المقالات و التقارير > من التاريخ المشرق إلى المستقبل الغامض .. الأزهر والثورة

من التاريخ المشرق إلى المستقبل الغامض .. الأزهر والثورة

ترى لماذا يفتقد الناس فى بلادنا الأزهر الشريف ، هذه الأيام ، وبعد ثورة مجيدة مبشرة وواعدة ؟! هل لأنهم قد شاهدوا ، وعاشوا على مدار عامين ، هما عمر الثورة ، أفكاراً ورؤى متشددة لا تتسق والثقافة الإسلامية الوسطية التى تميز مصر وبها تُعرف ؟! أما لأن (صحيح الإسلام) فى بلاد الربيع العربى يتعرض لهجمة شرسة،من اتجاهات متعددة، تستهدف اغتيال قيمه الرائدة فى الاستنارة،والموعظة الحسنة،والعدل،ورفض التعصب المذهبى ؛ وهى قيم تتمثل بأفضل معانيها فى الأزهر الشريف ، بتاريخه ، وحاضره ، بعلمائه ، ومواقفه !! .


* لقد كان للأزهر تاريخياً دوره الداعم للثورات الوطنية ، بل والحاضن لها ولعل فى تذكرنا لثورتى القاهرة الأولى والثانية إبان الاحتلال الفرنسى لمصر ، ودور علماء الأزهر فى قيادة هذه الثورات ما يقم كدليل تاريخى هنا على عمق الدور وأهميته فى تحريك الأمة وإيقاظها ، إنه ذات الدور الذى حاول الأزهر أن يلعبه إبان ثورة يناير 2011 ، ولكن التحديات كانت أصعب لأن عدو الثورة هنا لم يكن احتلالاً أجنبياً بل مستبداً من داخل الوطن يتكلم لغته ويزعم انتساباً لدينه وقيمه . وزاد من التحديات بزوغ نجم تيارات تنتسب إلى الإسلام وتحمل فقه البداوة ، شديد القسوة والغلو ، ذلك الفقه الذى قال عنه ذات يوم العلامة الراحل الشيخ محمد الغزالى (وكأنى بهؤلاء القوم يقدمون لنا ديناً آخر غير ذلك الإسلام الذى نعرفه ونعتز به).


لقد حاول شيخ الأزهر د. أحمد الطيب ونفر من قياداته ، أن يحصنوا الأزهر من الاختراق وأن يحموا سفينته المهددة من الغرق ، فى مرحلة ما بعد الثورة ، ونحسبهم قد نجحوا رغم علو الموج وسطوته ؛ إن هذه الحال للأزهر فى عهد الثورة تدفعنا إلى تأمل دوره فى التاريخ لعل ذلك يفيد فى بناء المستقبل ، ومواجهة تحدياته القاسية .


***


النشأة المتميزة



تعود نشأة الجامع الأزهر إلى الدولة الفاطمية وتحديداً إلى القائد جوهر الصقلى ، ولقد كان الهدف من بناء الأزهر أن يكون مسجداً وجامعاً يجسد الانتصار الفاطمى القادم من الشمال الأفريقى إلى بلاد الشام مروراً بمصر ، وأن يكون منارة لبث تعاليم الدين الإسلامى وفقاً للمذاهب الإسلامية الخمس (وقتها) والتى تتكون من الأربعة على مذاهب أهل السنة والخامس هو المذهب الشيعى الذى كان بمثابة المذهب الرسمى للدولة الفاطمية .


* ولقد بدأ بناء الجامع الأزهر يوم 24 من جمادى الأولى عام 359 هـ الموافق 7 من مايو 970م وانتهى من بنائه يوم 7 من رمضان عام 361هـ الموافق 23 من يونيو عام 972م أى استغرق بناؤه حوالى سنتين وثلاثة أشهر .


* ولقد تعمد جوهر الصقلى أن يجعل من بناية الجامع ، مركزاً شامخاً يتوسط مدينة القاهرة المعزية آنذلك ، وأن يقع بالقرب من القصر الكبير الشرقى الذى خصص لإقامة الخلفاء الفاطميين وأن تدرس فيه جميع المذاهب الإسلامية دون تفرقة وهو ما كان بالفعل .


