كل
المؤشرات توحي بأن التدخل العسكري الذي يجري تحضيره في شمال مالي، سيكون حربا عرقية
تأخذ شكل الإبادة الجماعية التي نفذها الجيش الاستعماري في الجزائر، تحت شعار
''عمليات استعادة النظام العام''.
تمنراست، الخميس 22 نوفمبر، حدود منتصف النهار. نحن في البيت الذي استلفه محمد
الكنتي بحي قطع الوادي لبضعة أيام. محمد الكنتي يقول: ''أنا أزوادي وعربي أصيل من
أحفاد عقبة بن نافع''. وهاجر محمد إلى الجزائر، منذ شهر تقريبا، من العاصمة المالية
باماكو. وقد يتساءل القارئ وأي ملاحظ: لماذا فرّ محمد من باماكو، بينما الحرب تجري
في شمال مالي. محمد يجيب على هذا التساؤل: ''أنا شيخ الزاوية القادرية في باماكو،
تحصلت على شهادة بذلك من المجلس الإسلامي المالي، لكن بعدما اندلعت الحرب، لم تبق
لي معيشة هناك. تلاميذي و أتباعي ينتمون لمختلف الأعراق التي تعيش في باماكو ولقد
تمسكوا بي إلى آخر لحظة، حاولوا طمأنتي وإقناعي بالبقاء، لكنني أعلم أنه لم يبق
أمامي سوى المغادرة وأنا الآن في الجزائر، أرضى بما تقدمه لي السلطات الجزائرية
والجزائريون عامة''.
ويسترجع محمد، صاحب الـ41 عاما، ذكريات الحروب السابقة بين الأزواد والجيش المالي،
يقول: ''عندما يصل جيش السوادين إلى أي منطقة لا ينجو فيها لا الأطفال ولا النساء
ولا الشيوخ..''. ولا يخفي محدثنا تعاطفه مع حركة تحرير الأزواد، مع أننا في البداية
تصورنا أن يكون قريبا من الإسلاميين سواء الممثلين في حركة أنصار الدين أو غيرها،
باعتبار حركة تحرير الأزواد قدمتها وسائل الإعلام على أنها حركة لائكية. لكن فهمنا
من محمد أن الوضع في شمال مالي لا علاقة له باللائكية والإسلام ولا بصراع المذاهب
الدينية أو التيارات السياسية المتعارف عليها في أي بلد.. بل هي قضية عرقية. ويوضح
محمد ذلك أكثر عندما سألناه لماذا يسمي الجيش المالي بجيش ''السوادين''؟ فكان جوابه
''أنا أزوادي لكنني لا أخشى السلفيين (يقصد أنصار الدين) ولا القاعدة... بل أخشى
جيش السوادين فقط، إنه يأتي على الأخضر واليابس'' وهنا أدخل كل جيش مجموعة غرب
إفريقيا التي تحضر للتدخل في شمال مالي إلى جانب الجيش المالي. كيف يمكن لشيخ زاوية
معتمد من مؤسسة رسمية في بلاده، أن يروّج لأفكار ويردد أوصافا عنصرية؟ الحقيقة أن
محمد ليس بالمثقف المتخرج من المدارس العصرية أو الفقيه الذي درس في معاهد إسلامية
معروفة.. بل هو شيخ بالتقليد وهو من أعيان قومه، ينقل لنا الأفكار والقناعات التي
ورثها عن آبائه، جراء ما عانوه من ويلات الاستعمار ومن ''حفرة'' في ظل مالي
المستقلة. وما يقوله محمد عن الجيش المالي وتقسيمه للشعب المالي، نجده على لسان كل
ترفي أو مقيم في تمنراست، سواء أكان من جنسية جزائرية أو غيرها. شاب آخر يدعى محمد
أيضا وهو ترفي، يشرح لنا ما تعنيه صفة ''السوادين'' بالنسبة له ''جاؤوا من كوت
ديفوار والسينغال ومختلف البلدان الإفريقية إلى بلاد التوارف..'' وشاب آخر من سكان
تمنراست أمه ترفية وأبوه من مواليد غرداية. أنت إذن من بني ميزاب لا علاقة لك بما
يحدث هنا من صراعات؟ يجيب الشاب: ''لا''. إذن أنت من المالكيين أو الشعانبة ولك
علاقة بالمواجهات التي عاشتها غرداية في إطار هذه التقسيمات القبلية؟ ويجيب مجددا
''لا أنا وسط كل هؤلاء الشعانبة وبني ميزاب والتوارف..''. سعدنا بهذا الرد واعتبرنا
هذا الشاب مترفعا عن الصراعات العرقية والقبلية، لكنه فاجأنا كلما تحدث عن سكان
تمنراست من أصول البلدان الإفريقية المجاورة. إنه يحمّلهم مسؤولية كل الآفات
الاجتماعية والظاهرة السلبية التي تعرفها تمنراست.
