زيارة الدولة الثالثة لرئيس
فرنسي إلى الجزائر يتنازعها سقف فرنسي متدني، حبيس سياسة "تجار الشنطة" وموقف
جزائري حدد له الرئيس بوتفليقة سقفا عاليا لبناء شراكة تصمد أمام العوارض وتتجاوز
العلاقات التجارية، يحتاج إلى موقف شعبي داعم يوصل لقادة فرنسا المطلب الشعبي الذي
يشترط لتحسين العلاقات بين البلدين تطهير فرنسا لذاكرتها الاستعمارية، بالاعتراف
الصريح بجرائم الاستعمار.
في أول حديث له لوكالة الأنباء الفرنسية قبيل الزيارة المرتقبة للرئيس الفرنسي، حدد
الرئيس بوتفليقة الإطار الأمثل لإعادة تنشيط العلاقات بين البلدين حيث قال: "إننا
نتقاسم مع فرنسا الكثير من المكتسبات والأوراق الرابحة، ونرغب في رفع تحدي بناء
شراكة تصمد أمام العوارض، وتتجاوز العلاقات التجارية التي يختصر فيها كل طرف الطرف
الآخر إلى مجرد سوق لتسويق منتجاته"، وهو الإطار الذي تبنته الدولة الجزائرية منذ
الاستقلال، واصطدم على الدوام بسياسات فرنسية مرتهنة لذهنية وثقافة كولونيالية، لم
تستوعب حتى الآن الحاجة إلى تعاملها مع الجزائر كدولة مستقلة، كاملة السيادة، غيورة
عليها، لا تقبل من أيطرف أن يرى فيها مجرد مصدر للطاقة، أو سوق للسلع.
حيرة هولاند بين المصالحة والمصالح
على الطرف الآخر انطلقت منذ أسابيع حملة التحضير لزيارة الرئيس الفرنسي،
التي تكون أول زيارة لرئيس قادم من العائلة الاشتراكية، بتوافد عدد من الوزراء،
ومنهم تحديدا وزيرا الخارجية والداخلية، فيما واصلت الصحافة الفرنسية بحث واستشراف
ما يريده فريق فرانسوا هولاند من أجل إضفاء طابع مميز لهذه الزيارة، قياسا مع زيارة
الرؤساء الفرنسيين الثلاثة: جيسكار ديستان، جاك شيراك، وساركوزي، وهي زيارة الدولة
الثالثة لرئيس فرنسي، حيث ألحت العناوين القريبة من قصر الإيليزي على رغبة هولاند
في أن يجعل من الزيارة فرصة "لتوثيق مصالحة على مستوى القمة بين البلدين" ونسبت
لدوائر قريبة من الرئيس الجزائري حرص الرئيس بوتفليقة على "إنهاء عهدته الثالثة
بإبرام مصالحة مع قوة الاحتلال السابقة"، ونسبت إلى الرئيس الفرنسي الرغبة في
اقتراح "شراكة قائمة على الندية" تسمح للبلدين الخروج من علاقات متوحلة، في الوقت
الذي تحتفل فيه الجزائربالذكرى الخمسين للاستقلال.
وتقول أوساط قريبة من الإليزيه أن هولاند لن يزور الجزائر بأيد فارغة، حيث يتوقع أن
تبرم عدة صفقات تجارية أو قطاعية، خاصة في مجال الصناعات الفلاحية التحويلية،
والتوقيع على عقد بناء مصنع لتركيب سيارات رونو، ومع ذلك تدعي أن هولاند يريد
التميز عن سلفه ساركوزي الذي زار الجزائر كما يزورها "تجار الشنطة" وأن هولاند يفضل
الخوض فيالسياسة قبل الالتفات إلى الملفات التجارية.
"بوتفليقة: نتقاسم مع فرنسا الكثير من المكتسبات والأوراق الرابحة، ونرغب في رفع
تحدي بناء شراكة تصمد أمام العوارض، وتتجاوز العلاقات التجارية التي يختصر فيها كل
طرف الطرف الآخر إلى مجرد سوق لتسويق منتجاته"
إصلاح الذاكرة الفرنسية بالتقسيط المريح
نفس الأوساط لم تترد في عقد مقارنة بين زيارة هولاند وزيارات كل من جاك
شيراك وساركوزي، بالإشارة إلى أن جاك شيراك زار الجزائر مدعوما بالموقف الفرنسي
المشرف من الحرب الأمريكية على العراق، فيما قدم هولاند لزيارته بموقف فرنسي إيجابي
من الملف الفلسطيني في التصويت الأخير على قبول عضوية الدولة الفلسطينية كعضو
مراقب، إضافة إلى الاعتراف الفرنسي الرسمي بالقمع الدموي لمظاهرات 17 أكتوبر 1961،
وكأني بفريق هولاند يبحث عن ترميم الذاكرة الجمعية الفرنسية بالتقسيط المريح يتولاه
رؤساء فرنسا كابرا عن كابر كلما قادتهم المصالح إلى أرض المستعمرة القديمة.
