سوف يحاسب التاريخ الجيل الحالى فى مصر
حساباً عسيراً، لو قاد البلاد إلى إخفاق آخر يضاف إلى الإخفاقات التاريخية التى
جعلتنا بعد أكثر من قرنين من التحديث، والثورة والفورة، والحكم الملكى والجمهورى،
ننتهى إلى تلك الحالة من الحاجة والضعف، والترتيب المتأخر بين دول العالم. ومن يرد
حقاً التخلص من النظام السابق أو ذلك الأسبق، فإن عليه التخلص من أوضاع مرعبة فى
تخلفها. فالمصيبة الكبرى أن معدل تراجعنا أصبح متسارعاً، ولم يعد هناك من اهتمام
اقتصادى سواء من الدارسين أو من السياسيين إلا بحالة الفقر فى البلاد، أو الحديث
الذى لا ينقطع عن سوء توزيع الثروة بين المواطنين. أما خلق الثروة والاستخدام الجيد
للأرصدة الاقتصادية المتاحة، أو للفرص المطروحة، فإنها لم تعد مصدراً لاهتمام أحد.
وباختصار فإن التأكيد على «صيانة الفقر» واستخدام الوسائل من دعم وحد أدنى للأجور
لكى تكون الصيانة ذات كفاءة عالية لم يعد مفيداً. وبصراحة، فإن هذه السياسات فشلت
عبر عصور متنوعة، اختلفت فى القول والشعارات، ولكن الجوهر فى المؤسسات والسياسات،
ظل على حاله. والحقيقة المرة هى أن الأرقام تقول أمرين يثيران السخرية: إن الأغنياء
يستفيدون من الدعم أكثر من الفقراء، وإنه رغم الزيادة فى الدعم فإن الفقر ازداد فى
مصر.
فخلال ربع القرن الأخير، فإن قصة الفقر- مقدراً بدولارين فى اليوم- فى مصر أظهرت
تناقصاً سريعاً فى حالة الفقر، ثم بعد ذلك عادت سريعاً إلى حالها. وفى عام ١٩٩٠ فإن
نسبة الفقراء فى مصر بلغت ٢٤.٣٪، وفى ١٩٩٥ هبطت إلى ١٩.٨٪، وفى عام ٢٠٠٠ وصلت إلى
أدنى معدلاتها حيث باتت ١٦.٧٪ لكى تقفز بعد ذلك فى ٢٠٠٤ إلى ٢٠.٢٪ ثم إلى ٢١.٨٪ فى
٢٠٠٩. ومن المقدر، وفقاً لتصريحات رسمية، أن نسبة الفقراء فى مصر الآن فى عام ٢٠١٣
عادت إلى ما كانت عليه فى عام ١٩٩٠ أو ٢٥٪ تقريباً. لاحظ هنا أن عدد سكان مصر فى
عام ١٩٩٠كان أقل من ٦٠ مليون نسمة، أما الآن، فقد تجاوزت مصر ٨٥ مليون نسمة غير ٨
ملايين يعيشون فى الخارج. هذه النسبة لا تعكس خللاً فى توزيع الثروة بين أغنياء
وفقراء على مستوى الدولة، وإنما هى تظهر خللاً فاضحاً فى التوزيع الإقليمى للفقر،
حيث يعيش ٦١.٢٪ من الفقراء فى جنوب مصر، و٦٦٪ من المعدمين الذين يعيشون على أقل من
دولار واحد فى اليوم و٩٥٪ من المهمشين الذين لا توجد حسابات أو إحصائيات دقيقة
عنهم.
الغريب أن هذه الحالة من الفقر، وسوء التوزيع الإقليمى له قد جرت، بينما تنفق
الدولة ٢٥٪ من موازنتها السنوية على الدعم، وهى نسبة أعلى بكثير من دول نامية أخرى،
حيث تنفق إندونيسيا ١٨٪، وتونس ١٦٪، وجنوب أفريقيا ٣٪، وكولومبيا ٥٪، وكرواتيا ٦٪.
