المقالات و التقارير > مشروع مصر القوميّ الجديد

مشروع مصر القوميّ الجديد

يصدمني ويحزنني أن أرى وأتأمّل ما تقوم به «جبهة الخراب» في مصر من تخريب ممنهج، وتدمير منظّم، للبلاد والعباد. في اعتقادي أنّ عصور الانحطاط، والتّأخّر، والاستعمار، والقهر، الّتي مرّت على مصر قرونًا طويلة، نتج عنها سمتين : السّذاجة من ناحية، والانتهازيّة من ناحية أخرى. السّذاجة أغرت الدّاني والقاصي بنهب بلادنا، وسرقة ثرواتنا. فلولا هذه السّذاجة، لما تجرّأ عسكر مصر على تزوير الانتخابات بنسبة ٩٩،٩٩٪ ستّة عقود كاملة. والانتهازيّة فرضت نفسها على النّاس، لكي يفلتوا بجلدهم من الفقر، والضّياع، والظّروف الصّعبة.السّاذج يقع ضحية للانتهازيّ. السّاذج مسكين، لكنّه جاهل. والانتهازيّ لا يفكّر إلّا في نفسه، وبطنه، ومصالحه الشّخصيّة. شخصيّته لا مكان فيها للأخلاق، أو المبادئ، أو المثل العليا. هو إنسان عمليّ، مصلحجي، نفعيّ، مستعدّ، كما قال ساويرس، أن يتحالف مع الشّيطان من أجل مصالحه الشّخصيّة. وهكذا صارت بلدنا صيدًا سهلًا للأعداء والخصوم. يكفي أعداء البلاد التّلويح بحفنة آلاف من الدّولارات، لجمع الانتهازيّين من المصريّين. ثُمّ يكفي الانتهازيّين المصريّين التّلويح بحفنة مئات من الجنيهات لجمع السّذج المصريّين. وهكذا تكوّنت «جبهة الإنقاذ المزعومة» من نخبة الانتهازيّين المصريّين الّذين لا يمانعون مطلقًا في تدمير بلدهم مصر من أجل مصالحهم الشّخصيّة الدّنيئة. فبعد أن جنّد بنو صهيون البرادعي لخدمة مصالحهم، وتمكّنوا بعدها من منحه جائزة نوبل ت
قديرًا وامتنانًا لخدماته لهم، تمادى هذا الانتهازيّ في التّعبير عن كرهه لمصر، وتصميمه على محاربة أعدائه بكلّ السّبل الممكنة. دعوه إلى ألمانيا لاستشارته. فنصح الحكومة الألمانيّة بوقف أي مساعدات لمصر، مادام الإخوان في الحكم. ومن المؤسف له أنّ الألمان صدّقوه، وجمّدوا بالفعل بعض المشروعات الّتي كانوا يموّلونها في مصر. والشّيء نفسه حدث مع صباحي الّذي نصح مستثمرين أجانب علنًا بعدم الاستثمار في مصر، مادام الإخوان يحكمونها. ولم تتوقّف مصائب «جبهة الإنقاذ المزعومة»، وجهودها المضنية لتخريب مصر، عند هذا الحدّ، بل قامت بتخصيص جزء من ميزانيتها الكبيرة لتأجير الصّبية والشّباب، من حزب السّذج المحتاجين، لكي يقوموا بأعمال تخريبيّة في جميع ربوع مصر. فرأينا صبية في مقتبل العمر يحملون الطّوب وقنابل المولوتوف، ويلقونها على قصر الرّئاسة، ورجال الشّرطة، والمباني الحكوميّة. ونتج عن هذا، ضمن ما نتج، خلق أجواء من الذّعر والخوف والإرهاب، دمّرت بدورها السّياحة في مصر، وشلّت الحركة السّياحيّة، وأحالت ملايين من المصريّين إلى البطالة، وحرمت الدّولة من عشرات المليارات من الدّولارات الّتي نحن في أمسّ الحاجة بها. لولا الانتهازيّة، والجشع، والطّمع، لما رأينا اليوم شيئًا مثل «جبهة الإنقاذ المزعومة» الّتي يظنّ قادتها أنّهم تمكّنوا من خداع تسعين مليون مصريّ. وهذا بالطّبع لن يحدث أبدًا، لأنّ الكذّاب هالك عاجلًا أو آجلًا، إن شاء اللّه. وبعدُ.