كان هذا الحديث قبل ركوب سيارة يقودها أحد هؤلاء الجزائريين الذين يقول عنهم الشاب
الجزائري الأصل ''زوّروا الجنسية الجزائرية واشتروها...''. وبمجرد نزوله من
السيارة، فتح السائق قلبه وعبّر عن الآلام النفسية التي تسببها له نظرة سكان
تمنراست له. ''أقول لك صراحة، تمنراست تعاني كثيرا من العنصرية''. لا تبالي بهذا،
الظاهرة موجودة في كل الجزائر أينما ذهبت يقولون لك ''براني'' ولا علاقة لذلك
بالعنصرية. السائق يواصل التعبير عما في أعماقه ''لا، في تمنراست الأمور مختلفة.
تصور أنا مولود في تمنراست، تربيت فيها ودرست فيها ومازالوا يقولون لي أنت مالي.
حتى زميلي في الدراسة صديق عمري، لكنه لم يتخلص من هذه النظرة. يا أخي أنا جزائري
سواء أكنت من مالي أو غيرها، ما يهمني هو الصوارد ولقمة العيش فقط..''.
حديثنا مع هؤلاء أعادنا إلى تصريح رئيس الحكومة الأسبق لـ''الخبر''، مؤخرا، حين
قال: ''الاستعمار الفرنسي له تاريخ أيضا مع الأزواد وليس مع الجزائر فقط، لا أدري
إن كانت هذه الرواسب التاريخية هي التي تحكم الموقف الفرنسي من الأزمة المالية أم
لا''. استنتجنا إذا، أن الاستعمار الفرنسي عمد إلى تشكيل ''أقدام سوداء'' أخرى
بالطبعة الصحراوية، مع فرق شاسع هو أن ''الأقدام السوداء'' في الشمال كانوا معمرين
ومواطنين فرنسيين كاملي الحقوق، استولوا على أرض أهل البلد وحرموهم من أدنى الحقوق.
أما ''الأقدام السوداء'' في الجنوب أو في الصحراء، فكانوا مشتركين مع السكان
الأصليين في الاستعباد والحرمان، وحريتهم أصبحت جزءا من حرية كل سكان القارة
الإفريقية وسيادة أهلها على بلدانهم المختلفة.
فإذا كانت فرنسا، اليوم، تفكر بنفس الذهنية الاستعمارية، كما يتساءل إسماعيل
حمداني، فهي تشجع حرب إبادة ضد هؤلاء السكان غير المرغوب فيهم من قبل التوارف
و''العرب الأصلاء''، بحجة أن حركة أنصار الدين تريد تطبيق الشريعة الإسلامية أو لم
تتبرأ من الإرهاب.. وهو ما يقول عنه وزيرنا المنتدب للشؤون الإفريقية والمغاربية
''حركة أنصار الدين متكونة من ناس وطنيين وإذا حاربناها فهذا يعني إعلان حرب على
شعب...''.
ويظهر معنى تصريح عبد القادر مساهل أكثر، من خلال ما يقوله محمد، شيخ الزاوية
القادرية في باماكو ''نحن والسوادين نعيش في الحقيقة مع بعض في كل سلام وطمأنينة،
لكن بمجرد اندلاع الحرب تتوتر العلاقة''. الحرب في شمال مالي إذا، لا يظهر فيها
العدو والصديق في الواقع وستكون حربا متعددة الأطراف وليست حرب الشرعية الدولية ضد
الإرهاب والقاعدة... كما يقدمها من يدعمون هذا الطرح ويسعون لانتزاع الضوء الأخضر
من مجلس الأمن. ونستعيد هنا أيضا ما قاله سفير جزائري سابق في عواصم إفريقية عديدة،
من أن ''الجيش الجزائري ليست له ثقافة التدخل الأجنبي'' وبمعنى آخر هو جيش تكوّن
على ثقافة المقاومة وليس على ثقافة التوسع والاستعمار، وهو الفرق بينه وبين الجيش
المالي ومشروع جيش مجموعة غرب إفريقيا الذي ينظر إليه سكان الأزواد نظرة الجيش
الأجنبي الذي يستعدون لمواجهته. ولهذه الأبعاد كلها، تحاول القوى العالمية جلب
الجزائر للمشاركة في حربها ضد القاعدة لنزع صفة التدخل الأجنبي عنها، ولنفس الأبعاد
ترفض الجزائر المشاركة لأنها إذا شاركت سترهن لا محالة أمنها الداخلي..
الخبر
Navigate through the articles | |
مصر المنقسمة! | الجريمة الكاملة |
التعليقات تخص صاحبها ولا تخص ادارة الموقع
|