وكنسبة من الناتج المحلى الإجمالى فإن مصر تنفق ٩.٥٪ من ناتجها، مقابل ٨.٥٪ فى
ألمانيا، و٧.٢٪ فى فرنسا، و٦.٥٪ لإيطاليا، وتركيا ٥.٣٪. هذا الكم الذى يجرى إنفاقه
فى مصر ليس موزعاً بأى قدر من العدالة، فالمستورون الذين يعيشون فى القاهرة والدلتا
ومدن قناة السويس يحصلون على قدر أعلى من هذا الدعم أكثر مما يحصل عليه الصعيد
والمحافظات الحدودية. وبالأرقام فإن الـ٢٠٪ الأعلى دخلاً من السكان يحصلون على ٢٤٪
من دعم الغذاء و٣٤٪ من دعم الطاقة، بينما يحصل الـ٢٠٪ الأدنى دخلاً على ١٧٪ و١٣٪
على التوالى. ومرة أخرى فإن سوء توزيع الدعم لا يعود إلى الدخل أو الطبقة
الاجتماعية، بقدر ما يعود إلى أقاليم الدولة الأوفر أو الأقل حظاً من التنمية أو
تلك التى نمت فيها الطبقة الوسطى وتلك التى لم تحصل على نفس النصيب أو هاجرت إلى
الشمال أو الخارج. فالحقيقة هى أن مصر فى كلياتها قد غذت توسعاً فى الطبقة الوسطى،
وتحول الاقتصاد المصرى من اقتصاد «ريعى صرف» يقوم على مصادر النفط وقناة السويس
والسياحة وتحويلات العاملين فى الخارج إلى اقتصاد متنوع يشمل الصناعة والزراعة
والخدمات خلال العقد الأول من القرن الواحد والعشرين، حتى بلغ متوسط دخل الفرد
مقوماً بالقدرة الشرائية للدولار إلى ٥٦٨٠ دولاراً فى عام ٢٠٠٩. وطبقاً لمؤشر
«جينى» فإن مصر اعتبرت من الدول المتوسطة فى توزيع الثروة بين الأغنياء والفقراء،
حيث بلغ مؤشرها ٣٢.١ فى ٢٠١٠ مقارناً بمقدار ٥٧.٨٪ لجنوب أفريقيا، و٤٠.٩ للمغرب،
و٣٩.٤ لإندونيسيا، و٤١.٥ للصين الشيوعية، و٣٨.٣ لإيران الإسلامية، و٤٣.٣ لفنزويلا
البترولية.
ما تحقق رغم أنه كان أقل بكثير مما حققته، وأنجزته أمم أخرى، وقع تحت تأثير ثورة ٢٣
يوليو التى جعلت الدعم واحداً من أهم رموز العدل الاجتماعى فى مصر. وعندما جاءت
ثورتا يناير ويونيو، فإن الحوارات الدائرة فى الدولة رفعت هى الأخرى شعار العدالة
الاجتماعية بنفس الجوهر القائم، على أن تعمل الدولة على زيادة الدعم بنفس المعنى
الذى كان سائداً فى كل النظم السابقة التى جاءت الثورات للإطاحة بها، أى إعطاء
الأغنياء أكثر من الفقراء، والشمال أكثر من الجنوب. والغريب أن كثيراً مما ذكر من
قبل لم يكن شائعاً فى أجهزة الإعلام، وكانت الحكومات خائفة من فقدان التأييد
السياسى. ورغم المناقشات الحامية الوطيس بين الأطراف السياسية فى مصر فإن موضوعات
الفقر والدعم والثروة لم تلق اهتماماً يذكر يتعدى الحديث عن العدالة الاجتماعية.
المرجح إذن أنه رغم الحديث عن الإطاحة بالنظام القديم فإن ما كان سوف يظل معنا
لفترة مقبلة، وربما يكون من الحكمة العمل على التقليل من تبعاته والفاقد منه وعدم
العدالة فيه، وذلك أن نطبق الدعم بطريقة ذكية، بحيث تحفز عملية التنمية من ناحية،
وتؤدى إلى « تخريج» الفقراء من الفقر. وبدلا من التفاخر بحجم الدعم، أو التباكى على
ما يتم إنفاقه لصيانة الفقراء، فربما تقاس كفاءة الحكومات التى جاءت بعد الإطاحة
بالنظم القديمة بالقدر الذى تخرج فيه المصريين من دائرة الفقر. فلا تكافأ الحكومة،
لأنها زادت من عدد البطاقات التموينية، وإنما تكافأ لأن هناك عدداً أكبر من السكان
لم يعودوا فى حاجة إليها.
مثل ذلك يمكن أن يحدث بثلاث طرق: واحدة أن يعطى الدعم فى شكل نقدى أكثر منه فى شكل
عينى. مثل ذلك يمكن أن يحدث فى الخدمات المدعومة، مثل التعليم والصحة والمواصلات.
مثل ذلك لابد أن يرتبط بالتوسع فى استخدام مؤسسات القطاع الخاص التى يلجأ إليها
المواطنون للحصول على خدمات أرقى. مثل ذلك سوف يؤدى إلى توسيع السوق وزيادة معدلات
النمو، حينما يصير القطاع الخاص مهيأ للتعامل مع عدد أكبر من المستهلكين.
والثانية أن تقدم الحكومة من الدعم للجنوب أكثر من الشمال لفترة زمنية لا تقل عن
عقدين حتى لا يختل ميزان العدل. المحافظات الحدودية فى سيناء والصحراء الغربية ربما
يكون حل معضلتها له علاقة بحقوق الملكية أكثر منه توزيع الثروة، ولكن هذه قصة أخرى.
والثالثة أن استراتيجية «التخرج» للفقراء هذه كأساس للحكم على الحكومات يجب أن تمتد
لكى يشمل الأقاليم أيضاً. شفافية المعلومات هنا مطلوبة الإذاعة والشيوع، بحيث تكون
المسألة ليس المدى الذى تستطيع فيه مصر صيانة الفقر والتعايش معه، ولكن كيف لها أن
تخلق الثروة التى تكفل التنمية المتكافئة للجميع.
المصري اليوم
Navigate through the articles | |
السياحة تستغيث يا دكتور ببلاوى | رجال الدين الصوماليون يدينون أفعال الشباب ويرسمون مساراً جديداً ضد التطرف |
التعليقات تخص صاحبها ولا تخص ادارة الموقع
|