أتعجّب فعلًا من أضاليل هذه العصابة. سمعتُ مؤخرًا أحدهم يخطب في أتباعه، معلنًا بكلّ بسالة مقاطعة «جبهة الخراب» لانتخابات مجلس النّوّاب. لكن ما أثار ضحكي حقًّا هو دفاعه عن الثّوّار، لأنّ الجميع يعرف أنّ هذا الشّخص بالذّات هو من كبار أعداء الثّورة، ومن كبار مؤيّدي حكم العسكر الّذي ثارت الثّورة عليه أصلًا. فعلى من يضحك هذا النّصّاب؟ على الثّوّار؟ أم على نفسه؟ أم على الشّعب بأسره؟!! والشّيء نفسه ينطبق على المدعو صباحي الّذي يروح ويغدو في تناقضات لا تنتهي: فهو ناصري-اشتراكيّ مزعوم، لكنّه متحالف مع الرّأسمالي المزعوم، ساويرس. فكيف يكون المرء اشتراكيًّا ورأسماليًّا في وقت واحد؟!! وباعتباره ناصريًّا، فهو مؤيّد لحكم العسكر، لكنّه يدّعي أنّه مع الثّورة الّتي قامت أصلًا لدحر العسكر. فكيف يكون المرء مع العسكر وضدّهم في الوقت نفسه؟! وهو خاض انتخابات الرّئاسة، معلنًا قبوله قواعد الدّيمقراطيّة. لكنّه عندما خسر، طلّق الدّيمقراطيّة بالثّلاثة، وجعل يطالب بإعادة الانتخابات. فديمقراطيّته فلكوريّة لا تسمح لأحد غيره بالفوز بالانتخابات. أمّا الدّيمقراطيّة الّتي يخسر طبق قواعدها الانتخابات، فهو لا يعترف بها!! وبعد.
أيّها القارئ الكريم، نريد طرح مشروع القطار الحلم على جموع الشّرفاء من شعب مصر، ليس السّذج برغم كثرتهم، وليس الانتهازيّين، بسبب خساستهم. وقبل طرح هذه الفكرة، يهمّني أن أسجّل هنا ملاحظة مهمّة وحقيقة مؤلمة.
ودعني ألّخص لك هذه الملاحظة كما يلي:
كيف كان العقل العربيّ-الإسلاميّ-المصريّ في القرن الثّامن الميلاديّ؟ وكيف كان العقل الغربيّ-الأوروبيّ في القرن نفسه؟ عالج هذه القضيّة بإسهاب العالم البلجيكيّ الأصل جورج سارتون في كتابه الضّخم الّذي اختار له عنوانًا متواضعًا، هو: «مقدّمة في تاريخ العلم». درس سارتون حضارات العالم المختلفة في كلّ قرن من الزّمان. وبناء على دراساته هذه كان يختار عالمًا، أو أكثر، يقول إنّه، أو إنّهم، كانوا الأكثر تأثيرًا في الحقبة الفلانيّة. فكيف كان تقييمه للحضارة العربيّة-الإسلاميّة-المصريّة؟ اكتشف سارتون براعة العلماء العرب وتفوّقهم على جميع علماء العالم في الفترة الواقعة بين القرن الثّامن والقرن الثّالث عشر بعد الميلاد. وبعد ذلك تولّى العلماء الغربيّين بالذّات حمل شعلة العلم، والإبداع. الأمراض الّتي أصابت العقل العربيّ-الإسلاميّ-المصريّ بدأت تظهر منذ سقوط بغداد شرقًا وقرطبة غربًا في حوالي منتصف القرن الثّالث عشر الميلاديّ.
