يدرك القاصى والدانى أن الفساد فى مصر شاع واستفحل، خصوصا فى عهد النظام السابق، حتى طال كل شىء. غير أن ذيوع وانتشار الفساد على هذا النحو لا يعنى أبدا أن جميع مؤسسات الدولة المصرية أصبحت فاسدة، وفى حاجة إلى «تطهير»، وإنما يعنى أن ظاهرة الفساد بدأت تطول، بدرجات متفاوتة، أشخاصا وسياسات وممارسات فى جميع هذه المؤسسات، وأنها باتت فى حاجة ماسة إلى نوعين من المعالجات: معالجة عامة تبحث فى جذورها وأسباب تفشيها وسبل علاجها على مستوى الوطن والسياسات العامة، وأخرى خاصة تبحث فى مظاهر تغلغلها داخل قطاعات أو مؤسسات بعينها. غير أن واجب التصدى لهذه الظاهرة لا يمنح أحدا حق توجيه الاتهام إلى مؤسسة بعينها، خصوصا حين يتعلق الأمر بمؤسسة القضاء، أو أن يصفها بالفساد ويدعو إلى «تطهيرها».
تجدر الإشارة إلى أننا كنا قد أولينا فى هذه الزاوية عناية خاصة لمناقشة مختلف أنواع المشكلات التى تواجه مؤسسة القضاء فى مصر وتحد من دورها فى تحقيق العدالة، قبل وبعد الثورة، وأفردنا حيزا واسعا لمناقشة قضية استقلال القضاء من مختلف زواياها وأبعادها، ساهم فيه كبار رجال القضاء من مختلف المدارس، ولم أتردد شخصيا فى تكريس جانب من هذه المساحة لكشف بعض مظاهر الفساد، وصل الأمر إلى حد إقدامى على تسمية قاضٍ بعينه وتوجيه اتهام صريح بالعمل لحساب الأجهزة الأمنية، بل وقمت بنشر رقم اللوحة المعدنية للسيارة الخاصة المهداة إليه من أجهزة الأمن والمزودة بأطقم حراسة وسائقين، وحين انتظرت، دون جدوى، أن يرد أحد فى أجهزة الأمن أو مؤسسة القضاء، أو يستدعينى للتحقيق أو سماع الأقوال، تأكدت من سلامة الواقعة. ويدخل هذا النوع من الممارسة، فى تقديرى، فى نطاق النقد الموضوعى المباح والمطلوب، لأنه يستهدف المصلحة العامة، لا شىء سواها، وهو ما لا ينطبق أبدا على ما قامت به جماعة الإخوان حين أقدمت على تنظيم مظاهرة حاشدة أمام دار القضاء العالى، رفعت فيها شعارات لا تليق، كان شعار «تطهير القضاء» أكثرها احتشاما وتأدبا، كما لا ينطبق على رد فعل رئيس الدولة إزاء تلك التظاهرة، لأنه لم يرق أبدا إلى مستوى المسؤولية الملقاة على عاتقه.
لقد أساءت هذه التظاهرة إلى القضاء، أفرادا ومؤسسة، وجرحت كبرياءه، وأساءت إلى الرئيس، باعتباره رمزا لجميع مؤسسات الدولة، وليس رئيسا فقط للسلطة التنفيذية، وأساءت إلى حكومة يفترض أنها تحكم باسم الأغلبية، لكنها أساءت، بصفة خاصة، إلى جماعة الإخوان المسلمين أولا وقبل كل شىء، وأظهرتها بمظهر قوة غاشمة تفتقد إلى العقلانية وإلى الرشد، ويشى سلوكها بنوع من الطفولة السياسية وغياب النضج. لذا كنت آمل أن يقوم الرئيس بإدانة هذا السلوك صراحة، أو على الأقل، أن يوجه إليه انتقادات مباشرة وصريحة تؤكد عدم مباركته له، غير أن ما حدث كان العكس تماما.
فى إجابته على أسئلة وجهتها له السيدة خديجة بن قنة، فى حوار مطول أجرته معه لحساب قناة الجزيرة، وبثه العديد من القنوات المصرية، مساء أمس الأول، السبت، أكد الرئيس، فيما يتعلق بهذا الموضوع، مجموعة من النقاط يمكن تلخيصها على النحو التالى: 1- أن جماعة الإخوان المسلمين لم تستأذنه فى القيام بمظاهرة تطهير القضاء لأن حق التظاهر مكفول للجميع ولا يتطلب استئذان السلطة التنفيذية. 2- أنه يتخذ قراراته بشكل مستقل، ولا يلجأ إلى التشاور أو التنسيق المسبق مع مكتب الإرشاد. 3- أنه يوافق على تطهير القضاء، لكن مسؤولية القيام به تقع على عاتق مجلسه الأعلى. 4- من حق مجلس الشورى سن قانون بتخفيض سن إحالة القضاة للمعاش.
أما فهمى الشخصى لهذه الإجابة فكان على النحو التالى: 1- أن الأزمة بين السلطتين التنفيذية والتشريعية لاتزال محتدمة على أشدها، وأن جماعة الإخوان طرف أصيل فيها. 2- أن الرئيس ربما لم يبادر بنفسه بتحريض الجماعة على القيام بمظاهرة تطالب بتطهير القضاء، لكنه وافق عليها ضمنا بعدم الاعتراض. 3- أن هناك قرارا رئاسيا بتخفيض سن المعاش للقضاة، وأن مجلس الشورى هو أداة تنفيذ إرادة الرئيس. والخلاصة: أن السلطة التنفيذية تمارس ضغوطا هائلة على القضاء لتطويعه لإرادتها.
فى معركة بين سلطة تنفيذية تحاول تطويع سلطة القضاء لإرادتها لا مجال للحياد أبدا، لأن الانحياز لاستقلال القضاء واجب مقدس. لذا أطالب القضاة أولا بوحدة الصف، وأطالب الشعب ثانيا بالاصطفاف وراء القضاة فى معركة الدفاع عن استقلال القضاء، لأنها معركة الوطن كله.
المصري اليوم
Navigate through the articles | |
تشكيل إدارات محلية جديدة يشكل اختباراً للحكومة الصومالية | هل يوجد بديل سياسى جاهز؟ |
التعليقات تخص صاحبها ولا تخص ادارة الموقع
|