* ويذكر على مبارك فى كتابه (الخطط التوفيقية : الجزء الثانى) أن جوهر الصقلى جعل أمام الجامع الأزهر رحبة فسيحة جداً (قريبة من مسجد الإمام الحسين) وكان الخلفاء الفاطميون حين يذهبون إلى الجامع الأزهر للصلاة بالناس يترجل الجنود ويصطفون فى هذه الرحبة الفسيحة حتى يدخل الخليفة الجامع ويعود بعد إتمام الصلاة .


أما عن البناء المعمارى العام للأزهر عندما أنشأه جوهر الصقلى فقد كان يشتمل على مكاناً مسقوفاً يسمى مقصورة ومكاناً آخر غير مسقوف يسمى صحناً فضلاً عن الملحقات المكانية التى تتبع المساجد عادة وقد بنى جوهر (كما يقول د. عبد العزيز محمد الشناوى فى كتابه الهام : الأزهر جامعاً وجامعة جـ 1) مقصورة كبيرة بها ستة وسبعون عموداً من الرخام الجيد الأبيض اللون فى صفوف متساوية وعليها قواصير مرتفعة كما بنى قوصرة بين كل عمودين ودكة كبيرة يصلى عليها المبلغون ، كما أنشأ جوهر محراباً بالمقصورة التى بناها ويسمى القبلة القديمة ، أما صحن الجامع فكان مكاناً متسعاً غير مسقوف ومرصوفاً بالحجر تقام فيه الصلاة عند ازدحام المقصورة وأنشىء للأزهر عند تأسيسه منارة واحدة .


* ومما هو جدير بالذكر أن (الجامع الأزهر) كان يطلق عليه أحياناً جامع القاهرة ، إلا أن اسمه استقر نهائياً مع نهايات الدولة الفاطمية ويقال أنه سمى هكذا نسبة إلى السيدة فاطمة الزهراء ابنة الرسول صلى الله عليه وسلم والتى إليها تنتسب الدولة الفاطمية ، والتى جعلت (أى الدولة) من هذا المسجد جامعها الرسمى الأول ومن ثم وجب أن يسمى باسم السيدة فاطمة الزهراء وقد كان .


* وبعد أن اكتمل بناء الأزهر وكذا القاهرة (التى كان يطلق عليها من قبل المنصورية) حضر المعز لدين الله الفاطمى يوم 7 رمضان عام 362هـ الموافق 15 يونيو عام 973م ، وأقام فى القصر الكبير الشرقى هو وخلفاؤه من الحكام الفاطميين . وظل الأزهر بعدها كعبة للعلم الدينى والدعوى وحاضنة لكل المذاهب وليس للمذهب الشيعى فحسب ورغم تعنت الدولة الأيوبية – لاحقاً - تجاهه وإغلاقه حوالى مائة عام إلا أنه عاد شامخاً وقوياً كما كان واستمر حتى يومنا هذا جامعاً ، ومعلماً لكل المذاهب الإسلامية المعتبرة.


****


الأزهر والسياسة


هذا ويحدثنا التاريخ أن الأزهر الشريف لعب الأزهر الشريف دوراً سياسياً ثورياً بارزاً فى التاريخ المصرى بالإضافة إلى رسالته الفكرية والحضارية ، ومر هذا الدور بمرحلتين أولاهما : قبل عصر محمد على ، حين كان الأزهر يتمتع بدرجة كبيرة من الاستقلال عن السلطة السياسية ، وكان له نظامه الدراسى الخاص الذى تقرره هيئة علمائه وشيخه الذى يُختار بمعرفة هذه الهيئة ومصادر تمويل نشاطه العلمى المستقلة التى تُستمد من الأوقاف التى أوقفها السلاطين وبعض الأثرياء عليه وحددوا فى حجج وقفها كيفية التصرف فى ريعها وتولى العلماء إدارتها دون تدخل من جانب الحكام . وثانيتهما : تبدأ مع قدوم الحملة الفرنسية وتتضح أكثر مع تولى محمد على للحكم من خلال تعضيد رجال الأزهر له بعد بروز قوتهم السياسية وإجبارهم للسلطان العثمانى على تحقيق مطالبهم بتولية محمد على ، ولكن الأخير لا يلبث أن ينتزع الدور السياسى لهذه المؤسسة من خلال تأكيد تبعيتها للدولة مالياً ، بنزع إشراف العلماء على أوقافه ، وبالتدخل فى اختيار شيخ الأزهر عن طريق التأثير على هيئة العلماء التى تتولى انتخابه وخاصة أن ممارسة الشيخ لصلاحياته تحتاج إلى تصديق الدولة على اختياره ، ثم أصبحت الدولة هى التى تتولى تعيين شيخ الأزهر من بين العلماء الذين تثق فى ولائهم لمن يجلس فى سدة الحكم ، وبذلك فقد الأزهر استقلاليته تدريجياً وتم تحجيم دوره التقليدى ، وكان لإنشاء النظام التعليمى الحديث فى عصرى محمد على وإسماعيل ؛ أثره الداعم لهذا الاتجاه ، ومع نشأة الجهاز البيروقراطى الحديث أصبح المجال متسعاً أمام خريجى النظام التعليمى المدنى الحديث لاحتلال مراكز البيروقراطية المصرية ، بينما ضاقت فرص الأزهريين فى نيل نصيب منها .


