباح.
أما النموذج الثاني، الأكثر سوءًا، فقد وُلد كرد فعل رجعي على فشل وعود الفردية الليبرالية، وهو القائل بأن هناك شيئًا أهم من حرية الفرد لتحقيق سعادة الإنسان، وهو الالتزام بقيم جماعة إثنية-ثقافية-دينية ما تمنحنا روعة الاندماج في كيان أكبر يوفر لنا هوية خاصة مميزة، ومن ثم عزة وكرامة، في مواجهة الهويات المعادية الأخرى.
والحق يقال إن هذا النموذج الثاني، الذي يجد صورته الأكثر بدائية في أوساط التيار الرئيسي للسلفيين، لم يبدأ بالإسلاميين ولن ينتهي عندهم. فكثير من التيارات القومية الرجعية تردد كلامًا شبيهًا، بل إن اليسار الوطني، إذا كان لهذه الكلمة من معنى، قد انجرف بشكل بائس إلى نفس النغمة بالحديث عن هوية مصرية أو وطنية تتطلب، مثلًا، الحفاظ على «أمننا القومي في مواجهة المخاطر الخارجية».
لكن الأمر الطريف بشأن هذا النموذج الأخير أن أنصاره – رجال الهوية الإسلامية المتشددين – لا يهتمون مطلقًا باستمرار المضمون الاقتصادي/ الاجتماعي للنظام القائم، هم فقط يريدون إعادة تغليف الاستغلال والسلطوية السائدين في عبوة ثقافية تعبر عن تميزنا! فكأن الاستبداد سيتغير وقعه الفظ على المستبد بهم إن تغير اسمه فأصبح الخلافة!
وهكذا تخضع عملية كتابة الدستور للشد والجذب بين فلسفتين سياسيتين لا تعبران بأي حال عن الإمكانيات الجذرية للثورة، وأغلب الظن أن الشد والجذب سينتهي بتلفيق بائس مؤقت لن يصمد أمام الزمن والصعود الثوري القادم.
لكن ما تحتاجه الثورة، ما يحتاجه التحرر الجذري للإنسان، هو صياغة فلسفة ثالثة تطرح نفسها كبديل قادر على المناطحة، ثم على الهيمنة، خلال مجرى الأحداث. نحتاج إلى فلسفة دستورية تنبني على الاعتراف بأن تحرر الفرد تلزمه شروط اجتماعية واقتصادية لابد من توفرها من خلال الصراع ضد أصحاب السلطة والثروة بهدف التغيير الجذري في علاقات القوة في المجتمع. نحتاج إلى فلسفة دستورية ترفض الهوياتية العدائية وتحتفي بالتنوع الإنساني على أساس من الإيمان بالمبدأ الحاكم القائل بأن «تحرر الفرد شرط لتحرر المجموع، وتحرر المجموع شرط لتحرر الفرد».
الإنسان هو الهوية الأولى التي ينبغي الانتماء إليها قبل غيرها. وعندما أقول الإنسان فأنا هنا لا أقصد الكائن الفرد المتحرر من سياقاته، هذا الوهم الأنثروبولوجي الذي يروج له الليبراليون ليخفوا حقائق الحيادة الحديثة البشعة، بل أقصد تلك الكتلة التاريخية المهيأة موضوعيًا لتبني مشروع يتجاوز أنانيتها الطبقية الضيقة إلى آفاق الإنسانية الكونية الرحبة.
المصري اليوم
Navigate through the articles | |
واشنطن تريد مشاركة الجزائر في العمليات العسكرية بمالي | المقاومة، الاستكبار والاقتصاد |
التعليقات تخص صاحبها ولا تخص ادارة الموقع
|