يطالب قطاع لا يستهان به من المصريين، ومنذ فترة ليست بالقصيرة، بإجراء انتخابات رئاسية مبكرة يرون فيها مخرجاً وحيداً لمصر من أزمتها السياسية الراهنة. غير أنه لا يمكن لهذا المطلب أن يشكل مخرجاً فعلياً إلا فى حالة واحدة فقط وهى اقتناع رئيس الدولة به، لأنه الشخص الوحيد الذى يستطيع أن يقرر إجراء انتخابات رئاسية مبكرة ولا يستطيع أحد أن يجبره على ذلك. ولأن رئيس الدولة مازال يرفض هذا المطلب بإصرار ويعتبره نوعاً من العبث، فقد كان من الطبيعى أن يتفتق ذهن الشباب الرافض للنظام الحالى عن فكرة بديلة قادرة على التشكيك فى شرعية النظام القائم.
وقد استندت هذه الفكرة إلى عملية حسابية بسيطة تقول إن الدكتور مرسى فاز فى الانتخابات الرئاسية الأخيرة بأصوات يقل عددها عن 14 مليون صوت من إجمالى الناخبين الذين تجاوز عددهم 50 مليون صوت، فإذا أمكن العثور على وسيلة لإثبات أن عدد الراغبين فى سحب الثقة من الرئيس المنتخب أصبح الآن يفوق عدد من صوتوا له فسوف يعد ذلك، من وجهة نظرهم، دليلاً قاطعاً على أن هذا الرئيس فقد شرعيته ولن يكون أمامه بالتالى سوى واحد من خيارين: تقديم استقالته أو اللجوء إلى انتخابات رئاسية مبكرة.
كان هذا هو ملخص الفكرة التى انبثقت منذ أسابيع فى أذهان بعض شباب حركة «كفاية» وشكلت الأساس الذى قامت عليه لاحقاً حركة «تمرد»، ورغم أن البعض تعامل مع هذه الفكرة فى البداية باعتبارها نوعاً من «الفانتازيا» أو تعبيراً عن «رومانسية ثورية»، واعتقد أن بريقها سرعان ما يخفت أو ينطفئ تماماً بمجرد ارتطامه بأرض الواقع، إلا أنه سرعان ما اكتشف أن تقديراته لم تكن فى محلها. فما أن انطلقت حملة جمع التوقيعات المطالبة بسحب الثقة من الدكتور مرسى حتى التف الناس حولها بطريقة مذهلة، وظهر واضحاً للكافة أن البيئة المحيطة ليست رافضة للفكرة وإنما حاضنة لها وأن المزاج السياسى العام فى مصر ليس معادياً لهذا النوع من الأفكار وإنما على العكس مهيأ تماما للتعامل الإيجابى معها. لذا لم يكن غريباً أن تلقى حركة «تمرد» ترحيباً واسعاً بمجرد ظهورها وأن تتمكن من ترسيخ قدميها بسرعة كحركة وطنية شبابية مستقلة عن كل الأحزاب والحركات السياسية القائمة، وأن تحظى بثقة وتأييد وحماس كل القوى الرافضة لهيمنة منفردة لجماعة الإخوان على مقاليد السلطة فى مصر، رغم اختلاف دوافعها.
ولأن النظام الحاكم فى مصر حالياً لا يختلف كثيراً عن نظام ما قبل ثورة يناير، من حيث جوهره الاستبدادى على الأقل، فقد كان من الطبيعى أن يصاب بالهلع من كثافة التأييد الشعبى الذى حظيت به حركة «تمرد». صحيح أنه لم يواجه هذه الحركة بأساليب القمع التقليدية، بالقبض على أعضائها والزج بهم فى السجون وتعذيبهم، مثلما حاول النظام السابق، على الرغم من أنه لم يتخل عن هذه الأساليب تماماً وربما يكون وراء التحريض على إحراق بعض مقارها، لكنه لجأ إلى ما هو أخطر ألا وهو العمل على تشكيل حركة مضادة أطلق عليها مؤسسوها حركة «تجرد» وقصر تشكيلها على فصائل تيار الإسلام السياسى دون غيرها من التيارات الأخرى. وتتمثل خطورة هذه الحركة فى أنها تزيد من حدة الاستقطاب القائم فى البلاد وتتصرف وكأنها مصممة على بقاء الحال على ما هو عليه حتى ولو كان الثمن إشعال حرب أهلية فى البلاد.