على الرغم من هذا كان للأزهر دور سياسى واضح فى الفترات التاريخية التى عاصرت التحدى الإسلامى للنموذج الغربى ، وكان داعماً مستمراً (للثورة) ضد المحتل ، فكانت تحركات جمال الدين الأفغانى ومحمد عبده ذات إطار سياسى يرتكز على الأزهر ، وكان موقف الأزهر إبان الثورة العرابية واضحاً فى تأييد زعمائها ، بل وخرج رجالها وفى مقدمتهم عرابى من الأزهر وكان والده ولمدة عشرين عاماً أحد علماء الأزهر ، واحتضن الأزهر ثورة 1919 وخرج الأزهريون يطالبون بالاستقلال وبالوحدة الوطنية وكان فى مقدمتهم : مصطفى القاياتى ومحمود أبو العيون وعبد ربه مفتاح ومحمد عبد اللطيف دراز وعلى سرور الزنكلوتى ، وتعددت مواقف الأزهر الوطنية وخاصة فى أحداث الكفاح الوطنى ضد الأجنبى ، ويصل المؤرخون الثقاة من من استعراض المواقف السياسية للأزهر إلى القول بأنه عندما تكون المواجهة مع الأجنبى فإن رجال الأزهر ينضمون إلى قوى الثورة الوطنية ، ولكنهم قد يترددون عندما تكون المواجهة مع الحاكم (الوطنى) بهدف الثورة والتغيير الاجتماعى (كما حدث إبان ثورة يناير 2011) حينما تحرك الأزهر الرسمى متأخراً ومتردداً إلا من مجموعة فذة من علمائه المستقلين الذين تواجدوا فى ميدان التحرير منذ اليوم الأول للثورة (25 يناير) وحتى اليوم الأخير 11 فبراير 2011 بل وقدموا شهداء مثل الشيخ عماد عفت وغيره من الشهداء والقادة الأزهريين الكبار.


* ويحدثنا التاريخ عن علاقة الأزهر بثورة يوليو والتى كان قمتها إصدار الثورة للقانون رقم 603 الصادر فى 22/6/1961 باسم قانون تنظيم الأزهر والذى أعاد للأزهر مكانته ودوره التنويرى وربطه فى الوقت ذاته بالدولة والثورة الناصرية ربطاً لا فكاك منه .


***


وسطية الأزهر


فى عهد د.أحمد الطيب وقبله بمئات السنين تميز الأزهر بتبنى الوسطية فى أمور كثيرة،كما تبنى الاعتدال فى الآراء فى أمور عديدة،فمشى على منهج الأسلاف،ومنهج الجمهور من العلماء .


ظهر هذا فى قضايا العبادات كافة على النقيض من أصحاب فقه البداوة من التيارات الإسلامية المنتشرة الآن فى بلادنا العربية ، ويتمثل ذلك فى (الحج) كما فى الزكاة بل وحتى فى الحجاب . وهناك قضايا كثيرة تبنى فيها الأزهر الرأى الراجح لدى الجمهور ، أو الرأى الذى يرونه ميسرا لمشاق الحياة ، ولم يخرج عن هدى الشريعة وأقوال الأئمة من الفقهاء المعتمدين .


ومن الجدير بالذكر أن التعليم الآزهرى يتميز بالتنوع والانفتاح على كافة المذاهب والأفكار، فبدءا من التعليم الثانوى ، والذى يسبق الجامعة يتعود الطالب على دراسة المذاهب المختلفة فى دراسته للفقه ، فيدرس الفقه على المذاهب الأربعة .