فنحن إذا تحدّثنا، لا نتحدّث إلّا عن القدماء المصريّين، أو عن ابن سيناء وابن رشد والرّازي. ونتجاهل ونجهل منجزات الحضارة الحديثة. تستطيع أيّها القارئ الكريم أن تقرأ في دراسة «مستقبل العلاقات المصريّة-الألمانيّة» نموذجًا مؤلمًا على هذه الظاهرة . ففي حوالي سنة ١٤٥٠م قام الألمانيّ العظيم جوتنبرج بطبع «الكتاب المقدّس» مستخدمًا لأوّل مرّة تقنية الطّباعة الّتي اخترعها بنفسه قُبيل ذلك. فماذا كان ردّ فعل أجدادنا في مصر على هذه الاختراع الّذي كان من شأنه تغيير مسار الحضارة الإنسانيّة برمّتها؟ لقد قابل أجدادنا في القرن الخامس عشر الميلادي هذا الاختراع بمنتهى البرود واللّامبالاة والسّلبيّة. وظلّ أجدادنا مصمّمين على هذه السّلبيّة تجاه ما تبدعه الحضارات الأخرى من سنة ١٤٥٠م حتّى سنة ١٧٩٨م عندما جاء نابليون في حملته على مصر، يحمل لنا أوّل مطبعة عربيّة!! دعنا، أيّها القارئ الكريم، نتساءل، ومن حقّنا أن نتساءل: لماذا تقاعس أجدادنا قرونًا هكذا؟ لماذا السّلبيّة؟ ولماذا التّقصير؟ ولماذا الإهمال؟ ولماذا التّجاهل؟ ولماذا الاستضعاف؟
والمشكلة هنا لا تكمن في موقف أجدادنا من اختراع بعينه، الّذي هو الطّباعة هنا. لكن المشكلة تكمن في موقفهم الأساسيّ من العلم، ومن التّكنولوجيا، ومن الإبداع، ومن الأخذ بأسباب القوّة. وهو موقف سلبيّ، هدّام، مدمّر، مضرّ، مخالف لصحيح الإيمان. والأنكى من هذا هو أن هذا الموقف مازال مستمرًّا حتّى هذه اللّحظة. فعبقريّة حكّامنا، ومسؤولينا، و«نخبتنا»، اقتصرت على الاستهلاك. استهلاك ما يبدعه الآخرون. وحتّى هذا الاستهلاك يأتي متأخّرًا جدًّا. فنحن قد أصبحنا خيابى في الاختراع، وخيابى في الاستهلاك، جميعًا. ولتتأمّل معي، أيّها القارئ الكريم، سلوك أجدادنا غير المسؤول، تجاه اختراع «القطارات» مثلًا. فأجدادنا لم يحرّكوا ساكنا تجاه هذا الاختراع العظيم في القرن التّاسع عشر الميلاديّ. بل انتظروا بكلّ سلبيّة، حتّى قام الإنجليز بتأسيس أوّل شبكة للسّكك الحديديّة في مصر. وبعد ذلك اكتفى الأجداد، وبعدهم الآباء، بدور المستهلك اللامبالي لما نقله لنا الإنجليز. لم يفكّر أحد في تصنيع هذه القطارات في مصر، أو المساهمة في تطوير تحسين أداء هذه القطارات، أو تطوير محرّكات أسرع. بل تركنا ما أحضره الإنجليز لنا كما هو منذ أكثر من قرنٍ ونصف قرنٍ، بدون تجديد، وبدون اهتمام، وبدون تطوير، وبدون صيانة!! وبعد.
أتتذكّر، أيّها القارئ الكريم، مشروع السّد العالي؟ أنا لا أتذكّر إلّا الأغاني الّتي كنتُ أسمعها في طفولتي بالعاميّة المصريّة: «قلنا هانبني، وآدي إحنا بنينا السّدّ العالي»!! حوّل العسكريّ عبد النّاصر، مؤسّس الاستبداد في مصر الحديثة، مشروع السّدّ العالي إلى مشروع قوميّ. لا أعرف قيمة هذا المشروع وجدواه الاقتصاديّة الحقيقيّة، لأنّي لست خبيرًا في هذه الأمور، لكنّي قرأت بعض الدّراسات الألمانيّة عن عيوب هذا المشروع. وفي جميع الأحوال نريد الآن تحويل مشروع القطار الحلم هذا إلى مشروع قوميّ لمصر، إن شاء اللّه. وبعد.
أحد دوافعي الأساسيّة لطرح هذه الفكرة يتمثّل في قناعتي بأنّ سلوك أجدادنا وآبائنا حتّى الآن، ومنذ القدم، يوحي بنوع من الكفر وعدم شكر النّعمة. فالدّول المتقدّمة، مثل سويسرا، وألمانيا، واليابان، لم تترك شبرًا من أراضيها بدون استغلال، وتعمير، واستثمار. بل إنّنا نجد دولًا مثل اليابان وهولندا، سعت إلى غزو البحر، بعدما ضاق البرّ بها. دعنا، أيّها القارئ الكريم، نقارن ما يحدث في هذه الدّول المتقدّمة بما يحدث في مصرنا من إهمال للثّروات، وتجاهل للموارد، وتكدّس للسّكّان، وكفر بالنّعمة. لكن لماذا؟ السّبب واضح جليّ، أننا لا نرى ما أنعم اللّه به علينا من خيرات، وما وهبنا من ثروات، وما خصّنا به من مميزات. والآن نريد إنهاء هذا العصر، ونبدأ عصرًا جديدًا، ننطلق فيه للحاق بحضارة العصر الّتي تخلّفنا عن ركبها منذ القرن الثّالث عشر الميلادي تقريبًا.