وفي المقابل لم تخف الصحافة الفرنسية، وأوساط قريبة من الإليزيه أن يكون الموقف
الفرنسي من الأزمة في شمال مالي مصدرا لتعويق التقدم في بناء سياسة شراكة، مع بلد
يرى في ما يجري في شمال مالي عدوانا على أمنه القومي، كما أنه لم يستوعب بعد الدور
الفرنسي المتقدم في ضرب الاستقرار في الجارة ليبيا، وتزعم فرنسا للسياسة
النيوكولونيالي التي ينتهجها الغرب في عموم الدول العربية ودول العالم الثالث، بدعم
مجاميع إرهابية، وإسنادها من أجل إسقاط النظم، كما حصل في ليبيا ويحصل الآن في
سوريا.
تجريم دبلوماسي لعلاقات متعثرة
محتوى الاستجواب الذي أجرته وكالة الأنباء مع الرئيس بوتفليقة يكون قد أنتج
كثيرا من الإحباط لدى فريق فرانسوا هولاند، لأن الرئيس الجزائري قد حدد السقف
الأدنى لقيام علاقات طبيعية ومستدامة بين البلدين، حتى وإن كان قد رفض بلباقة
دبلوماسية تقييم الخمسين سنة من العلاقات المتعثرة بين البلدين بالقول: "إنه يقع
على عاتق المؤرخين والباحثين في البلدين الشروع في عمل مشترك حقيقي من أجل قراءة
هذا التاريخ الحافل والثري، الذي اكتنفته السراء والضراء بما يشهد على كثافة
علاقاتنا".
وفي هذا التعليق إشارة واضحة إلى أن محصلة العلاقات بين البلدين في الخمسين سنة
الماضية لا تختلف كثيرا عن محصلة 130 سنة من الاحتلال، هي التي كان الطرف الفرنسي
قد دعا إلى تركها لبحث المؤرخين، وكان الرئيس واضحا كل الوضوح في الحكم على المحصلة
في الفترة الأخيرة حين قال: "إننا نتحمل مسؤولية تجاه شعبينا، وعلينا أننستخلص
العبر من تجربتنا الماضية من أجل أن نصحح "في مجرى العمل" منحى التعاونوالشراكة
الذي يبقى دوما قابلا للتحسين".
سقف بوتفليقة لعودة المياه إلى مجاريها
وقد استغل الرئيس سؤالا آخر حول أفق تنمية العلاقات بين البلدين، ليرسم
السقف الأعلى لما يجب أن تكون عليه العلاقات بين البلدين، ليذكر الفرنسيين بما يجب
على الطرفين حيث قال: "إننا نتقاسم مع فرنسا الكثير من المكتسبات والأوراق الرابحة
ونرغب في رفع تحدي بناء شراكة تصمد أمام العوارض، وتتجاوز العلاقات التجارية، التي
يختصر فيها كل طرفالطرف الآخر إلى مجرد سوق لتسويق منتجاته".
وبمعنى آخر، فإن الجزائر التي تجتهد في علاقاتها الدولية على بناء شراكة حقيقية
"تصمد أمام العوارض، وتتجاوز العلاقات التجارية"، لن تكتفي بما تعد به الزيارة
القادمة من صفقات تجارية كيفما كان حجمها، وتعرض على فرنسا أفقا أرحب، ترافق فيه
فرنسا "مسار التنمية الاقتصادية والاجتماعية والبشرية" الجاري في الجزائر وقد أصبحت
كما قال الرئيس:"ورشة واسعة".
وفي هذا السياق، ذكر الرئيس الفرنسي بأرضية "إعلان الجزائر" الموقع عليه في مارس
2003 ، والذي عبر فيه البلدان عن نيتهما المشتركة في بناء شراكة قائمة على ما يجمع
البلدين" وقال: "إن هذا الطموح ما يزال قائما بالنسبة للطرف الجزائري، الذي يرجو
إضفاء مضمون ملموس وعملي على الشراكة الاستثنائية عبر تكثيف الحوار الذي لا غنى عنه
فيرأيي لتحديد الوجهة التي نريدها لإستراتيجية التعاون، التي نطمح إلى تطويرها على
المدىالبعيد بين البلدين".
