بعد الحكم بإخلاء سبيل مبارك، ما
معنى حصيلة الفترة منذ اندلاع أحداث يناير 2011؟.. هل نحن فعلا الآن أمام «ثورة
مضادة» كاملة الجوانب؟ الحقيقة أن ما حدث فى 2011 كان إلى حد كبير صراعا داخل نظام
مبارك نفسه، بين مصالح «التيار الجديد»، الذى قاده رجال الأعمال فى حكومة «نظيف»،
بما جسده من تهديدات للدولة العميقة المثبتة عبر العقود، بسيطرتها على قطاع الإنتاج
ومنظومة المصالح الهائلة المرتبطة بالقطاع العام المتضخم، وبشبكة المحسوبيات
المتأصلة فى الريف، هذه تعود الآن كممثل ومنقذ لما تبقى من الكيان السياسى
والاجتماعى المصرى.
لقد كان من السهل التخلص من مجموعة رجال الأعمال فى حكومة «نظيف» باسم «الثورة»،
نتيجة عدم تجذرهم فى منظومة توازن القوى الداخلية، رغم أنهم كانوا ربما أنجح وأكفأ
عناصر نظام مبارك، فى نهاية عهده، فرغم سياساتهم الاقتصادية التى لم تهتم بمبدأ
العدالة الاجتماعية أو تُبَال بتداعيات ذلك اجتماعيا، ورغم مشروع التوريث المشؤوم
الذى ارتبطت به، فإن كل الأدلة تشير إلى أن هذه المجموعة - «نظيف ورشيد والمغربى»
إلخ... - أشرفت على طفرة اقتصادية حقيقية، ووضع اجتماعى متسامح ومنفتح نسبيا، بل إن
نجاحها أدى إلى تهديد مصالح الحرس القديم الذى أطاح بها بمساندة «ثورية».
أما بالنسبة لـ«الثوار»، فكان يسيراً تهميشهم، وتحضيرهم لما قد يحدث لهم فى المرحلة
المقبلة، لأنهم فشلوا فى طرح أى برنامج سياسى محدد، أو حتى عرض مطالب مختصرة وغير
متضاربة، ومسرودة بطريقة واضحة ومرتبة منطقيا، ومن حيث الأوليات فقد اختاروا النزول
فى جمعة تلو الأخرى، أثناء حكم المجلس العسكرى، بقيادة المشير طنطاوى، رافعين قائمة
مطالب طويلة ومذهلة فى تضاربها، معتقدين أن سلطة المجلس «الأبوية» هى التى من
المفروض أن تطهر النظام القضائى، وتفرض الحدين الأدنى والأقصى من الأجور، وتمهد
الطريق لنظام ديمقراطى تعددى، وذلك دون حتى أن يكون للثوار ممثلون معتمدون للتفاوض
مع المجلس، ورفضوا أى حلول وسط مثل مبادرة «السلمى» التى كانت تتضمن صفقة ضمان هوية
الدولة المدنية، مقابل ضمانات متواضعة نسبيا لوضع الجيش.. ربما هذه الأطروحات لم
تكن جدية، لكن لم يحاول الثوار حتى اختبار ذلك.
كانت النتيجة أن المجلس تحالف ضمنيا مع جماعة الإخوان، فصارت البلاد فى الطريق الذى
نعرفه.. مع ذلك، وقف الكثير من «الثوار» مع مرشح الإخوان، خلال الجولة الثانية من
الانتخابات الرئاسية، رغم أن ما كان مبيتا للمجتمع من قبل الإخوان واضح، منذ بدايات
مناقشات الدستور، قبل الانتخابات الرئاسية بكثير.. ليجنى الثوار فى النهاية معاملة
الإخوان لهم ولبقية المجتمع كأقليات قومية، ربما تضمن لها الأغلبية أدنى حقوق
البقاء كـ«فئات ثقافية محمية» فى أحسن الأحوال، دون إعطائها حق المشاركة فى صياغة
هوية البلاد السياسية والاجتماعية، كما تبين فى عملية «تقفيل» الدستور. ومن ثم كان
الطريق ممهدا لصدام جديد، اتخذته الدولة ذريعة للعودة فى ظروف تفكك مجتمعى بررت
عودتها فى صورتها الأقسى عنفا وقسوة، رافعة رايات وطنية مقنعة للكثيرين، تعبر عن
مسؤولية حماية الكيان المصرى.
بعد أن بدأ صدام الدولة والإخوان كان من السهل للدولة أن تستخدم الثوار قبل
تهميشهم.. فدخل الثوار فى صف الدولة، دون أن يكون لهم أى كيان سياسى فعال: بعد
سنتين ونصف كان الممثل الأساسى الوحيد الذى له ثقل هو الدكتور «البرادعى»، ذا
الموهبة السياسية المحدودة، والذى لم يتحمل العمل أو أن تكون له أى فرصة فى
التأثير، فى ظل أجواء صراعية طاحنة، ولم يكن لديه حتى تفويض واضح فى هذا الاتجاه.
المحصلة فى النهاية أن ما يعود الآن هو أكثر عناصر نظام مبارك رجعية وشراسة، بصرف
النظر عن عودة مبارك نفسه شبه طليق، لتدور الأحداث فى مصر حلقة كاملة.. وهذا وضع
يريح الكثير من المرتابين من انهيار الدولة، بصرف النظر عن رأى «الثورة» المتخبطة.
على ما تبقى من الأخيرة إذن، إذا كانت تريد إنقاذ بعض ما ثارت من أجله، مراجعة
نفسها ومواقفها الاندفاعية، التى عكست نرجسية وغراما غريبا بالمنظر «الثورى»، على
حساب اتخاذ مواقف منظمة، ما جعلها تقع فى كل خطأ ممكن. مطلوب مواقف وشخصيات مسؤولة
تأخذ فى الاعتبار خطورة المرحلة، التى صارت حرجة ومشبعة بعنف عارم، وسيل هائل من
الدماء، وعودة أقسى سمات دولة مبارك، مع خسارة أى مميزات، ولو محدودة، كانت تتسم
بها، مما يعبر عن فشل النخبة والسياسة والمجتمع ككل.
المصري اليوم
Navigate through the articles | |
هل زادت التعقيدات في مصر عقدة؟ | من يخذل مصر..؟! |
التعليقات تخص صاحبها ولا تخص ادارة الموقع
|