ليس لدى، كباحث، من الأدوات ما أستطيع الاستناد إليه لعقد مقارنة علمية بين حجم ما تتمتع به الحركتان من زخم شعبى، غير أن هناك شواهد كثيرة تدفعنى للتأكيد على أن التأييد الشعبى لحركة «تجرد» يقتصر على العناصر المنخرطة تنظيمياً فى بعض الأحزاب المنتمية إلى تيار الإسلام السياسى، وليس كلها. ولأن الأغلبية «الصامتة» من المصريين بدأت تدرك بوضوح ضحالة جماعة الإخوان المسلمين، ناهيك عن بقية الفصائل الأخرى المتحالفة معها، وعدم توافر كوادر وخبرات فنية لديها تؤهلها لإدارة شؤون الدولة والمجتمع فى مصر بما يتناسب مع توقعاتها عقب الثورة، أعتقد جازماً أن النسبة الأكبر من هذه «الأغلبية» بدأت تنصرف عنها وتفقد الثقة بها. صحيح أن رؤية «الأغلبية الصامتة» لمعظم رموز المعارضة الرسمية لم تتغير كثيراً، وبالتالى مازال يغلب عليها الطابع السلبى، غير أن ما يجمع بينها الآن هو كراهية حكم الإخوان، بصرف النظر عما يأتى بعده، مثلما كان عليه الحال مع مبارك ورموز نظامه قبل 25 يناير.
فى مصر الآن حركة شعبية واضحة تطالب بإسقاط النظام الحاكم وتنظم حملة لجمع توقيعات بسحب الثقة من رئيسه المنتخب، لكنها لا تكتفى بذلك وإنما تطالب الموقعين بالنزول إلى الشارع يوم 30 يونيو وربما بالبقاء فى ميدان التحرير والاعتصام هناك إلى أن يتم الاستجابة لمطالبهم، ومع ذلك فليس من الواضح بعد ما إذا كان هناك إجماع بين أنصار هذه الحركة حول شكل الخطوات التالية.
فى مقابل هذه الحركة «الشعبية» أو «المعارضة» توجد حركة أخرى لا أحد يعرف لماذا اختارت أن تستخدم نفس الأساليب والأدوات والآليات لدحض وإفساد ما تحاول الحركة الأخرى أن تثبته وليس حتى لطرح وجهة نظر مخالفة تخصها.
لو كانت حركة «تجرد» تثق بنفسها ولديها وجهة نظر فيما يجرى وتريد أن تعبر أو تدافع عنها، لكان عليها أن تطرح أفكاراً وأساليب مبتكرة لا أن تسرق أفكار الآخرين وأساليبهم أو تلعب على نفس ملعبهم وبنفس طريقتهم. ولو كانت هذه الحركة تملك قدراً من الحكمة، إن كان لزاماً عليها أن تستخدم نفس الأفكار والأساليب وأن تلعب على نفس الملعب، لكان عليها أن تختار يوماً آخر مختلفاً تستعرض فيه قوتها وعضلاتها. لذا فالأرجح أن يصب اختيارها لهذا الأسلوب لصالح حركة «تمرد» التى سيتعاطف معها الرأى العام بطريقة أكبر باعتبارها الضحية التى يصر الآخرون على استفزازها.
المشكلة الحقيقية ليست فى قيام حركة «تجرد» وإنما فى إفلاس نظام يشجع على مثل هذه التصرفات ويدعمها، ولأنه نظام ثبت حتى الآن أن قدراته تتجلى عند افتعال الأزمات وإشعال الحرائق والدخول فى مواجهات بأكثر مما تجلى فى الوقاية من الأزمات وتجنب وقوعها أو فى معالجتها بعد وقوعها، أعتقد أن عليه أن يفكر جدياً فى تغيير نهجه وسياساته. وأظن أن لدى الدكتور مرسى وسائل عديدة لتجنب صدام مروع بدأت مقدماته تلوح فى الأفق منذ الآن.
فبدلاً من تشجيع حركة «تجرد» على التصدى لحركة «تمرد» وردعها أو إلحاق الهزيمة بها أظن على الدكتور مرسى أن ينهى الحالة الاستقطابية الراهنة فوراً وأعتقد أن لديه فسحة من الوقت لتحقيق ذلك. فلماذا لا يقوم فوراً بالمبادرة بتكليف شخصية سياسية مستقلة ومحايدة تحظى بثقة الطرفين، بعد التشاور مع قوى المعارضة الرئيسية، بالتوسط والعمل على بلورة صفقة متكاملة يلتزم الطرفان سلفاً بقبولها شريطة أن تنتهى من مهمتها قبل يوم 30 يونيو المقبل بأسبوع على الأقل. أليس فى مصر رجل رشيد قادر على القيام بهذه المهمة النبيلة ويمكن أن يحظى باحترام الطرفين معاً؟ هل عقمت مصر؟
المصري اليوم
Navigate through the articles | |
الشاطر.. هل ينقذ مصر؟ | هل يجف نهر النيل |
التعليقات تخص صاحبها ولا تخص ادارة الموقع
|