ماذا أقترحُ إذن؟
أقترح استغلال كلّ شبر من أرض مصر الطّاهرة. بالطّبع سنحتاج إلى تطهير مصر بالتّدريج من حثالات «جبهة الإنقاذ»، ومن طبقات الانتهازيّين، والنّصّابين، ومصّاصي دماء الشّعب. لكن القافلة ينبغي أن تتّجه الآن نحو بناء مصر من جديد.
تعالوا نلقي نظرة على خريطة مصر. مساحة بلدنا أكثر من مليون كيلومتر. وهبنا اللّه العظيم نعمًا كثيرة. ومع هذا صرنا نستجدي طعامنا من الأجانب.
نريد تشييد شبكة خطوط قطارات فائقة السّرعة تغطي جميع أنحاء بلدنا. وبالتّوازي مع هذا المشروع العملاق نريد تدشين المشروع الأعظم، وهو مشروع إعادة تقسيم أرض مصر إلى محافظات جديدة.
فالمسافة بين حدودنا الشّماليّة والجنوبيّة تبلغ نحو ألف كيلو متر. يمكن تشييد خطّ قطارات فائقة السّرعة موازٍ لحدودنا مع ليبيا، ويتوقّف كلّ مئة كيلو متر في محطّة، بحيث نشيّد في هذه المسافة عشرة محافظات جديدة بطول مئة كيلو متر، وعرض مئة كيلو متر أيضًا. والشّيء نفسه نستطيع عمله عرضًا، أي تسيير خطوط أخرى تمتد من حدودنا الشّرقيّة إلى حدودنا الغربيّة. بالطّبع لن نستطيع تشييد هذه الخطوط على أرض الواقع كما نرسمها بالمسطرة على الورق، لكن لابدّ من التّخطيط أوّلًا لكلّ شيء، ولابدّ من الطّموح.
بهذا التّقسيم الجديد نستطيع تأسيس عشرات المحافطات الجديدة في قلب الصّحراء، وامتدادًا للمحافطات الحاليّة، وفي سيناء الّتي أهملناها قرونًا من الزّمان. بعد تأسيس هذه المحافظات الجديدة سنحتاج إلى توفير ميزانيّات مناسبة لها، لكي تنطلق نحو البناء والتّنمية والتّصنيع والزّراعة. ستحتاج كلّ محافظة جديدة إلى خدمات، وإلى مدارس، وإلى حقول، وإلى مصانع، وإلى بنوك، وإلى فنادق، وإلى جامعات، وإلى وسائل مواصلات، وإلى علماء، وإلى وسائل إعلام. وعندئذ سنوفّر ملايين من فرص العمل الجديدة، بل وسنضطر إلى استيراد العمالة الخارجيّة بالتّدريج.
لكن هذا المشروع الحلم لن نستطيع تحقيقه بدون اقتباس أفضل وسائل الحكم في العالم. صحيح أنّنا مازلنا نتعثر في سنة أولى حضانة ديمقراطيّة. فالحكم المركزيّ في هذه المرحلة يمكن أن يكون مدمّرًا لأي خطط تنمية تحتاج إلى سرعة اتّخاذ القرار، والاستقلال نوعًا ما عن الحكومة المركزيّة في القاهرة، لتحقيق أفضل النّتائج.
الحلم هنا يتكوّن إذن من ثلاثة أجزاء: أوّلها اقتباس أساليب الحكم الحديثة. وثانيها تقسيم أراضي مصر الشّاسعة والخالية والمهملة إلى محافظات محدّدة بالسّنتيمتر، ولتكن مساحة كلّ محافظة جديدة ما بين خمسين كم طولًا في خمسين كم عرضًا، ومئة كم طولًا في مئة كم عرضًا. وبعدئذٍ نصمّم شبكة القطارات الفائقة السّرعة لربط مدن مصر الحديثة ومحافظاتها جميعًا بأحدث وسائل المواصلات العالميّة.
الشعب الجديد


Navigate through the articles
Previous article أين يختفى الرئيس؟ وماذا بعد مقاطعة جبهة الإنقاذ للانتخابات؟ Next article
التعليقات تخص صاحبها ولا تخص ادارة الموقع