المقالات و التقارير > إثيوبيا تختبر صبر المصريين

إثيوبيا تختبر صبر المصريين

لا يجوز أن ندق طبول الحرب، ولكن لا ينبغى أن نستبعد أى احتمال، وعلينا أن نكون جاهزين لأى خيار قد تفرضه الظروف علينا، لأن ما أقدمت عليه الحكومة الإثيوبية يرقى إلى أن يكون عملاً عدائياً ضد مصر، يهدد بشكل لا لبس فيه وجود الشعب المصرى ذاته.
إن إثيوبيا لم تحتل جزءاً من التراب الوطنى المصرى، ولم تأت بتصرفات تهدد استقلال مصر، لكنها تبدو مقدمة على ما هو أخطر من كل ذلك، وعليها أن تعرف بوضوح وصراحة أن مياه النيل بالنسبة لشعب مصر هى قضية وجودية.
رغم الحرص والصبر الذى أبدته مصر خلال سنوات التفاوض المضنية مع دول حوض النيل، ورغم وسائل الابتزاز غير الأخلاقية التى استخدمها البعض، فإنه وفقاً لمعلوماتى التزم الفريق التفاوضى المصرى بحسن النية فى التفاوض حول الإطار القانونى لمبادرة حوض النيل، وتنازل فى موضوعات كثيرة كى يتحقق التوافق بين دول الحوض، برغبة حقيقية فى تحقيق وضع يربح فيه الجميع Win/Win Situation، أخذاً فى الاعتبار أن ما يتم استغلاله من مياه حوض النيل لا يزيد عن 5%، وأنه يمكن بالتعاون والإدارة الجيدة تعظيم الفائدة بشكل يعود بالنفع على كل شعوب دول الحوض.
وخلال سنوات التفاوض، كان الوفد المصرى يلاحظ المراوغات غير المفهومة التى كان وفد إثيوبيا يمارسها، وإن كان يسارع فى كل مرة بإبداء الرغبة فى التوصل إلى تفاهم جماعى، وكانت باقى الوفود تسرب إلى الوفد المصرى محاولات إثيوبية دؤوبة وغير مبررة لتخريب عملية التفاوض، وحض تلك الدول على عزل مصر والسودان، بحجة أن مصر تسعى للسيطرة على حوض نهر النيل لتحقيق مصالحها الذاتية، ولم تكن تلك الحجة حقيقية، بل إن وفد مصر كان مثالاً فى المرونة وبذل الجهد فى التوصل إلى صيغة توافقية.
أتذكر لقاء مع رئيس وزراء إثيوبيا الراحل مليس زيناوى فى مدينة ديربن بجنوب إفريقيا، دار فيه الحديث حول مفاوضات الإطار القانونى لمبادرة حوض النيل وضرورة حث الوفد الإثيوبى على إبداء بعض المرونة حتى يمكن إطلاق مشروعات التعاون التى ستكون إثيوبيا على رأس المستفيدين منها، ذكر زيناوى أنه يتفق تماماً مع ذلك، ويتفهم حقوق مصر التاريخية، ولكنه يريد حلاً أخلاقاً لمشكلة سياسية داخلية تتعلق بمأزق الإشارة فى الاتفاق إلى الاتفاقات السابقة، ورجا أن تعاونه مصر فى التوصل إلى صيغة تمكنه من تسويق الاتفاق فى بلاده، ولأن الوفد المصرى - كما قدمت - كان يتفاوض بحسن نية، فقد اجتهد ومعه ممثل البنك الدولى فى نحت اصطلاح « الأمن المائى « Water Security على اعتبار أنه صيغة مقبولة نتفادى الحساسيات الإثيوبية التى تتعلق بالاتفاقات السابقة، وتحافظ فى نفس الوقت على الحقوق التاريخية المكتسبة لكل من مصر والسودان، والتى تستند بشكل قوى إلى القانون والعرف الدوليين. وقد أبدت إثيوبيا فى البداية ترحيبها بذلك، خاصة أن باقى الوفود وجدته حلاً عبقرياً ونموذجياً، وتبادل الجميع التهنئة بقرب التوصل إلى لحظة التوقيع على الاتفاق، وساد التفاؤل فى كل العواصم بأنه أمكن اخيراً التوصل إلى وثيقة متوازنة تحقق لكل طرف مصالحه، لولا أن إثيوبيا، مرة أخرى، حاولت تفريغ هذا المفهوم من محتواه، ثم أصرت على مخالفة كل القواعد المتعارف عليها فيما يتعلق بالأخطار المسبقة، ثم أضافت التعنت فى فرض التصويت بالأغلبية بالمخالفة لنص وروح مبادرة حوض النيل، وبما يعنى وضع دولتى المصب «مصر والسودان» تحت سيطرة دول المنابع التى تمتلك الأغلبية.
وبالطبع كان لا يمكن لمصر قبول هذا الانتهاك الفاضح لنص وروح القانون الدولى الخاص بالمجارى المائية الدولية، فضلاً عن نص وروح مبادرة حوض النيل نفسها، فإذا بإثيوبيا تنشط فى عواصم دول الحوض كى تدفعها دفعاً للتوقيع على اتفاق لم يكتمل رغم اعتراض مصر والسودان. وأخيراً، بادرت إثيوبيا بهذا التحرك الأخير الذى يؤكد أنها لم تعد تبالى بالقانون الدولى أو بالعلاقات التاريخية التى تربطها بمصر، بل وتجرأ سفيرها فى القاهرة كى يلقى بتصريح غير دبلوماسى يقول فيه بأن إثيوبيا ماضية فى بناء سد النهضة «رضى من رضى، وأبى من أبى» ويبدو أنه لم يقرأ جيداً تاريخ الشعب المصرى، فهو شعب صبور متحضر وطيب متعاون، لكنه إذا غضب فلا حدود لثورته، وإذا تهدد وجوده فإنه يعرف جيداً كيف يحميه، وهو متوحد فى ذلك حكومة ومعارضة.

اليوم السابع


Navigate through the articles
Previous article هل يجف نهر النيل سد النهضة العظيم Next article
التعليقات تخص صاحبها ولا تخص ادارة الموقع