رفع اللبس حيال مطلب تصحيح الذاكرة
من الواضح أن الرئيس بوتفليقة قد استبق الزيارة برفع اللبس، وحتى لا يقرأ
الموقف الجزائري قراءة خاطئة، فالجزائر لا ترفض أن يجتهد الطرفان من أجل إخراج
العلاقات بين البلدين من مستنقع الحسابات التجارية الصرفة، ومن تأثير القوى
المتطرفة من مخلفات مجتمع المعمرين، وغلاة المنظمة السرية التي سعت في العقود الخمس
الماضية إلى تغليب متطلبات حفظ ذاكرة المستعمر، وتمجيد جرائمه، على حساب متطلبات
بناء علاقات سوية، تبدأ باعتراف دولة الاحتلال بما في تاريخها من جرائم، لا يمكن
للشعب الجزائري أن يطوي صفحاتها قبل إنصاف ذاكرته الجمعية، المكلومة بقرن وثلث قرن
من جرائم الإبادة الجماعية للأنفس، والتنكيل المنهجي لمقومات هويته الدينية
والثقافية واللغوية، والنهب الفاحش لثرواته، قبل أن تبادر الدولة الفرنسية إلى
الاعتراف أولا بمسؤوليتها التاريخية عن جرائم الدولة الاستعمارية، وتطهير ذاكرة
شعبها من رواسب الثقافة الكولونيالية، التي ظلت تعيقبناء علاقات سوية بين البلدين
والشعبين.
وعلى هذا المستوى تحديدا، فإن زيارة الرئيس الفرنسي للجزائر لن تأتي بجديد يذكر،
ولا يمكن الالتفات إلى الخطوة المحتشمة التي قام بها، بالاعتراف الرسمي بالقمع
الدموي لمظاهرات 17 أكتوبر التي جرت فوق الأراضي الفرنسية، ولا تحتاج إلى اعتراف
رسمي وقد وثقتها الصحافة الفرنسية في وقتها، فيما لا تزال الدولة الفرنسية تنكر
مذابح 8 مايالرهيبة، ولا تتردد نخبتها السياسية ونوابها في إصدار تشريع يمجد الحقبة
الاستعمارية.
لا يمكن للشعب الجزائري أن يطوي صفحات الاستعمار قبل إنصاف ذاكرته الجمعية،
المكلومة بقرن وثلث قرن من جرائم الإبادة الجماعية للأنفس، والتنكيل المنهجي
لمقومات هويته الدينية والثقافية واللغوية، والنهب الفاحش لثرواته"
إسقاط الفيتو الكولونيالي على مراجعة الذاكرة
ثم إنه لا يبدو أن الرئيس الفرنسي يمتلك الرغبة الصادقة، أو الإرادة الكافية
لحمل المجتمع الفرنسي على مراجعة ذاكرته الجمعية كما فعل حيال جرائمه ضد اليهود، أو
يراجع سلوك حكوماته كما فعل الألمان مع الفرنسيين وباقي شعوب أوروبا، وعلى هذا
المستوى لم يأت الرئيس الاشتراكي بما يميزه عن سلفه ساركوزي، أو عن شيراك، ولعله ما
زال سجين المواقف التي صنعها الرئيس ميتران للاشتراكيين على الأقل تجاه الجزائر،
ولا يمكن للجزائر أن تراهن على حصول نقلة في المواقف الفرنسية، خاصة وأنها أضافت
إلى مواقفها المنحازة في ملف الصحراء الغربية، مواقف أكثر عدائية تجاه الجزائر،
تجلت في تصدر فرنسا لعدوان حلف النيتو على بلد جار للجزائر، خلق لها بؤرة توتر
وتهديد لأمنها القومي، وهي متصدرة لحملة التدخل العسكري الفج في شمال مالي، وتسعى
بكل الوسائل إلى إفشال المساعي الجزائرية لقيام تسوية بالوسائل السلمية وبالحوار،
ولم تلتفت فرنسا - أو ربما تكون قد فعلت- إلى نتائج أي تدخلعسكري في شمال مالي على
الأمن القومي للجزائر.
وفي هذا السياق، وكما كان الحال تجاه زيارة سلف هولا ند حين تصدت مجموعة من
المثقفين والمجاهدين للزيارة برفع شعار تطهير العلاقات الجزائرية الفرنسية من
الثقافة الكولونيالية، إنه من واجب النخبة التي يفترض أن يلتقي بها الرئيس هولاند
في جامعة تلمسان أن توصل له وبصوت عال المطلب الشعبي الذي لا يمكن لأي سلطة في
الجزائر أن تتنازل عنه بإلزام الدولة الفرنسية باعتراف رسمي وصريح بجرائمها
الاستعمارية والعمل مع الدولة الجزائية على البحث بجدية في التوافق على التعويضات
المعنوية والمادية لضحايا الجريمة الاستعمارية التي لا تسقط بالتقادم أو بالإصرار
على النكران.
الشروق
Navigate through the articles | |
هولاند قادم إلى الجزائر بأيد فارغة! | مصر ما بعد الاستفتاء |
التعليقات تخص صاحبها ولا تخص ادارة الموقع
|