وفى الدراسة الجامعية يتعرض الطالب لدراسة المذاهب الفقهية الثمانية ، الأربعة السنية (مذهب الإمام أبى حنيفة النعمان،ومذهب الإمام مالك ،ومذهب الإمام الشافعى،ومذهب الإمام أحمد بن حنبل)،بالإضافة إلى مذهبين من مذاهب الشيعة (الشيعة الزيدية،والشيعة الإمامية) كما يدرس أيضا مذهب الإباضية (وهى فرقة معتدلة من فرق الخوارج وهى الموجودة الآن فى عمان)،كما يدرس مذهب الظاهرية (وهو مذهب داود الظاهرى ثم ابن حزم والذى تجلى فى كتابه المحلى)،كما يدرس الطالب المدارس والمذاهب الكلامية المختلفة،كالأشاعرة، والماتريدية (وهما قد أسسا مذهب أهل السنة)،والمعتزلة (وعلى رأسهم واصل بن عطاء الذى اعتزل الحسن البصرى وكون مذهبه الكلامى،وهؤلاء المعتزلة كان لهم الفضل فى دحض آراء الملحدين فى بداية نشأتهم وعبر العصور المختلفة)،يتعرف الطالب على هذا كله مع معرفته ترجيح الآراء .


إذا ، فالطالب فى الأزهر معرفته متنوعة ، ويتعود منذ نعومة أظفاره على رؤية الاختلافات الفقهية التى نشأت بعد أن لحق الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى . ولذلك كان الأزهر دائماً رمزاً للوسطية الحقة الأصيلة وليس المفتعلة . فأين أصحاب فقه البداوة والغلظة فى مرحلة ما بعد الثورة من هذا التنوع والثراء الأزهرى ؟! .


والأزهر منذ إنشائه يسعى إلى التقريب بين المذاهب خاصة بين السنة والشيعة بعكس فرق المتشددين والتكفيريين ، وهنا يذكرنا التاريخ فى مجال فقه التقريب والوحدة الاسلامية تلك الفتوى الشهيرة للشيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر الأسبق بأن المذهب الشيعى الجعفرى يعد مذهبا خامسا يجوز التعبد به كبقية المذاهب الإسلامية .


وهذه الفتوى أيدها الكثير من علماء الأزهر منذ الستينات وحتى عهد د. أحمد الطيب الذى كان من المؤيدين الكبار لها ؛ هذا ولقد أنارت مثل هذه الفتاوى التى ترفض التعصب المذهبى، مع الإقرار بالخلافات الفقهية الفرعية بين المذاهب دونماً تفكير ، أنارت الطريق أمام الذين يسعون إلى التقريب بين المذاهب الإسلامية ، وإلى وحدة المسلمين فى كل مكان ، وإلى الراغبين فى توحيد الأمة ضد العدو الأمريكى والإسرائيلى مباشرة دونما انحراف فى معارك مذهبية لن تفيد سوى الأعداء ، وهو عين ما سعت إليه ثورات الربيع العربى الحقيقية وليس الزائفة بالطبع (!!) .


* وفى ثورة يناير 2011 وبعد عامين على انطلاقها لايزال الأزهر يقاوم على جبهات متعددة وفى قضايا متعددة فمن عمليات مقاومة تريد تهديد هوية مصر الإسلامية المعتدلة ، إلى عمليات اختراق علمانى متطرف لا يقل خطره على الأزهر عن خطر الفكر المتشدد ولايزال الأزهر يطرح فى عهد الثورة ، شرعية المقاومة للعدو الصهيونى وشرعية العمليات الاستشهادية ضد العدو الصهيونى وضد أى محتل للبلاد الإسلامية وبخاصة المحتل الأمريكى هذا التحدى الخارجى يواجه بضغوط دولية وإقليمية تحاول أن تغتال دوره وتحيله إلى مجرد مؤسسة بيروقراطية للدعوة ، وتفقده دوره السياسى والتوحيدى الداعم للثورة الوطنية على الفساد والاستبداد ولقيم الوحدة الإسلامية .


لقد كان الأزهر ، تاريخياً ، كعبة للعلم وللعلماء ، وفى الوقت ذاته قائداً للإصلاح والنهضة الحضارية ، ولا نحسبه فى أجواء ثورات الربيع العربى ، يتنازل أو يتراجع عن هكذا دور ، صار بالتراكم التاريخى ، سمة حميمة من سماته وطبيعته . حفظ الله لمصر وللإسلام ، أزهرهما !! .
المحيط


Navigate through the articles
Previous article أسرار الثورة جريمة استاد بورسعيد Next article
التعليقات تخص صاحبها ولا تخص ادارة الموقع